د. أحمد سيد أحمد كشفت أزمة كورونا عن هشاشة النظام العالمي السائد منذ نهاية الحرب الباردة وتهاويه في مقابل الحاجة لتشكيل نظام عالمي جديد لمواجهة التحديات المتزايدة التي تهدد البشرية. ف أزمة كورونا تعد أكبر تحد يواجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وتتجاوز بكثير أزمات وباء أمراض مثل سارس وإنفلونزا الخنازير وغيرها، سواء في عدد ضحاياه التي يشهد منحناها ارتفاعًا رهيبًا كل يوم وبشكل ضخم ومخيف، سواء في عدد الوفيات أو الإصابات، واتساع رقعته لتضرب العالم كله، إضافة لتداعياته الاقتصادية الضخمة؛ حيث بات العالم في حالة من الشلل نظرًا لتراجع الحركة التجارية وتوقف حركة السفر والطيران بين الدول وانهيار قطاعات السياحة في العديد من الدول، إضافة إلى تهاوي أسعار النفط لأرقام قياسية، كما ينذر كورونا بكوارث اقتصادية كبيرة، مثل فقدان ملايين الوظائف وارتفاع قياسي في معدلات البطالة، مع احتمالات حدوث أزمة غذاء عالمية، رغم اتفاق مجموعة العشرين على ضخ 5 تريليونات دولار في الاقتصاد العالمي. انكشف النظام العالمي الحالي في شقه الاقتصادي المتمثل في عجز المؤسسات الاقتصادية الدولية الكبرى الناتجة عن اتفاقية بريتون وودز مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والجات وغيرها، والتي فشلت في مواجهة التداعيات الاقتصادية ل أزمة كورونا ، كما أن السياسات النيوليبرالية والعولمة الاقتصادية السائدة منذ نهاية الحرب الباردة زادت من حدة الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، كما زادت من حدة الفجوة داخل الدولة الواحدة، ولذلك فإن النظام العالمي الجديد ما بعد كورونا سيكون له ملامح مختلفة خاصة فيما يتعلق بالاتجاه نحو المركزية الاقتصادية للدولة بعد فشل العولمة والشركات متعددة الجنسية في النظام الاقتصادي القائم، كما ستتراجع مفهوم التكتلات الاقتصادية الكبرى لمصلحة تزايد النزعة الوطنية والانكفاء على الداخل بعد فشل الاتحاد الأوروبي في تبنى سياسات صحية وطبية موحدة لمواجهة كورونا وفى مساعدة الدول الأكثر تضررا مثل إيطاليا وإسبانيا، ووصل الأمر إلى أن رئيس صربيا اعتبر أن الاتحاد الأوروبي وهم كبير. على المستوى السياسي انكشف النظام الدولي الحالي في هشاشة القوى العظمى مثل الولاياتالمتحدة والدول المتقدمة الأخرى مثل بريطانياوإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وغيرها، والتي عجزت أنظمتها الصحية عن وقف تمدد وانتشار الفيروس، وكشفت أزمة كورونا عن غياب مفهوم التضامن الجماعي الدولي والأنانية الوطنية للدول الكبرى، خاصة أمريكا التي لم تقدم المساعدة للدول الحليفة الأوروبية، وكذلك لم تساعد الدول الفقيرة والنامية في إفريقيا وآسيا في مواجهة كورونا. ولذلك فإن النظام العالمي الجديد سيؤدى إلى بزوغ قوى دولية جديدة مثل الصين وروسيا ولن تصبح الولاياتالمتحدة منفردة بالأحادية القطبية السائدة منذ سنوات. فمقومات القوة الشاملة للدول الكبرى لم تعد فقط المقومات الاقتصادية والاقتصادية والعسكرية والقوة الناعمة، بل أيضا القوة الصحية والبحثية والإمكانات الطبية القادرة على مواجهة الأوبئة العالمية. كما كشفت أزمة كورونا عن فشل نظام الأمن الجماعي الدولي الذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية الوارد في ميثاق الأممالمتحدة والمتجسد في دور مجلس الأمن في حفظ السلم والأمن الدوليين، حيث ركز على مواجهة المصادر العسكرية لتهديد السلم الدولي، رغم فشله من الناحية العملية، مثل الحروب بين الدول والحروب الأهلية داخل الدول والإرهاب والانتشار النووي، وتجاهل المصادر غير التقليدية لتهديد السلم الدولي مثل الأوبئة العالمية مثل كورونا والتي باتت ضحاياها البشرية وتداعياتها الاقتصادية تفوق ضحايا وتداعيات الحروب، ولذلك هناك حاجة لإعادة نظر في منظومة الأممالمتحدة والتعجيل بإصلاح شامل لها خاصة مجلس الأمن الدولي ليكون قادرًا على مواجهة تلك التهديدات الجديدة خاصة فيما يتعلق بتطوير منظومة للأمن الصحي الجماعي، يقوم على دعم منظمة الصحة العالمية ماليا في إجراء الأبحاث العلمية لابتكار الأمصال واللقاحات للأمراض المختلفة وزيادة نسبة قطاع الصحة في ميزانيات الدول خاصة فيما يتعلق بالاهتمام بتطوير وتوفير المستشفيات والاهتمام بالقطاع الطبي من أطباء وممرضين باعتبارهم خط الدفاع الأول في مواجهة تلك التهديدات. إضافة إلى التعامل بجدية مع التغيرات المناخية وتأثيراتها السلبية والتي تنذر بكوارث بيئية حيث إن مواجهة تلك التأثيرات تحتاج إلى التعاون الدولي في تقليل الانبعاثات الحرارية وأن تتحمل الدول الكبرى، خاصة الولاياتالمتحدة، مسئولياتها في مواجهة تلك التأثيرات. كورونا كشفت الغطاء عن عورات وثغرات النظام الدولي الحالي وأثبتت أن الإنفاق العسكري العالمي والذي يصل لتريليونات الدولارات لم يمكن الدول الكبرى من حماية مواطنيها، وحماية السلم والأمن الدوليين، وأن هناك حاجة ضرورية لإقامة نظام عالمي جديد يقوم على إعادة ترتيب أولويات الإنفاق العالمي، فبدلا من سباق التسلح المحمود بين الدول الكبرى مثل أمريكا وروسيا والصين، من الضروري إعادة توجيه الموارد المالية والاقتصادية صوب الإنفاق على الصحة والرعاية الطبية، وكذلك الحفاظ على البيئة والبحث العلمي، كما تبرز أهمية تعزيز العمل الجماعي الدولي والتنسيق في مواجهة التهديدات الكوكبية، وتطوير آليات ومنظمات جديدة للتعامل بفاعلية مع تلك التهديدات. ولذلك فإن عالم ما بعد كورونا لن يكون مثل عالم ما قبل كورونا التي دقت جرس الإنذار للبشرية كلها، وعليها أن تستجيب وتنتبه قبل فوات الأوان وتتفاقم التداعيات والتأثيرات ويصعب السيطرة عليها.