لم تنفع صلابة الرأس والتكبر على طلب المساعدة. فآخر ما كان يتوقعه الأيرلنديون هو اضطرارهم إلى قبول المساعدة من الاتحاد الأوروبي. وتدافع الأوروبيون لإنقاذ معجزتهم الاقتصادية من الانهيار. وأصر البنك وصندوق النقد الدوليين على خطط إنقاذ تهددهم بالبطالة عن العمل، وتغرقهم في الديون لعقود طويلة قادمة. وعندئذ، اكتشف الأيرلنديون أنهم كانوا يعيشون داخل فقاعة اقتصادية. وبدأت التساؤلات. ما الذي حدث؟ تجربة فريدة جمعت لها دار نشر "بلاكهول" الأيرلندية 15 سياسيا واقتصاديا وباحثا أكاديميا، لإعادة اكتشاف تجربة أيرلندا في النهوض الاقتصادي والسياسي. مناسبة التجربة، التي وضعت خلاصتها في كتاب يحمل عنوان "فيما نجحنا: رؤى عالمية للمعجزة الأيرلندية"، هى حالة الحيرة بسبب إخفاق الجمهورية الأيرلندية حتى الآن في الإفلات من الأزمة المالية والاقتصادية الحالية. والسؤال الكبير في الجمهورية التي توصف بأنها "النمر السيلتيكي (الأيرلندي)": كيف يمكن لهذا النمر، الذي هو نموذج للنهوض الشامل أن يكون من بين آخر الأوروبيين المتعافين من الأزمة العالمية؟ في أكثر من موضع من الكتاب، الذي حصلت "بوابة الأهرام" على نسخة منه قبل طرحه بالأسواق أواخر الشهر الحالي، بدا واضحا حجم الإحباط الذي يشعر به الأيرلنديون إزاء أوضاعهم الحالية. يقول مايكل سوليفان وروري ميللر، محررا الكتاب إن هدفهما هو محاولة فهم كيفية إلهام عملية إصلاح وتغيير أيرلندا وتحويلها إلى "دولة نموذج" الكثير من دول العالم الأخرى، وكيف يمكن للأيرلنديين أن يستفيدوا من تجارب الآخرين لمواجهة الأزمة. تستند المحاولة على قاعدة يجمع عليها المشاركون فيها. وهى: تغيير أيرلندا العظيم خلال العشرين عاما الأخيرة كانت أحد أكثر حالات الصعود والنمو المثيرة للاهتمام في مجال الاقتصاد السياسي. غير أن تعثر ومعاناة الاقتصاد الأيرلندي وانكماشه أثناء الأزمة المالية العالمية وبعد ظهور بوادر انفراجها، يثير تساؤلات حول مدى رسوخ وجدوى المعجزة الأيرلندية. يبدأ الكتاب بسرد حقائق شكلت الأساس الاقتصادي والسياسي لهذه المعجزة. فمنذ إنشائها في العشرينيات من القرن الماضي، كانت الجمهورية الأيرلندية إحدى أفقر دول أوروبا حتى أواخر القرن وأوائل القرن الحادي والعشرين. البداية كانت أزمة اقتصادية داخلية طاحنة بلغت الذروة عام 1986. أثمرت الأزمة سلسلة مبادرات للمراجعة والإصلاح. وجرى التنفيذ على مرحلتين. أولاها الانطلاق، واستندت بشكل أساسي على استثمارات ضختها الشركات المتعددة الجنسيات الأجنبية والتحسين الدائم لمناخ الاستثمار. ومع بلوغ عام 1996 قفز الاستثمارات الأجنبية المباشرة من 2.6 مليار دولار أمريكي إلى 26.9 مليار دولار أمريكي عام 2003. وهنا لعبت الولاياتالمتحدة دورا غير عادي وحاسم، إذ تجاوزت استثماراتها المباشرة ضعفي ونصف ضعف استثماراتها في الصين خلال تلك الفترة. وأحد أسباب ذلك هو دور أيرلندا الكبير الذي ساعد الأمريكيين كثيرا في إبرام اتفاق الجمعة الحزينة للسلام في أيرلندا الشمالي عام 1989، فضلا عن دور اللوبي الأيرلندي المعروف في أمريكا. وأهم محصلات هذه المرحلة هي: نهوض القطاع الصناعي الموجه للتصدير القائم على التكنولوجيا وتطوير المهارات. ووفق الأرقام، فإن 13 من بين أكبر 15 شركة دواء في العالم أنشأت لها فروع كبرى في أيرلندا، كما أن ستة من بين عشرة أكثر الأدوية مبيعا في العالم تصنع في أيرلندا. وكانت الأراضي الأيرلندية موطنا لسبع من كبرى شركات تكنولوجيا الاتصال والمعلومات العالمية مثل آي بي إم، وإنتيل، ودل، وأوراكل، وميكروسوفت. وبلغت قيمة صادرات هذه الشركات، من أيرلندا، 21 مليار يورو، ووصل عدد العاملين الأيرلنديين فيها 45 ألف شخص. المرحلة الثانية اعتمدت على الزيادة في فرص العمل ووفرة الأموال، فضلا