المهندسة ماريان عوض، فتاة الثلاثين التي لقبت ب"فراشة المسيح" من فرط حركتها وحيويتها، اللذين كانا سببًا قويا في ترقيتها وتقلدها مناصب عدة، وهي أيضًا الحسناء التي اختبرتها الظروف فرسبت كل المعوقات أمام إرادتها، حين قررت تحويل المحنة إلى منحة ربانية تستوجب الشكر والتصالح مع كرسي متحرك تدين له بالفضل وتعتبره قدمين بديلتين حتى آخر العمر. 35 عامًا، هي عمرها، تخرجت في المدارس الفرنسية لتلتحق بكلية الهندسة، وتحقق حلم أبيها الذي كان يحلم يقظًا بأن يراها دومًا في الصفوف الأولى لرائدات النساء. "تخرجت في الجامعة وتوجهت لسوق العمل مباشرة، وتم قبولي في كبرى شركات الاتصالات الدولية"-حسب ماريان التي تؤكد أن عشقها للحياة العملية وانطلاق طموحها لأبعد الحدود جعلها تتقدم من يكبرونها سنًا في حصاد الترقيات وهي في سن صغيرة. ماريان عوض تمارس عملها "مرحة، تعشق السفر والترحال، عنيدة، مغامرة، نشيطة، طليقة اللسان، طموحة، تجيد فن التعامل مع الآخر" صفات تحدثت عنها الأم التي شاركتنا الحديث وهي تعلم تمام اليقين أن ابنتها "سوبر وومن"- على حد وصفها- وأنها قادرة على قهر أي عقبات تقف حائلًا أمام مستقبلها. خرجت "فراشة المسيح" كما يلقبها أقرانها، في رحلة سفاري من رفيقاتها في عطلة نهاية عام 2016، متجهة نحو الساحل الشمالي، حيث كان موعدها مع الأقدار التي قضت باصطدام سيارتهم التي كانت تقل 3 فتيات وأم صديقتها، لينقلب الضحك والنكات فجأة لحالة هلع وصراخ ودماء وجرحى ووفيات ومصابات. "صدمتنا سيارة من الخلف، على أثرها توفت والدة صديقتي وتلقيت أنا إصابة من الخلف، أدت لكسور متفرقة، فضلًا عن كسور العمود الفقري وإصابة الحبل الشوكي".. تأخذ ماريان نفسًا عميقًا في محاولة لنسيان ذلك المشهد المخيف لتستكمل حديثها: عملت لأكثر من 12 عامًا، كانت حياتي كلها حيوية وحركة ولم أتخيل للحظة أن أصبح جثة هامدة على فراش العجز. ماريان مع والدتها "لا أمل في الشفاء"- حقيقة صادمة، تلقتها ماريان من الأطباء المتخصصين، الذين أكدوا لها أن حالتها معقدة للغاية وأنها لن تستطيع الوقوف على قدميها مرة أخرى. تتابع الفتاة: أعيش مع أبي وأمي وحرفيًا كنت "ايدهم ورجلهم" كانوا يعتمدون عليّ بشكل كلي، وتأكيدات الأطباء أدخلتني في انهيار عصبي خوفًا على أبواي وعلى مستقبلي، وأن الحالة تزداد سوءًا رغم إجراء جراحات متعددة. 1/ سبتمبر/ 2016، يوم تغيير المصير، في حياة الفراشة، التي أصيبت بشلل تام بدءًا من منطقة الصدر وحتى أطراف القدم. تيأس الفتاة ويبدأ دور الأم التي تنجح في إقناع ابنتها التي أصبحت جثة هامدة على سرير المرض، بالسفر لألمانيا واستكمال رحلة العلاج. "لم يخب دعاء أمي وتحسنت حالتي بشكل ملحوظ أذهل الأطباء في ألمانيا، واستطعت بفضل جراحات دقيقة، الجلوس على كرسٍ متحرك وهو ما كان يعتبره الأطباء دربًا من المستحيل"- ما قالته ماريان. "الجلوس على كرسي متحرك كان أقصى طموح الأطباء"- واقع أليم جعلني انخرط في عزلة تامة وأعود للاكتئاب مجددًا وأرفض حتى فتح نافذة غرفتي كما رفضت استقبال الأقارب والمقربين، عندها فطن أبي أنني احتاج لعلاج نفسي وتأهيل داخلي للخروج من تلك الشرنقة- حسب إضافة الفتاة. ماريان مع أصدقائها بعد شهور قلائل نجحت العقاقير النفسية في شفاء ماريان ليبدأ دور الأصدقاء.." أقنعوني أصحابي بضرورة العمل، كما وقفت الشركة مشكورة بجانبي وتحملت فترة انقطاعي دون التلويح بضيق، وهو ما جعلني أعيد التفكير في الأمر". كيف تعود الفراشة لعملها على كرسي متحرك؟- سؤال كان يراود المهندسة الشابة التي رأت أنها من الممكن تسيير عملها من البيت عبر التعامل مع الإنترنت حيث بدأت بالفعل استئناف مهامها وتحقيق إنجازات متكررة ومواصلة الترقيات،من غرفتها وعندها نصحها الأصدقاء مرة أخرى بالتوجه لمقر الشركة. صديقات ماريان لعبن دورًا بطوليًا.."