خلال ستة أسابيع فقط زار الهند كل من الرئيس الامريكي جورج بوش والرئيس الفرنسي شيراك والملك عبدالله بن عبدالعزيز عاهل السعودية ورئيس الوزراء الاسترالي جون هوارد إلي جانب الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون الذي يتردد علي الهند كثيرا منذ اعتزاله.. وخلال منتدي دافوس الأخير في يناير الماضي كانت الهند هي الدولة التي يحتفي بها الجميع. وتمثل الهند بالنسبة للعالم قصة نمو جديدة وربما أيضا حاجزا أمام الصين التي تتقدم لتتبوأ مكانها كقوة عظمي في عالم الغد القريب.. وإذا كان العالم يعرف ماذا يريد من الهند فإن السؤال هو: هل تعرف الهند ما تريده من العالم؟! تقول مجلة "نيوزويك" إن تسويق التجربة الهندية لن يكفي فيه الشعارات بل لابد أن يكون وراء هذه الشعارات شيء ملموس يمكن الامساك به.. والحقيقة أن الهند كانت عبر الخمسة عشر عاما الأخيرة ثاني دول العالم الأسرع نموا بعد الصين حيث كان متوسط نموها لا يقل عن 6% سنويا خلال تلك الفترة، وفي العام الماضي بلغ معدل النمو الهندي 5.7% وهو نفس المعدل المتوقع تحقيقه خلال العام الحالي، بل يتوقع كثيرون أن يكون هذا هو معدل نموها السنوي علي الأقل طوال السنوات العشر القادمة. وفي حين كبرت الصين بالفعل حيث كانت تنمو بمعدل 10% سنويا في المتوسط منذ عام 1980 حتي الاَن فإن الهند لاتزال حكاية مستقبلية ولكنها في نفس الوقت احتمال قابل للتحقق، وفي دراسة اعدتها جولدمان ساكس عام 2003 حول مستقبل الهند في السنوات الخمسين القادمة تبين أن الهند ستكون أسرع بلاد العالم نموا وستتفوق في ذلك حتي علي الصين. وقالت الدراسة إن الاقتصاد الهندي سيكون في غضون عشر سنوات أكبر من الاقتصاد الإيطالي وبعدها بخمس سنوات أخري سيتفوق علي الاقتصاد البريطاني وبحلول عام 2040 ستصبح الهند ثالث أكبر اقتصاد في العالم أما في عام 2050 فسيصبح اقتصادها خمسة أضعاف الاقتصاد الياباني وسيصبح معدل دخل الفرد فيها 35 ضعف ما هو عليه الاَن. وبغض النظر عن هذه الاَفاق المستقبلية العالمية فإن ما يحدث في الهند الاَن بالفعل مدهش فشركاتها تنمو بسرعة غير عادية وتحقق أرباحا سنوية 15 و20 و25% دون أية مبالغة، فشركة تاتا جروب هي كبري شركات الهند وهي عملاق متعدد الأنشطة يعمل في كل شماء من السيارات إلي الصلب والبرمجيات والأنظمة الاستشارية.. وهي نموذج لما ستصبح عليه الهند في عصر ما بعد الصناعة. وقد زادت إيراداتها في العام الماضي من 17 مليار دولار لتصبح 24 مليارا وستحقق نموا قويا اَخر هذا العام 2006. وعلي الجانب الاَخر فإن صناعة مكونات السيارات تتكون من مئات الشركات الصغيرة ومنذ خمس سنوات فقط كانت إيرادات هذه الصناعة لا تتجاوز ال4 مليارات دولار سنويا ولكنها ستزيد هذا العام علي ال10 مليارات دولار وفي عام 2008 وحده سوف تستورد جنرال موتورز من الهند ما قيمته مليار دولار من مكونات السيارات. ومن المؤكد أن الهند سوف تستفيد فائدة عظمي من العولمة شأنها في ذلك شأن الولاياتالمتحدة خصوصا خلال العشرين سنة الأخيرة، فتسارع العولمة في العقدين الأخيرين أفاد الاقتصاد الأمريكي