رؤية وتحليل: سهير عبد الحميد الحرب فى أفغانستان وأحداث 11سبتمبر، هجمات باريس وسقوط بغداد.. ربما يرى البعض فى عملية الربط بين الأحداث شيئا يجافى المنطق. لكن بقليل من التريث ندرك أن رابطة السبب، والنتيجة هنا تكشف عن نفسها بامتياز، فأمريكا التى دعمت المجاهدين فى أفغانستان بهدف إنهاك عدوها اللدود الاتحاد السوفيتى، ربت أفعى متوحشة لقبت نفسها بتنظيم القاعدة، وهى ذاتها التى قامت بإهانة الهيبة الأمريكية بسقوط برجيها رمز هيمنتها الاقتصادية ومقر البنتاجون رمز قوتها العسكرية. وبالمثل كان سقوط بغداد المدوى 2003الذى صنعته واشنطن وبريطانيا ومعهما دول الغرب التى شاركت بصمتها أو صوتها فيه، كان بداية لتشكيل ذلك التنظيم الإرهابى «داعش « الذى انبثق عن تنظيم القاعدة، والذى قام بتنفيذ هجمات باريس الأخيرة.. إنه ذلك الثمن الذى يجب دفعه.. صحيح أن فرنسا لم تشارك فعليا وعسكريا فى هجوم الولاياتالمتحدة الأمريكية على العراق، إلا أنها لم تستخدم حق الفيتو ضد السماح لقوات التحالف باحتلال العراق.. ولم تكن تمانع فى الغاية بقدر ما كانت تعترض على الوسيلة.. فهى كانت تريد حربا تحت مظلة الأممالمتحدة لا برعاية أمريكية.. ليست هذه محاولة للتشفى أو الشماتة.. فالقتل لأى نفس إثم لا يغتفر. بل هى محاولة للرد على تلك الاتهامات التى قذفها الجميع فى وجه العرب والمسلمين بوصفهم قتلة وإرهابيين.. تلك الصورة النمطية التى يحاول الغرب أن يفسر بها كراهيته واستبداده وتلاعبه بمقدراتنا من أجل مصالحه وإستراتيجياته. فى حين أن الغرب هو الذى قاد حملة الكراهية منذ زمن والتى توجها فى حملاته الصليبية التى كانت فرنسا المحرك الأساسى لها. كما أن هذه السطور محاولة للبحث فى فصول التاريخ ومتغيرات السياسة، للرد على السؤال: هل تدفع باريس بتلك الهجمات التى تعرضت لها أخيرا ثمن سقوط بغداد؟
فرنسا قدمت 18ألف جندى فى عاصفة الصحراء التى كانت أول مسمار فى نعش العراق تونى بلير يعترف بعد 12سنة: احتلال العراق سبب ظهور داعش يمكننا القول إن فرنسا تدفع جزءا من الفاتورة التى كانت كل من الولاياتالمتحدةوبريطانيا الأحق بها، فهما من قادتا تلك الحرب الضروس على العراق والتى حولته إلى جسد مهلهل وتربة خصبة لشتى ألوان التطرف والإرهاب، وهو ما اعترف به تونى بلير رئيس الوزراء البريطانى دون مواربة، مؤكدا أن غزو العراق أدى لظهور داعش فى سوريا والعراق. لكنه فى الوقت نفسه لم يبد ندمه على مشاركة بريطانيا فى الحرب.. ذلك لأن تصريحات بلير لم تأت كصحوة ضمير بل كمناورة للإفلات من العقوبة فى حالة انعقاد أى محاكمات له، ولبوش الابن بعد أن نشرت ديلى ميل البريطانية وثيقة أمريكية مهربة تكشف وجود اتفاق بين بلير وبوش على غزو العراق قبل الاحتلال بعام كامل. وربما أيضا تكون فرنسا تدفع جزءا من فاتورة قديمة جدا تتمثل فى احتلالها للعالم العربى ردحا طويلا من الزمن، قدمت خلاله أبشع صور الاستعمار. وربما أيضا لأنها أول من شجع على زرع دولة الإرهاب المسماة إسرائيل.. وربما لأنها أسهمت فى نجاح الثورة الإيرانية التى ما زالت تشعل نيران الفتنة فى المنطقة عبر سياستها الممنهجة فى تصدير التشيع. وذلك حين قامت فرنسا باستقبال الإمام الخومينى وأركبته طائرتها إير فرانس من مطار « أورلي» أواخر السبعينيات ليهبط فى مطار طهران متأبطا ذراع طيارها ليستقبله الإيرانيون، فى إشارة لبدء