بعد أن كانت دولة معوقة اقتصاديا أصبحت ايرلندا في السنوات الأخيرة معجزة اقتصادية تنظر إليها الدول الأوروبية الأخري بحسد فقد تحولت في مدي جيل واحد من بلد رث الثياب لتصبح ثاني أغني دولة من حيث المتوسط السنوي لدخل الفرد علي مستوي الاتحاد الأوروبي كله. وتقول مجلة "فورتشن" إن الجميع يريد معرفة سر معجزة هذا النمر السلتي "نسبة إلي السلالة السلتية التي ينحدر منها سكان ايرلندا الحاليون" ويبحثون إمكانية استنساخه! ويبدو أن الإيرلنديين أنفسهم غير متفقين علي أساب معجزتهم الاقتصادية وأنهم أيضا يبحثون عن أفضل الطرق لاستمرارها دون أفول.. فهناك من يري أن هذه المعجزة غير قابلة للاستمرار طويلا لأنه يعزوها في الأساس إلي العوامل السكانية "الديموجرافية".. وهناك من يري أن زيارة الباب جون بول الثاني لايرلندا عام 1979 هي التي بعثت فيها روح العصر.. وهناك حتي من يعزو هذه المعجزة إلي فرق موسيقي الروك الناجحة التي تغص بها ايرلندا! ولكن جون فيتز جيرالد الأستاذ في المعهد الايرلندي للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية يري أن معجزة ايرلندا لها مكونات كثيرة أهمها ما تحصل عليه من معونات من الاتحاد الأوروبي، وانخفاض ضرائب الشركات، ونجاح هيئة التنمية الايرلندية في جذب الشركات العالمية للاستثمار في ايرلندا والاستفادة من انخفاض ضرائبها، وقابلية نظام التعليم لتخريج أيد عاملة مدربة مناسبة لاقتصاد المعرفة ويمكن أن نضيف أيضا أنه ليس صدفة أن حدث النجاح الايرلندي في ظل ظروف توسع اقتصادي عالمي قوي. ومع ذلك فإن النظرة المدققة قد تفند كل هذه الأسباب.. فنهضة ايرلندا لم تبدأ إلا في التسعينيات بينما هي تحصل علي أموال الاتحاد الأوروبي منذ اكتسابها عضويته في سبعينيات القرن الماضي إلي جانب أن إيطاليا تحصل من الاتحاد الأوروبي علي أموال تفوق كثيرا ما تحصل عليه ايرلندا ومع ذلك فالاقتصاد الإيطالي يتعثر. وفيما يخص انخفاض الضرائب علي الشركات فعلنا نذكر أنه لم تكن هناك في الستينيات أية ضرائب علي معظم الشركات الايرلندية المصدرة ومع ذلك دخلت ايرلندا فترة ركود طويلة ولذلك يمكن اعتبار خفض ضرائب الشركات إلي 12.5% فقط في التسعينيات مجرد عنصر لكنه ليس العنصر الحاسم. وفيما يخص الاستثمار الأجنبي يكفي أن نذكر أن قوة العمل الايرلندية بمقدار 500 ألف شخص منذ عام 1990 حتي الاَن وأن الشركات الأجنبية لم توظف سوي 10% فقط منهم "ملحوظة: تعداد ايرلندا كله 4 ملايين نسمة" وفيما يخص نظام التعليم فإن جعل التعليم الثانوي مجانا زاد من عدد خريجي الجامعات ولكن 40 ألفا من هؤلاء الخريجين هاجروا من ايرلندا منذ عام 1989 حتي الاَن لأنهم لا يجدون فرص عمل في بلدهم. وتقول مجلة "فورتشن" ربما كان الحظ هو السبب في نهضة ايرلندا وهذا فيما يعتقد يبدو صحيحا من حيث التوقيت فحسب.. ذلك التوقيت "التسعينيات" الذي تحولت فيه قطة نائمة إلي نمر يزأر.. وربما كان لانتشار وسائل منع الحمل دور في نهضة ايرلندا.. فهذه الوسائل بدأ تداولها في السبعينيات برغم معارضة كنيسة الروم الكاثوليك. وفي مقال نشر عام 2003 يقول أستاذا علوم السكان في جامعة هارفارد ديفيد بلوم وديفيد كانينج أن هذا أدي إلي انخفاض معدل الخصوبة بسرعة من 22 في الألف في الثمانينيات ليصبح 13 في الألف فقط في عام 1994. ومعني ذلك أن كل عامل أصبح يعول 1.5 طفل أو صاحب معاش ايرلندي بعد أن كانت نسبة الاعتمادية عاملا لكل 2.3 طفل أو صاحب معاش في عام 1985. ولاشك أن هذا الانخفاض الشديد في الزيادة السكانية كانت له نتائج اقتصادية مهمة وعلي سبيل المثال فإن معدل الزيادة في المتوسط السنوي لدخل الفرد الايرلندي لم تتجاوز ال 3.5% من عام 1960 حتي عام 1990 أما بعد عام 1990 فقد قفزت الزيادة السنوية في دخل الفرد إلي 5.8% سنويا وهي أعلي من أي نسبة مماثلة في كل دول الاتحاد الأوروبي. وقد شهدت التسعينيات أيضا عودة الطيور الايرلندية المهاجرة مسلحة بما اكتسبته من خبرة في وادي السيليكون الأمريكي لتضيف إلي اقتصاد بلدها الكثير.. ولكن بلوم وكانينج يريان أيضا أن العوامل الديموجرافية ليست وحدها العامل الحاسم في النهضة الايرلندية ويقدر أن ثلث هذه النهضة فقط يرجع إلي تلك العوامل الديموجرافية. ويبقي السؤال المهم وهو: إلي أي مدي يمكن أن يستمر هدير النمر الايرلندي؟ هناك من يري من واقع خبرة التاريخ أن المعجزة الايرلندية لن تستمر طويلا وأن علي ايرلندا أن تستعد للمفاجاَت.. ويقول واحد من هؤلاء إن ارتفاع تكاليف العمالة يهدد هذه المعجزة فأجر العامل الايرلندي في منتصف التسعينيات كان أقل الأجور في دول الاتحاد الأوروبي، أما الاَن فإنه أصبح من أعلاها.. وهذا يؤثر سلبيا في قدرة الاقتصاد الايرلندي علي جذب الشركات العالمية والاحتفاظ بها وهذه الشركات مسئولة عن 87% من صادرات ايرلندا للأسواق الخارجية بل إن شركة واحدة هي ديل كمبيوتر مسئولة عن 5.5% من صادرات ايرلندا وعن 2% من إجمالي ناتجها المحلي.. وهناك عامل اَخر مهم في النهضة الايرلندية هو فقاعة الممتلكات التي تعد مسئولة عن نحو نصف رأس المال المستثمر في ايرلندا في السنوات الأخيرة وهي مسئولة أيضا عن زيادة إنفاق المستهلكين وتعليمهم أو تعويدهم علي الاقتراض من أجل الشراء. وأيا كان الأمر فإن جون فيتز جيرالد يري أن المعجزة الايرلندية يمكن أن تستمر حتي عام 2025 معتمدة علي العوامل الديموجرافية التي تشمل معدلات الخصوبة والوفيات والهجرة وقوة العمل وأن هذه فسحة كافية من الوقت أمام السلطات الايرلندية المسئولة لكي تضع السياسات الضرورية لبقاء هذه المعجزة علي قيد الحياة لعدة عقود أخري قادمة.