في اعتقادي وعلي الرغم من الإنجاز الكبير الذي حققه كاتبنا الكبير بحصوله علي جائزة نوبل في الأدب منفردا لعام 1988 إلا أن هذا الإنتصار لم يتم استثماره عالميا كما ينبغي في صالح نشر أدب نجيب محفوظ خصوصا وأدبنا المصري عموما، بالصورة التي يستحقها، وكما تحققت لآداب بلدان أخري انتمي إليها كتاب آخرون حصلوا علي نفس الجائزة، ولا اعتقد أن شعبا يملك تراثا بغزارة وقوة أدب نجيب محفوظ يمكنه أن يهدره بلا استغلال ولا نشر متوسع، بل إن عرض إنجاز نجيب محفوظ فقط في مجال السينما المصرية وحده كفيل بإبهار العالم ولفت الأنظار إليه وإلي إبداعه في مختلف مجالات الأدب والسينما. أشار محفوظ في حديث تليفزيوني إلي أن الباحث الفنان هاشم النحاس هو الذي نبهه إلي أهمية دوره في مجال السينما من خلال كتابيه (ذكريات فيلم) عن يوميات فيلم (القاهرة 30) ثم كتابه (نجيب محفوظ علي الشاشة) الذي يتضمن دراسة مهمة وشاملة مازالت في اعتقادي أهم وأشمل ما كتب في هذا المجال، متجاوزا بذلك كتابات ودراسات لاحقة عديدة منها كتابي (عالم نجيب محفوظ السينمائي) والذي أعددته عن رسالتي للدكتوراه بعنوان تحويل النصوص الروائية إلي أفلام سينمائية - دراسة تطبيقية علي روايات نجيب محفوظ في السينما المصرية. بصمة سينمائية كان معروفا للكثيرين أن لنجيب محفوظ عددا من الأعمال في مجال التأليف السينمائي، ولكن كانت شهرته الطاغية في مجال الأدب وإنتاجه الغزير في مجال القصة والرواية يجعلنا نتعامل مع دوره في السينما بدرجة أقل من الاهتمام، في الدورة العشرين من مهرجان القاهرة السينمائي في عام 1996 قامت إدارة المهرجان بإجراء استفتاء بين مجموعة من كبار النقاد والفنانين بمناسبة مئوية السينما، لاختيار أفضل مائة فيلم في تاريخنا السينمائي، وكانت المفاجأة المثيرة للدهشة أن نجيب محفوظ احتل المركز الثاني بين كتاب السيناريو في الاستفتاء برصيد 9 أفلام. والقائمة تضم علاوة علي هذه الأفلام التسعة، ستة أفلام شارك فيها محفوظ ككاتب أو معد للقصة السينمائية بالإضافة إلي عشرة أفلام بالتمام والكمال أعدتها السينما عن رواياته وقصصه الأدبية القصيرة، أي أن بصمة نجيب محفوظ وتوقيعه مسجل علي أشرطة السلولويد لخمسة وعشرين فيلم ضمن 100 عمل رائع في تاريخ السينما المصرية. كان من المتوقع أن تحظي الأفلام المعدة عن رواياته بنصيب كبير، ولكن لم يتوقع أحد أن تمثل وحدها نسبة عشرة في المائة من أفضل الأعمال عبر قرن من السينما، وكان في مرحلة ما منذ نهاية الخمسينيات تقريبا قد ارتبط اسمه أكثر بكتابة القصة السينمائية وإعدادها فقط مكتفيا بهذا الدور في مرحلة انشغاله بمناصب حساسة وقيادية في مجال السينما، .و التي لجأ صناعها إليه بعد أن لمع اسمه وثبتت مكانته العالية في مجال الأدب بالإضافة إلي خبرة معقولة حققها في مجال السيناريو، ولكن الأمر الذي لم يتوقعه كثيرون أن يحظي بهذه المكانة الكبيرة في مجال السيناريو تحديدا رغم قلة أعماله به، وكان محفوظ قد اقتحم هذا المجال في النصف الثاني من الأربعينات وبدأ الكتابة كمحترف وهو مازال يتعلم أصوله كفن، لم يتجاوز عدد الأفلام التي حملت اسم نجيب محفوظ كمشارك في كتابة السيناريو لها عن ستة عشر وانفرد بكتابة ثلاثة فقط دون شريك، بإجمالي تسعة عشر عمل أي أن نسبة النصف تقريبا (9 أعمال) من السيناريوهات التي شارك بها تعتبر من الروائع، وهي نسبة هائلة جدا لو وضعنا في اعتبارنا أن من بين سيناريوهاته نسبة كبيرة قد تصل إلي النصف تقريبا أيضا قد وصمها البعض بأنها يغلب عليها الطابع التجاري ومنها (النمرود) و(مجرم في أجازة) و( الهاربة)، بل إن هذه التهمة طالت أفلاما أصبحت ضمن الروائع،لم تحظ بحقها في سنوات عرضها الأولي وإن نالت حظها من الإنصاف لاحقا ومنها (ريا وسكينة) و(الوحش)، وهي أفلام كان يعتبرها البعض تنتمي إلي سينما الإثارة والحركة المتواضعة، وهناك أيضا أعمال لمحفوظ في بداياته كانت تعاني من ضعف الخبرة خاصة في عمليه الأولين (المنتقم) و(مغامرات عنتر وعبلة) الذي كتبهما محفوظ وهو مازال يتعلم، وشاركه فيهما المخرج صلاح أبو سيف الذي كان أيضا في بداياته، ولهذا كان من الغريب أن يتفوق محفوظ في مجال السيناريو تحديدا علي كتاب كبار من مختلف الأجيال