ما هذا الذي يجري في تونس الخضراء؟! إنه زلزال يتعدي درجات مقياس "ريختر"، سيهز أموراً كثيرة كانت تعتبر في عداد "الثوابت" السياسية والاقتصادية والاجتماعية حتي أيام معدودات، لكن "الانتفاضة" الشعبية التونسية وضعتها كلها موضع التساؤل وإعادة النظر. والسؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه بشدة، إزاء هذه "الانتفاضة الزلزال" هو: لماذا اندلعت هذه "الثورة" في بلد استطاع أن يحقق "معجزة اقتصادية" وفق الأرقام الرسمية التي دأب نظام الحكم ورئيسه زين العابدين بن علي علي الترويج لها عبر 23 عاماً متصلة، كما دأبت المنظمات والهيئات الدولية ذات السمعة والصيت علي أن تشدد عليها في تقاريرها التي لها شنة ورنة؟! فمنذ أحد عشر يوماً فقط، وبالتحديد في 6 يناير الجاري احتفلت وسائل إعلام الرئيس "السابق" زين العابدين بن علي بلقب "الأولي عربياً في جودة الحياة" الذي حصلت عليه تونس للسنة الثالثة علي التوالي، متصدرة الدول العربية علي مستوي عودة الحياة لسنة 2011 برصيد 60 نقطة. أما من الذي منح تونس هذا اللقب فهو تقرير تصدره سنوياً مجلة اسمها "انترناشونال ليفينج". أين تصدر هذه المجلة؟ في أيرلندا.. وهي متخصصة في سياحة المتقاعدين.. ومع ذلك احتفلت بها وسائل الإعلام التونسية الرسمية التي أكدت أن "هذا التصنيف المتقدم جاء بعد أن سجلت خلال السنوات الأخيرة تطورا مهما في مؤشرات جودة الحياة حيث تضاعف معدل الدخل الفردي السنوي ليرتفع إلي 5 آلاف دولار، وتوسعت الطبقة الوسطي لتشمل 80% من المجتمع، كما نزلت نسبة الفقر إلي 8.3%، كما تتمتع البلاد باستقرار اجتماعي واقتصادي غير مسبوق في الكثير من أرجاء العالم النامي". هذه الكلمات ظلت تتردد إلي الأسبوع الأول من هذا الشهر وقبل أن يجف المداد الذي كتبت به رأينا حقيقة "الاستقرار الاجتماعي" الذي تتشدق به!! ولم تكن الجريدة الأيرلندية المجهولة هي المصدر الوحيد لثقة النظام الحاكم في تونس.. بل إن أهم المنظمات الدولية قدمت له شهادات حسن السير والسلوك مراراً وتكراراً. وكان آخر هذه الشهادات دراسة للبنك الدولي ظهرت إلي النور يوم 4 يناير الجاري، أي منذ أقل من أسبوعين فقط، أكدت أن "تونس أصبحت منذ أواخر التسعينيات من أبرز الاقتصادات في إفريقيا من حيث القدرة التنافسية".. وتعهد البنك الدولي في هذه الدراسة ب "مساندة نموذج النمو الذي اختارته تونس والذي يستند إلي الابتكار". جدير بالذكر أن التقرير العالمي السنوي لمنتدي دافوس الاقتصادي لعام 2008 2009 حول التنافسية الاقتصادية وضع تونس في المرتبة الأولي مغاربياً وإفريقياً والرابعة في العالم العربي. والأمر المؤكد أن تونس قد أحرزت تقدماً اقتصادياً ملحوظاً في ظل حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي.. لكن هذا "التقدم" لم يكن فوق مستوي الجدال.. بل إنه كان "تقدماً" مشوهاً ومقترناً بنقاط ضعف خطيرة. ولم تكن هذه النقائص سرية، بل إن هناك مراجع تونسية نبهت إليها منذ سنوات، لكن نظام حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي قام بتسفيهها، بل "عقاب" من سولت لهم أنفسهم دق أجراس التنبيه. فنجد مثلاً تقريراً بالغ الأهمية لجريدة "صوت الشعب" التونسية في عددها رقم 240 في أكتوبر 2005 بعنوان "مأزق الاقتصاد التونسي" يحذر من عجز نظام بن علي عن مواجهة الانعكاسات الاجتماعية لاختياراته الاقتصادية الرجعية. ومن أهم هذه الانعكاسات تفشي البطالة بما في ذلك في صفوف أصحاب الشهادات العليا. إضافة إلي التحذير من تداعيات الزيادات المتكررة في أسعار مواد عديدة خصوصاً الطاقة. كما تدهورت القيمة الشرائية للمواطنين بشكل ملحوظ ومس هذا التدهور كل الفئات الاجتماعية، وخاصة الفقيرة منها، واضطرت بعض العائلات في المناطق الأكثر فقراً في المناطق الغربية للبلاد إلي البحث عن موارد عيش بأي شكل