يعد الروائي الراحل نجيب محفوظ، الذي تحل اليوم 30 من أغسطس ذكرى رحيله ال11، رمزًا، ليس للأدب المصري وحده، لكن للأدب العربي كذلك، بما حققه من نقلة في مجال كتابة الرواية، وبما حققه بعد ذلك من انتشار للأدبين المصري والعربي على المستوى العالمي بعد حصوله على الجائزة الأرفع في مجال الأدب، جائزة نوبل. وفيما تهتم الدراسات به كأديب، يبدو أنها تغفل جانبًا يستحق التوقف من حياة صاحب نوبل، هو علاقته بالسينما. لا يتوقف الأمر على أعمال نجيب محفوظ التي كانت مادة مهمة للسينما خلال فترة الستينيات فحسب، وإنما يمتد كذلك إلى كون نجيب محفوظ أحد كتاب السيناريو الذين قدموا أعمالًا، رغم تفاوتها من حيث الجودة، فإن بعضها ظل محفورًا في ذاكرة الجمهور المصري والعربي. بدأت علاقة نجيب محفوظ مع السينما، حسبما روى في أكثر من موضع، أبرزها "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، مع الناقد الراحل رجاء النقاش، في الخامسة من عمره، حين اعتاد زيارة سينما "الكلوب المصري" التي تعرض الأفلام الصامتة، حيث أدمن نجيب محفوظ هذا الفن الذي سحره كطفل. ويروي صاحب "ثلاثية القاهرة" أن دور السينما بعد ذلك كانت تعرض الأفلام المترجمة بعرض الترجمة على شريط مجاور لشاشة العرض، وكان على المتفرجين أن يتابعوا الوسيطين سويًا، وكثيرًا ما انقلبت الترجمة رأسًا على عقب في الشريط الموازي للشاشة، عندئذ يصرخ المتفرجون "اعدل"، مخاطبين موظف العرض، الذي سرعان ما يستجيب لعرضهم فيعدل وضعية الترجمة. أما علاقة نجيب محفوظ بالسينما كسيناريست فبدأت عام 1947 حين أبلغه أحد أصدقائه برغبة المخرج الراحل صلاح أبو سيف في لقائه ليتعاونا سويًا في كتابة السيناريو. ورغم "المبلغ المحترم" الذي وعد صلاح أبو سيف نجيب محفوظ به فإنه رفض، مبررًا رفضه بأنه يفهم الأدب، ولكن لا علاقة بالسينما. بعد لقاء محفوظ بأبي سيف أقنعه الأخير بأن يعد سيناريو لفيلم "مغامرات عنتر وعبلة"، وبالفعل كتب محفوظ السيناريو الذي جاء مبهرًا حسب رأي أبي سيف، وعرض الفيلم بعدها بعام، في عام 1948، من إنتاج شركة "النيل"، وقام ببطولته كل من: سراج منير، كوكا، زكي طليمات، استيفان روستي. مائة جنيه مصري، أجر السيناريست نجيب محفوظ عن فيلم "مغامرات عنتر وعبلة" كان مبلغًا ضخمًا للغاية آنذاك، شبهه محفوظ ب"ظهور النفط في بلاد الخليج"، بخاصة أنه لم يكن يحلم بأن يحصل على نصف المبلغ فقط نظير كتابته الرواية ولو بعد سنوات طويلة. "تعودت في الأدب أن أكون أنا كل شيء في العمل، أمضي بأحداثي وشخصياتي طبقًا لرؤيتي الخاصة، ودون تدخل من أحد، أما السينما فهي عمل جماعي لا تستطيع أن تنفرد فيه بالقرار". كان هذا هو موقف نجيب محفوظ من العمل بالسينما التي فرضت عليه قيودًا عديدة، بدءًا من رؤية المخرج، مرورًا بحجم الممثلين من حيث الشهرة، إلى جانب غيرها من الأمور المادية، لكن "حلاوة المقابل المادي" جعلت محفوظ يتغاضى عن هذه العقبات، ليصبح الأمر حرفة تدر دخلًا ماديًا، أو كما وصف نفسه "صنايعي". استمرت رحلة نجيب محفوظ في العمل في السينما حتى 1959 حيث اختاره الراحل ثروت عكاشة، وزير الثقافة آنذاك، ليشغل منصب الرقيب، عندئذ قرر محفوظ التوقف عن العمل بالسينما منعًا للمجاملات، على حد وصفه. وخلال هذه السنوات كتب صاحب "أولاد حارتنا" عددًا من سيناريوهات الأفلام التي احتفظت بقدر كبير من الشهرة حتى الآن، من بينها: "ريا وسكينة"، و"إحنا