زوال نظام الشاه ومولد النظام الإيرانى، الذى يقدم حاليا دعما هائلا للقيادة الشيعية فى العراق، مما رسخ الفتنة الطائفية أكثر وأكثر. وسمح لداعش بالتمدد.. هكذا جاءت هجمات باريس التى نفذتها داعش تلك الحركة الإرهابية التى نمت فى أحضان العراق، بفعل ألوان من التشرذم والطائفية وعلاقات المصالح المتشابكة بين دول الجوار الجغرافى، وتلك التى تلعب فى الساحة عبر القارات. بغداد حاضرة الشرق فى العصر العباسى الممتد من القرن الثامن الميلادى حتى القرن الثالث عشر الميلادى. لتتبادل بذلك المواقع مع باريس التى بدأ نجمها يظهر فى القرن الحادى عشر، ثم يبزغ فى القرن الثامن عشر، لتكون مدينة النور نقطة انطلاق أفكار الحريات والعدالة الاجتماعية فى الغرب بأسره. ثم تدير ظهرها لتلك الأفكار حين تقود حملة شرسة لاستعمار القارة الإفريقية.. ما بين بغداد وباريس الكثير من نقاط التلاقى حضاريا وثقافيا بوصف الأولى تمثل الشرق والثانية ترمز للغرب.. يمكن أن نستعرضها بفتح ملفات التاريخ
سبقت باريس حضاريا وثقافيا بقرون كقبلة للعلماء والفنانين.. بغداد. . مدينة السلام أسسها المنصور فى القرن الثامن لتظل شعلة للحضارة الإسلامية حتى القرن الحادى عشر بغداد العاصمة العريقة تاريخيا وجغرافيا، تقع شمال شرق مدينة بابل الأثرية وعلى بعد كيلومترات منها، توجد قطيسفون أو المدائن التى بناها الإغريق لتظل مركزا للبلاد قبل أن تتنقل سلطتها إلى بغداد فى القرن الثامن حين بناها أبو جعفر المنصور على ضفتى نهر دجلة وجعل لها أربعة أبواب : خراسان، الكوفة، الشام، البصرة.. بغداد ذات الاسم فارسى الأصل كما تكاد المصادر أن تجمع، حيث كانت اللغة الفارسية هى السائدة فى العراق منذ سقوط الدولة البابلية 539ق. م وحتى مجيء الفتح الإسلامى، وأكثر التفسيرات شيوعا تدلنا أن كلمة «بغا « تعنى بستان فى الفارسية وكلمة «دا» بمعنى عطية فيكون اسم بغداد هو عطية الله.. بينما ذهب البعض إلى أن بغداد هي اسم مدينة بابلية وجد اسمها فى وثائق «حمورابي» وأنها تعنى فى اللغة السومرية قلعة قبيلة الصقر. بغداد حاضرة العلم والعلماء فى عهد العباسيين، فمنها انطلقت النظريات العلمية التى ترجمها الغرب فيما بعد ونسبها لنفسه، لكن التاريخ الذى لا يمكن تزييفه كان له القول الفصل، وأثبتت الوثائق والمخطوطات أن علماء العراق هم الذين أنتجوا ذلك التراث العلمى فى الصيدلة والفلك والرياضيات، فمن رحم بغداد عرف العالم أسس علم الجبر الحديث على يد الخوارزمى، وعلم الهندسة على يد أبو بكر الكرفى. ومن بغداد أطلق ابن الهيثم «أمير النور» كما يلقبونه الأسس العلمية لعلم الضوء وعلم المكيانيكا وشرح العين شرحا كاملا، واخترع أول كاميرا بثقب صغير. ومنها أيضا خرج البيرونى بنظرياته حول دوران الأرض والفرق بين سرعتى الضوء والصوت. ومن علماء بغداد جابر ابن حيان أبو الكيمياء أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استحضر ماء الذهب. وفى الطب جاء الرازى «جالينوس العرب «صاحب أكبر كتاب فى الطب « الحاوى «..