أهلي تعبوا وصحباتي هلكوا كلام وعصبية مني وطرد أحيانًا لكن في النهاية نجحوا في اقناعي بالنزول للشركة، والحمد لله ألف مرة إني اقتنعت، روحي رجعت برجوع لشغلي، لدي رغبة في المقاومة والخروج والفسح، محاطة بأهل وأصحاب كنز، ليه أخيب رجاءهم وليه محاولش أعافر". ماريان وفريق العمل بعد الحادث تطيل ماريان الحديث عن مواقف صديقاتها: "كانوا عارفين كل متطلباتي واحتياجاتي، ساعدوني بكل الطرق، وبالتدريج قدرت أتعامل وأحب الكرسي وأتصالح معاه وأعتبره روحًا طيبة بتحاول تساعدني. تؤكد ماريان، أن هناك تطورًا ملحوظًا في حالتها بعد ترقيتها في العمل ووصولها لمنصب مديرة قطاع الخدمات، بكبرى شركات الاتصالات الدولية، وهو ما دفعها للعودة ك "فراشة" حتى بعد توقف جناحيها. "نظرات الشفقة، المصمصة، ياعيني يا بنتي، يا خسارة الحلو ما يكملش" أحاديث الطيبين الموجعة بدون عمد منهم، كانت تصيبني بالحزن في البداية لكني كنت استقبلها تباعًا بابتسامة وكلمة شكر. ما الذي تغير في شخصية ماريان بعد الحادث؟- سؤال أجابته: "أنا كما أنا ولكن تكشفت أمامي الكثير من الحقائق، صدمت في مقربين وأذهلني موقف الغرباء، الأصيل ظهر وقليل الوفاء كمان، اتعلمت أن الإنسان جواه قوة وطاقة هايلة كامنة لا يشعر بها إلا عند الشدة، وجدت في نفسي قدرات وإمكانات أدهشتني ولم أكن أتخيلها". "أغلب مرضى كسور العمود الفقري والحبل الشوكي حبيسو البيوت لا يرون النور"معلومة أضافتها ماريان لتوضح أن المجتمع غير مهيئ لخروجهم سواء في الطرق أو المواصلات العامة أو الأماكن أو المقار الحكومية أو حتى فرص العمل وهو ما يسبب ضغط نفسي يضاف لضغط المرض وتكاليف علاجه. ماريان عوض عن أصعب المواقف التي يتعرض لها مريض الحبل الشوكي تقول ماريان، رأيت بعيني أحد المرضى كان ينتظر أحد أقاربه في الشارع واذا به يصرخ "أنا مش شحات يا ناس أنا مستني صاحبي" بعد أن وضع أحد المارة في يده بعض الجنيهات ظنًا منه أن المريض متسول. تنتقد الفتاة ثقافة المجتمع ومشيرةً إلى أن نظرته لمستخدمي الكراسي المتحركة محدودة مقصورة على نظرات الشفقة فقط وتتابع .."أتمنى الأخذ في الاعتبار معاقي الحركة الذين يمثلون 10% من إجمالي الأصحاء، بتمهيد الطرق والمنازل للكراسي المتحركة، إحنا بنعمل ألف حساب قبل الخروج لأي مكان، يا ترى المكان فيه أسانسير واسع وحمامات تستوعب الكرسي، طب في كم سلم هطلعها وازاي وتعدية الطريق والأنفاق والمصالح الحكومية اللي طردانا من حساباتها. "قرح الفراش، صعوبة الإخراج بنوعية، مشاكل في العظم، صعوبة الحركة، النوم في وضع واحد، آلام مبرحة، أمراض متعددة تصيب كل أجهزة الجسم، أمراض نفسية"- أوجاع يعانيها مريض الحبل الشوكي تحتاج لمساندة كل أجهزة الدولة لتذليل عقبات الحياة وتوفير فرصة عمل على الأقل- من وجهة نظر الفتاة. بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، شهد عام 2016،14710 حادث مروري، نتج عنها5343 متوفيًا، و18646 مصابًا، و21089 مركبة تالفة وهو ما دفع ماريان لتقول:" السواقة في مصر تحتاج إعادة تربية والقوانين والعقوبات الخاصة بالقيادة تستحق الإعدام، وللأسف مازال البعض يعتبرون حوادث الطرق مجرد قضاء وقدر. لم تكتف ماريان بالعود للحياة وهزيمة المرض والإصابة فحسب أو حتى النجاح الشخصي، لذا ذهبت للعمل التطوعي بتكريث صفحتها الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي لتثقيف مرضى الحبل الشوكي بحقيقة المرض وتبعاته وكيفية التغلب على أوجاعه فضلا عن توجيه زيارات تثقيفية لحديثي المرض. "سعيدة بكل اللي حصلي وتحت أمر أي مريض مش فاهم مرضه أو مش عارف يروح فين ويتوجه لمين، مستعدة أروح لحد بيوتهم جميعًا أنا وأهلي وأشرح كل التفاصيل"- قالتها مريان. تتفهم الحسناء التي حظيت بقسطٍ وافر من الجمال، أن فرصها في الارتباط باتت شبه معدومة بسبب الإصابة ولكن الأمر لم يعد يشغلها بل وتلتمس العذر لثقافة الكثير من الأسر التي لا ترجح الارتباط بفتاة تجلس على كرسي متحرك وتلفت..سايبه الأمر لله وعايشه حياتي ويكفيني حب أهلي وأصحابي. تختتم ماريان حديثها بابتسامة لم تفارق بشرتها الوردية ولا كرسيها المتحرك.."ظروفك كلمة مريحة نفسية لكل إنسان حابب يعلق فشله على شماعة.. مع كل ظروف حلول وبدائل.. مفيش إنسان عاجز طول ما عنده إرادة ورغبة في المقاومة.. اليأس كلمة محذوفة في قاموس التحدي"- كلمات وجهتها فتاة العمل التطوعي، للأصحاء والمصابين، علّها تكون سببًا في بدايات جديدة تهزم اليأس ويستحي منها العجز.