عن التفاؤل الناتج عن المرحلة الأولى. وأهم سماتها فورة في الاقتصاد المحلي وخاصة في قطاع العقارات والإعمار، مدعوما بانخفاض أسعار الفائدة ويسر الإجراءات الائتمانية. وفق المشاركين في الكتاب، فإنه في المرحلتين، تحملت الدولة مسئولية كبيرة في تطوير نظام التعليم وزيادة القوى العاملة التي تجيد اللغة الإنجليزية، ودفع النمو في سوق الائتمان وتشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في إطار الانفتاح الاقتصادي، والواقعية البرجماتية في صنع السياسات. على الصعيد الخارجي، تلقت أيرلندا قوة دفع بعد انتخابها عضوا غير دائم العضوية لمدة عامين في مجلس الأمن الدولي (عام 2000)، ثم رئاستها للاتحاد الأوروبي عام 2004، إلى جانب سمعة أيرلندا كخبير في تسوية النزاعات (والمقصود هو صراع أيرلندا الشمالية). ويؤكد محررا الكتاب أن هذه العوامل غيرت صورة البلاد في الساحة الدولية. غير أن بعض المشاركين في الكتاب، مثل أماليا فوجارو، المستشار الاقتصادي في بنك رومانيا المركزي، ودانا دينيس سميث، مدير شركة ماركرجلوبال المتخصصة في استشارات مواجهة المخاطر، فإنهما تريان أنه بدون الإرادة الداخلية لم يكن من الممكن تحقيق النهوض. ويشيران إلى حرص الحكومة الأيرلندية على اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة فيما يتعلق بالإصلاح الاقتصادي، وتأكيد ضرورة استفادة جميع الأيرلنديين من مكاسب الإصلاح والنهوض. وتشير فوجارو وسميث إلى انتباه الحكومة الأيرلندية إلى تشديد الرقابة على السلطات المحلية في تصميم وتنفيذ وإعداد عقود المشروعات ثم تقييم جدواها. ففيما أخطأت أيرلندا -إذن-، حتى تظل، رغم تجربتها الناجحة، تعاني الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية، بدلا من أن تكون أول الناجين منها؟ يرى بعض المشاركين أن التجرية الأيرلندية اتسمت، في بعض جوانبها، بالسلبية ما جعل أقرب ما تكون إلى "فقاعة اقتصادية قبيحة، فوضوية ومدمرة". وأهم الأخطاء التي أدت إلى ذلك عدم التوزان بين متطلبات الاندماج في الاقتصاد العالمي وضرورات تحصين الاقتصاد المحلي. وهنا تأتي أهمية مساهمة ليمنغ وانغ مدير المعهد الأيرلندي للدراسات الصينية في يونيفيرستي كوليدج دبلن، وتشانغ ليو المحاضر في الاقتصاد الدولي في جامعة نونتجهام نينغبو في الصين، وفرانسيس كين المحاضر في المعهد الأيرلندي للدراسات الصينية في يونيفيرستي كوليدج دبلن. فأيرلندا لم تنتبه إلى ضرورة ضبط التدفق المالي المتزايد ونظام الأقراض، ما أدى إلى نمو مفرط وغير واقعى في أسواق العقارات وارتفاع كبير في التضخم. وكان يفترض، حسب هؤلاء الخبراء، أن تعمل أيرلندا على ان يكون الاقتصاد أكثر توزانا لا يندفع إلى النمو المحموم الضار. الخطأ الآخر الذي ينصح المشاركون في تقويم التجربة الأيرلندية هو الإخفاق في "عمل توليفة منسجمة بين الأصول الاقتصادية المحلية بالشروط الدولية، وابتكار أشكال من الوقاية تحمي الاقتصاد المحلي من الآثار الجانبية السلبية لقوى السوق الدولية كأسعار الفائدة العالمية والتدفقات الرأسمالية". الاستسلام للشعور بالنجاح والرضا كانا أحد الأخطاء الكبرى. فالمؤسسات القوية، التي هى أهم دعائم الاقتصاد القوى والحياة العامة الصحية، لم تخضع للمتابعة والمراجعة والإصلاح والتجديد بشكل دائم، خاصة في سنوات الاذهار الأخيرة. وعلى الرغم من أن التجرية الأيرلندية تبرهن، كما يشير الكتاب، على صدق حكمة التاريخ التي تقول إن الدول والاقتصادات تخرج من الأزمات وهى أقوى إذا انتهجت الإصلاح الجاد، وكيّفت نفسها مع النظام العالمي الجديد، فإنه يحذر من الغرور. فمبجرد أن تصبح أي دولة محط إعجاب الآخرين باعتبارها نموذجا، فإن الفخر والغرور الاقتصادي يبلغان الذورة وتصبح الدولة عرضة لخطر الرضا بما هو قائم.