وفى الطب أسماء وأسماء : ابن سينا، ابن النفيس، ابن البيطار. كان هذا بديهيا، لأن رب البيت أى الخليفة كان هذا حاله مهتما بالعلم والأدب، فأبو جعفر المنصور كان من أهم رعاة العلم وكان بارعا فى الفقه ومتقدما فى الفلسفة والفلك وأعلم الناس بالحديث والأنساب، لذا فقد اهتم بحركة الترجمة من اليونانية والفارسية، وسار الرشيد على نهجه، فهو نفسه كان (شاعراً وراوية للأخبار والآثار والأسفار..). ولم يعرف التاريخ خليفة رحل طلبا للعلم، إلا الرشيد. فقد رحل بولديه، الأمين والمأمون، لسماع الموطأ على الإمام مالك. وجلب الرشيد أثناء فتوحاته فى بلاد الروم، الكثير من مخطوطات التراث اليونانى ووضعها فى مكتبة خاصة، عُرفت باسم (خزانة الحكمة) وكلف من يترجمها للعربية. وعين يوحنا بن ماسويه أمينا على الترجمة، وغدت الترجمة منذ ذلك الوقت سياسة عامة للدولة العباسية. كما عقد الرشيد فى قصره المجالس العلمية، التى كانت تضم كبار علماء عصره، كالأصمعى والكسائى وسيبويه والواقدى وأبى عبيدة وأبى العتاهية والفقيه المشهور أبى يوسف يعقوب ودعبل وإبراهيم الموصلى، وابنه إسحق وغيرهم. وكانت تدور فى هذا المجلس المناظرات العلمية والأدبية برعاية الخليفة ومشاركته. وكان افتتاح أول مصنع للورق فى بغداد، فى عهد الرشيد، خدمة كبيرة للعلم والعلماء وبداية عصر جديد فى تاريخ الثقافة العربية الإسلامية.
المأمون وبيت الحكمة وبلغت رعاية الخلفاء العباسيين للعلم ذروتها فى أيام الخليفة المأمون (ت 218ه/832م). فقد برع فى الفقه والعربية وأيام العرب والفلسفة وعلوم الأوائل. ومن المعروف أنه عندما تولى المأمون الخلافة واستقر فى بغداد، شكل مجلسا من أهل العلم والأدب، للمناقشة والمناظرة، وكان يعقد كل يوم ثلاثاء، تحت رعاية الخليفة نفسه. وقد ضمَّ المجلس علماء وأدباء من شتى الملل والنحل، وكانوا يتناقشون فى أهم القضايا الفكرية والعلمية، ويطرحون آراءهم بحرية كاملة دون حرج أو خوف، بل كان العلماء، فى العالم الإسلامى يتنافسون لبناء سمعة علمية والحصول على شرف حضور هذا المجلس. وازدهر فى عهد المأمون (بيت الحكمة). فعلى الرغم من أن نواة هذا (البيت) تعود إلى (خزانة الحكمة) التى أسسها والده، فإنه غدا فى عهده (مجمعاً) ثقافيا وعلمياً متكاملاً، حيث اشتمل على قاعات للترجمة والنسخ والبحث والمطالعة والمناظرة، وعلى مكتبة مفتوحة لمن يرغب فى العلم. واجتمعت فى هذا (البيت) كنوز الثقافة العربية الإسلامية مع كنوز الثقافات الأجنبية، لاسيما اليونانية والفارسية والهندية والسريانية. وكان المأمون قد تمكن، ومن خلال مراسلاته مع أباطرة الروم، من الحصول على عدد ضخم من (مخطوطات) التراث اليوناني. فقد بعث وفوداً عديدة من العلماء إلى آسيا الصغرى وقبرص وغيرهما من بلاد الروم. وقد اختاروا أحمالاً من تلك المخطوطات، وجلبوها إلى (بيت الحكمة) فى بغداد، بعد أن تسلم الروم أموالا طائلة ثمنا لها. وكانت هذه المخطوطات تتعلق بالفلسفة والطب والفلك والهندسة وغيرها من العلوم. وتخير المأمون أمهر التراجمة لنقلها إلى العربية، وكان من بينهم: حنين بن إسحق وابنه إسحق، ويوحنا بن البطريق والحجاج بن مطر وغيرهم. وتذكر المصادر أن المأمون أفرد حجرة فى قصره لأبى زكريا الفراء، لكى يؤلف كتاباً يجمع به أصول النحو العربى وما سمع من العربية ووكل به الجوارى والخدم للقيام بما يحتاج إليه. وبعث له بالوراقين ليكتبوا ما يملى عليهم، حتى صنف كتاب (الحدود) خلال سنتين.. ولم تقتصر رعاية الخليفة المأمون للعلم والعلماء على عقد المجالس العلمية والحصول على المخطوطات اليونانية وترجمتها، واحترام العلماء وتشجيعهم، وإنما حضَّ العلماء على محاولة نقل الأفكار العلمية إلى وقائع، أى تحويل العلم إلى (تكنولوجيا). فقد طلب منهم، مثلاً، صنع آلات الرصد التى وصفها الجغرافى اليونانى بطليموس فى كتابه (المجسطي) أى (الكتاب الأعظم) ونجحوا فى ذلك، وأقاموا المراصد فى عدد من المدن العربية، مثل بغداد ودمشق، كما قاموا بقياس محيط الأرض. كما حضَّ المأمون الناس على الاهتمام بالتراث اليونانى وتعلمه، وقد استجاب لدعوته الكثير من رجال العلم والأدب. وفضلا عن ذلك كله فقد ترعرع فى أحضان (بيت الحكمة) عدد من الأعلام الأفذاذ، أمثال: أولاد موسى بن شاكر والخوارزمى وسهل بن هارون وحنين بن إسحق وابنه وثابت بن قرة وغيرهم.
لكل نهضة كبوة وهكذا كان العصر العباسى (عصراً استثنائياً) فى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية ،فبعده تلاطمت الأمواج بغداد الرشيد والمنصور حتى سقطت فريسة لهجمات التتار 1258. ومع بداية القرن السادس عشر تبادل الصفويون والعثمانيون السيطرة عليها حتى انتزعها العثمانيون1535، لتدخل مجددا فى غيبوبة طويلة لتستيقظ على احتلال بريطانى 1917.. لم ينتزعها منه سوى قيام المملكة العراقية 1921ومن بعدها الجمهورية العراقية 1958 حيث قام أفراد من الجيش العراقى بقيادة عبد الكريم قاسم بانقلاب للإطاحة بمملكة العراق . ثم تحالف عدد من القوى السياسية والعسكرية من أعضاء تنظيم الضباط الوطنيين لحركة 1958كالتيارات المختلفة لحزب البعث وبعض التنظيمات والشخصيات القومية والمستقلة، مع بعض الشخصيات العسكرية من الأعضاء السابقين لتنظيم الضباط الوطنيين، وقاموا بحركة لقلب نظام الحكم فى 1963، وأصبح المشير عبد السلام عارف رئيسا رمزياً للجمهورية واللواء أحمد حسن البكر أحد زعماء حزب البعث البارزين رئيساً للوزراء. بعد تسعة أشهر من الحكم، بدأت بوادر الاختلاف على الزعامة تلوح فى الأفق، وأصدر عبد السلام عارف مرسوما بإعفاء أحمد حسن البكر من منصبه، وحدده بالإقامة الجبرية، ثم أصدر مرسوما بتعيينه سفيرا فى وزارة الخارجية. وأصدر بعد فترة من الزمن مرسوماً بتعيينه نائبا لرئيس الجمهورية. كما أعفى الكثير من أعضاء حزب البعث الذين تم اعتقالهم والتحقيق معهم، عدا من ارتكب جرائم جنائية بحسب وجهة نظره، وأحالهم للمحاكم المدنية. توفى الرئيس عبد السلام عارف إثر سقوط طائرة الهيلكوبتر السوفيتية الصنع، فى ظروف غامضة، وتسلم الحكم أخوه عبدالرحمن عارف وأصبح رئيس العراق الثالث حتى خلعه فى انقلاب 17-7-1968. وتولى حزب البعث العربى الاشتراكى السلطة بما يعرف بالثورة البيضاء بقيادة أحمد حسن البكر، ونائبه صدام حسين، وعُيّن أحمد حسن البكر رئيسا لمجلس قيادة الثورة، ورئيساً للجمهورية، وقائداً عاماً للجيش، وأصبح صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة. وقد تمكن صدام حسين من إحكام قبضته على السلطة من خلال تعيين أقاربه وحلفائه فى المناصب الحكومية المهمة، بالإضافة إلى مراكز التجارة والأعمال، وهو ما تمكن معه فى نهاية عام 1970م، أن يحتكر السلطة فعلياً فى العراق تمهيداً للاستيلاء عليها نهائياً فى يوليو عام 1979. هكذا عاشت بغداد من القرن الثامن وحتى العشرين.. حياة من الانقلابات والتغيرات. كبوة طويلة بعد ازدهار طويل دام عصر العباسيين.. تظل بعدها بغداد حاضرة العلم وبلد الأنبياء إبراهيم ويونس وحزقيل ودانيال وثراها يضم رفات الصحابة وأبرزهم سلمان الفارسى والأئمة المهدى والجيلانى والكاظم والجواد والنعمان.
