هوايته غريبة وشاقة ومريعة ولكنه اعتاد الموت ورؤية الجثث المشوهة، فهو لا يعرف الموت إلا في الصور البشعة.. في المعالم المطموسة للجثث التى يذهب إليها متطوعا، ليواريها التراب دون أن يكتب في خانة الاسم في تصريح الدفن سوى كلمة واحدة "مجهول". ولا يتذكر فارس العدوي البالغ من العمر (43 عاما) والذي يتطوع لدفن جثث الموتى على نفقته في محافظة قنا، كم هو عدد الجثث المجهولة التي قام بدفنها، فكل ما يتذكره أن "نداهة" قوية تعصر روحه عندما يعلم بحادث يسفر عن قتلى على الطرق السريعة أو فوق قضبان السكة الحديد أوعلى جوانب نهر النيل والترع الواسعة، فيسرع حتى يقوم بالتقاط جثة مجهولةأو أكثر لا تحمل أى شيء يدل على شخصية صاحبها، فدوره فقط أن يواريها الثرى. وبحسب خطوات هواية العدوي النادرة، فإنه كذلك هو أول من ينهى إجراءات استلام الجثة التى تكون مجهولة من مركز الشرطة، وأول من يتجه للمشرحة حاملا الكفن الذي يصر على شرائه من مرتبه من عمله كموظف في مديرية الصحة بقنا، ثم يحملها في نعش ويتجه بها للمسجد، ومنه إلى المقبرة، حيث يدعو بالرحمة والمغفرة دون السؤال عن أعمالهم في الحياة، هل كانت شريرة أم طيبة. وعندما رأى لقطات نهاية القذافي يؤكد العدوى أنه يفتح كل صفحات الصحف منذ مقتله، فيستغرب من الذين يحوطون الجثة ويلتهمونها بالنظر إليها أو تصويرها، ويقول ل"بوابة الأهرام": الذين يلتفون حول جثة القذافي لا يشبهونني، ففي أي بقعة في العالم خلق الله من يواري الجثث، ليس حفارا للقبور، وإنما خلقه كي ينقذ الجثث ويدفنها في التراب. يقول العدوي: الذين يوارون الجثث يتشبعون من "فلسفة" تقول إن الشر ينتهي بالموت وبنزع الروح، وأن الطغاة والمستبدون في لحظة موتهم لا يصح مع جثثهم إلا الدفن، ويتذكر عدوي بعض ما مر به فيقول: أذكر جيدا جثة ذلك الشاب الغريق الذي وجدته في النهر منذ عدة سنوات كانت يديه مرفوعة للسماء، شعرت أنه يستعطف السماء في قبره، فقلت له وأنا أحمله لا تخف سأدفنك، وقمت بدفنه، وبكيت كثيرا لأسباب لا أفهم منها غير أنني حققت أمنيات كل جثة تحلم بالدفن، يصمت لحظات ويقول القبر حلم الغرباء. يتذكر ثانية ذلك الطفل الذي كان يعمل تباعا على سيارة قادمة من محافظته البحيرة، وكيف أنه مات في حادث في محافظة قنا دون أن يستدل أحد على عنوانه، فقام بدفنه ليفاجأ بأبيه بعد شهور عديدة، يأتي باكيا من محافظته البعيدة، فتوجه مع الأب حتى دله على قبر ابنه الذي وقف ينتحب عليه طويلا شكرا له أنه أكرم جثة ابنه بالدفن. يؤكد العدوي أنه لم يعد يهاب مشاهد الموت، وهو على يقين عجيب بأنه لن تنتهي حياته ويصبح يوما جثة مجهولة، فهناك في العالم من يعملون مثل عمله وسيوارون جثته لأن عمله التطوعي مرتبط بالخير ولن تكون نهايته في صفوف الأشرار.