التلامذة". عرض "ريا وسكينة" عام 1953، وأخرجه صلاح أبو سيف، من بطولة: أنور وجدي، نجمة إبراهيم، وزوزو حمدي. وكان أنور وجدي آنذاك هو فتى الشاشة الأول، نال إعجاب المشاهدين بعد فترة غير طويلة من ظهوره، الأمر الذي جعل نجاح الفيلم شبه مؤكد. وفي "إحنا التلامذة"، الذي عرض عام 1959 وأخرجه عاطف سالم، بطولة: شكري سرحان، يوسف فخر الدين، وعمر الشريف، حاول محفوظ تقديم رؤية اجتماعية، مع مراعاة عدم احتمال السينما لعمق الرؤية التي تقدمها الرواية. وكان محفوظ قد تعاون مع المخرج الراحل عاطف سالم عام 1949، بعد تقديم نفسه في "مغامرات عنتر وعبلة"، وذلك في فيلم "جعلوني مجرمًا" بطولة الفنان الراحل فريد شوقي، وهو الفيلم الاجتماعي الذي ساهم في تغيير القانون الخاص بصحيفة الحالة الجنائية بعد التركيز على البعد الاجتماعي في تكوين شخصية المجرم. كذلك كتب نجيب محفوظ القصة السينمائية لعدد من الأفلام التي ما زالت محتفظة برونقها حتى اليوم، منها: "بين السما والأرض"، من إخراج صلاح أبو سيف، وبطولة عدد من النجوم من بينهم: هند رستم، عبد السلام النابلسي، ومحمود المليجي، وهو الفيلم الذي عرض لأول مرة عام 1959، وتدور غالبية أحداثه في مصعد يتعطل بين طابقين في عمارة سكنية، مقدمًا عدة نماذج من الشخصيات تقدم نفسها في إطار طريف. شارك محفوظ كذلك في كتابة سيناريو فيلم "الناصر صلاح الدين"، مع كل من: المخرج الراحل يوسف شاهين، عز الدين ذو الفقار، ومحمد عبد الجواد. وأثار الفيلم بعد ذلك جدلًا كبيرًا، بعد أن اتهمه كثيرون بأنه صنع خصيصًا للترويج لزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأنه لوى عنق التاريخ ليطابق بين شخصية السلطان الراحل والرئيس ذي الإيديولوجية القومية. وكان محفوظ قد كتب بعد ذلك مقالًا، نشر في كتاب "حول الثقافة والتعليم"، تناول فيه إشكالية صناعة الأفلام التاريخية، وأشار إلى أن المقبل على إنتاج فيلم تاريخي أمامه الطريقان: الأول هو الالتزام بالأحداث التاريخية بتفاصيلها، والثاني هو أن يتخذ من التاريخ قالبًا لعمله الفني دون التزام بالحدث. أبرز الأعمال التي قدمها نجيب محفوظ للسينما جاءت في تعاونه مع يوسف شاهين، حين قدما "الاختيار" المأخوذ عن قصة محفوظ، والذي شارك أيضًا في كتابته سينمائيًا، ويحفل الفيلم، حسب رأي عدد من النقاد السينمائيين، برؤية نفسية وفلسفية عميقة تختلف عن غيرها من الأفلام، وساهم في إبرازها جنوح شاهين آنذاك نحو الغوص داخل شخصياته والتعبير عن هواجسها ونقائصها. الاختيار تم عرضه لأول مرة عام 1970، بطولة: عزت العلايلي، سعاد حسني، يوسف وهبي، وهدى سلطان. ومما يحسب لنجيب محفوظ مساهمته في خروج فيلم "المومياء" للمخرج الراحل شادي عبد السلام للنور، وهو الفيلم الذي يعده النقاد نقلة في تاريخ السينما المصرية. جاء ذلك بعد أن رأس نجيب محفوظ مؤسسة دعم السينما، حين زادت الانتقادات من حوله كرقيب، فآثر وزير الثقافة آنذاك، ثروت عكاشة، نقله كرئيس للهيئة، وعرض عليه وقتها سيناريو "المومياء" الذي أعجب به محفوظ، وأصر على دعمه ماديًا من خلال المؤسسة، ليخرج للنور واحد من الأفلام التي لا يتوقف النقاد حتى الآن عن قراءتها بصور مختلفة. أفيش فيلم "جعلوني مجرمًا" أفيش فيلم "مغامرات عنتر وعبلة" أفيش فيلم "ريا وسكينة" صورة نادرة تجمع بين محفوظ والفنان الراحل أحمد مظهر أفيش فيلم "المومياء" للمخرج الراحل شادي عبد السلام