وهو الاَن يعمل لصالح الأسواق الناشئة بشكل أخص. وإذا كنا نتحدث عن المعجزة الهندية القادمة فإن من يزور الهند حاليا سوف يستنكر احتمال أن تحقق الهند معجزة رغم ما تعانيه من مشاكل ضعف البنية الأساسية في المطارات والطرق والعشوائيات والقري التي تعيش في فقر شديد. ولكن هذا الاستنكار لن يخفي أن الهند صار لديها أيضا العديد من أودية السيليكون. إن الهند فيها الفقر وفيها احتمالات التقدم المستقبلي.. ففي الهند 300 مليون نسمة يعيش الفرد منهم علي أقل من دولار يوميا وفي الهند أيضا 40% من فقراء العالم وثاني أكبر عدد للمصابين بمرض الإيدز في العالم. ولكن هذه هي هند الفقر والمرض، أما هند المستقبل فهي تحتوي إلي جانب ذلك كله قوة التغيير السريع الذي تلحظه في كل مكان. وتقول مجلة "نيوزويك" إنه ما من رجل أعمال غربي يزور الهند إلا ويكتشف أنها ستكون الصين القادمة ولكنها بالطبع لن تكرر التجربة الصينية بحذافيرها فالصين تنمو لأن فيها حكومة قوية والحكومة هي التي تقرر أن يكون لديها مطارات جديدة وطرق سريعة 8 حارات ومناطق صناعية حرة وهي التي تجتذب الشركات العالمية وتعطيها التصاريح والتسهيلات في أيام وهذا هو ما صنع أنجح تجربة تنمية اقتصادية في التاريخ الإنساني. أما الهند فإن نموها يتسم بالفوضي والتشوش وعدم التخطيط إلي درجة كبيرة.. إنه نمو من أسفل إلي أعلي وليس كالنمو الصيني من أعلي إلي أسفل إنه يحدث ليس لأن الحكومة تريد ذلك وإنما يحدث رغما عن الحكومة في كثير من الأحيان.. فالهند بلد ديمقراطي ليس فيه حكومة بقوة الحكومة الصينية ولكن الهند بالمقابل فيها عدد هائل من المنظمين الراغبين في صنع المال.. وحالما يجدون الطريق إليه فإنهم يتخطون العقبات ويتجاوزون البيروقراطية.. ويعبر عن هذا الحال جورتشاران داز الرئيس التنفيذي لشركة بروكتر اند جامبل في الهند قائلا: إن الحكومة تنام بالليل ولكن الاقتصاد ينمو! وهناك من يري أن الطريق الهندي به مزايا لا تتوافر للنموذج الصيني. فالشركات الهندية في رأي البعض تستخدم رأسمالها بشكل أكفأ من الشركات الصينية. وتلتزم بالمواصفات القياسية العالمية وتدار علي نحو أفضل من شركات الصين. ورغم أن الهند أفقر كثيرا من الصين إلا أنها أنجبت شركات عالمية مثل انفوسيز ورانباكس وريليانس وهذا يرجع إلي أن الهند بها قطاع خاص عميق الجذور "بعكس الصين ذات الشركات الحكومية" ولديها نظام مالي نظيف وجيد التنظيم وتحترم سيادة القانون ولذلك لم يكن غريبا أن تحصل الشركات الهندية علي جوائز يابانية في الابتكار الإداري في السنوات الأربع الأخيرة أكثر مما حصلت عليه شركات أية دولة أخري بما في ذلك شركات اليابان نفسها. وتقول الأرقام أيضا إن الفرد في الهند سيد نفسه وأن صناعة مثل بطاقات الائتمان تنمو بمعدل 35% سنويا وأن الإنفاق الفردي يمثل 67% من إجمالي الناتج المحلي وهي نسبة أعلي من الصين 42% ومن أية دولة اَسيوية أخري ولا تفوقها سوي الولاياتالمتحدة 70% ولكن الأرقام علي أية حال ليست هي كل شيء وأهم منها أن روح الأمة الهندية قد أصبحت مشحونة بالرغبة في الانتقال من القديم إلي الجديد.