أفنوا عمرهم كله في العمل السينمائي وكشفوا عن مواهب كبيرة وحققوا شهرة واسعة وإنجازات ملفتة في مجال كتابة السيناريو، وتجاوز إنتاجهم ما حققه محفوظ بكثير في هذا المجال بل وقدم بعضهم أعمالا تضاعف أعمال محفوظ من حيث العدد عدة مرات. تواجد مستمر بدأت علاقة نجيب محفوظ بالكتابة المباشرة للسينما، كشريك في كتابة السيناريو لعدة أعمال مع المخرج صلاح أبو سيف قبل أن يتوسع في أعماله مع مخرجين آخرين، واللافت أن نجيب محفوظ علي الرغم من قلة أعماله ككاتب للسيناريو إجمالا، إلا أنه تواجد بشكل شبه منتظم في هذا المجال بواقع فيلم أو فيلمين وأحيانا ثلاثة أو أربعة في العام الواحد غالبا منذ عام 47 وحتي عام 60 وهو العام الذي عرض فيه فيلم (بداية ونهاية) كأول عمل سينمائي مأخوذ عن نص أدبي له، منذ ذلك الحين تقلصت مشاركة نجيب محفوظ في كتابة السيناريو، بينما اتجهت السينما لتحويل نصوصه الأدبية الروائية ثم القصصية بغزارة لا ينافسه فيها سوي إحسان عبد القدوس، عوض نجيب هذا الغياب شبه التام عن كتابة السيناريو بالتواجد أيضا علي الساحة ولكن من خلال كتابة القصة السينمائية وإعدادها خصيصا للسينما، وكان قد بدأ يطرق هذا المجال منذ بداياته، فكان يجمع أحيانا بين كتابة القصة السينمائية مع الاشتراك في السيناريو، وهو ما برع فيه في أعمال تعد من الروائع ومنها (فتوات الحسينية) 1954 و(درب المهابيل) 1955، كان نجيب محفوظ مع غزارة أعماله وتركيزه علي مواصلة مشروعه الروائي أصبح غير قادر علي القيام بأعباء كتابة السيناريو بما تستهلكه من وقت وتعديلات ومراحل ولقاءات، ومن هنا شهدت الفترة منذ عام 1959 تواجدا غالبا لنجيب محفوظ في مجال القصة السينمائية عنه في مجال السيناريو. وربما يكون نجاح التجربة الفريدة وارتياحه وارتياح صلاح أبو سيف في الاعتماد عليه ككاتب لحجر الأساس أو القصة السينمائية لفيلم (بين السماء والأرض) 1959هو الذي دفع محفوظ للمضي في هذا الإتجاه، ودفع السينمائيين تقديرا لظروف انشغاله وحرصا علي تواجد بصمته في بعض الأعمال المهمة أن يأتنسوا بصياغته للقصة السينمائية التي من خلالها يجري بناء السيناريو والمعالجة، بعد أن تستقيم علي يديه الخطوط العريضة للشخصيات الأساسية والشكل الدرامي والتوجه الفكري، مشاركة فريدة وعلي الرغم من ذلك فإن مشاركات نجيب محفوظ تظل قليلة في هذا المجال أيضا إلا أن معظمها كان لأعمال في منتهي الأهمية وتعد من علامات السينما المصرية ومنها مشاركته في قصة (الناصر صلاح الدين) وكتابته للقصة السينمائية لأفلام (بين السماء والأرض) و(ثمن الحرية) و(المذنبون) وغيرها، وتبدو كلمة أو وظيفة كتابة القصة السينمائية من المسميات النادرة في السينما المصرية ومن الواضح أن الهدف منها في البداية كان الفصل بين قصص محفوظ الأدبية المأخوذة للسينما والقصص السينمائية التي كتبها خصيصا لسيناريوهات سينمائية. وهكذا فإن محاور الاحتفال بنجيب محفوظ عديدة في مجال السينما وحده سواء ككاتب للسيناريو أو للقصة السينمائية لأكثر من ثلاثين عمل أو كمؤلف الأصول الأدبية الروائية والقصصية لأكثر من ستين فيلما سينمائياً، أري أن هذا المخزون الكنز هو فرصة هائلة للعرض في أسابيع أفلام متواصلة بنسخ مترجمة لا تنقطع بمختلف عواصم العالم برعاية مكاتبنا الثقافية بالخارج وكلها تنتمي لوزارة التعليم العالي وبالتنسيق بينهم وبين قطاع العلاقات الثقافية والمركز القومي للسينما بوزارة الثقافة، وأن يقام بالتوازي مع هذه الأسابيع معارض لكتب أستاذنا ولإصداراتنا الأدبية العربية ولنصوصنا الأدبية المترجمة لمختلف لغات العالم وعلي رأسها نصوص كاتبنا الكبير التي تستحق مزيدا من الانتشار، ومزيدا من الفرص لتحويلها لأفلام سينمائية عالمية، فما قدمته السينما خارج مصر عن أدبه لا يتجاوز ثلاثة أعمال، فيلمان منهما للسينما المكسيكية عن روايتي بداية ونهاية وزقاق المدق، أما الفيلم الثالث فهو أذربيجاني عن رواية اللص والكلاب، ولا أعتقد أن هذا التواجد السينمائي المحدود عالميا لأدبه يتناسب مع مكانته الكبيرة، ومع طبيعة أعماله التي أثق يقينا أن الكثير منها جدير بلفت أنظار السينما العالمية إليها لو أتيح لها أن تنتشر علي نطاق واسع وأن تصل إلي محيط أكبر من القراء.