اكتسبت اسمها «مدينة النور» بعد أن منحها المعمارى هاوسمان تخطيطها الحديث.. باريس حاضرة الغرب مظاهرات النساء أجبرت الملك لويس الرابع عشر على الانتقال من قصره في فرساي إلى باريس ليكون قريباً من الشعب مثلها مثل بغداد، تعد باريس من العواصم العتيقة فى القارة العجوز، فقد سكنتها قبائل الغال عام 250ق.م ونسبت إليهم، حيث كانوا يلقبون ب»باريسي» وهى تعنى فى لغتهم الشعب العامل أو الحرفيون.. لكن باريس لم يكن لها الثقل التاريخى المبكر ذاته الذى كان لعاصمة الخلافة العباسية التى بزغت مبكرا فى التاريخ، فلم يقفز اسم باريس إلى سجلات التاريخ إلا فى القرن الحادى عشر، حيث توافد عليها العلماء والرهبان وأنشا بها فيليب أوغست جامعة باريس. وكان للفنانون الإيطاليون أثر عميق فى تطوير الفن بباريس خلال القرنين السادس والسابع عشر، خصوصا فى مجال النحت والنقوش. وبات الرسم والنحت فخر الملكية الفرنسية وقامت العائلة المالكة بتكليف العديد من الفنانين الباريسيين لتزيين قصورهم خلال عصر الباروك الفرنسي. وفى عام 1648، تم تأسيس أكاديمية الرسم والنحت من أجل استيعاب الكم الهائل من الأعمال الفنية فى العاصمة الفرنسية، والتى ظلت مدرسة الفن الأولى فى فرنسا حتى عام 1793. لكن سيرة باريس الأقوى، تأتينا إبان القرن الثامن عشر عصر التنوير التى انطلقت فيه أفكار فولتير ومونتسيكيو وجان جاك روسو عن الحرية والقوانين والعدالة الاجتماعية.. تلك الأفكار التى مهدت لقيام الثورة الفرنسية 1789ومن ثم مهدت لقيام ثورات التحرر فى أوروبا قاطبة. من باريس انطلقت شعلة الثورة على الملك لويس السادس عشر، ومنها خرجت مظاهرات النساء فى أكتوبر 1789 متجهة نحو قصر فرساي، لمطالبة البلدية بمعالجة المطالب النسائية، والاستجابة للحالة الاقتصادية الصعبة التى يواجهنها، خصوصا نقص الخبز. كما طالبت المسيرات النسائية، بانتقال الملك إلى باريس كدليل على حسن نواياه فى القرب من الشعب، ومعالجة مشاكله وفقره المنتشر على نطاق واسع. واتجهت السيدات الفرنسيات نحو قصر فرساى الذى كان مقر الأسرة المالكة منذ أنشأه لويس الرابع عشر فى القرن ال17يحملنّ مدافع وأسلحة خفيفة. قدّر عدد المتظاهرات بنحو من 7000امرأة، وقد حاولت النسوة اقتحام القصر، ما أسفر عن مقتل عدة حراس؛ حتى تمكن قائد الحرس الوطنى من إقناع الملك بأهمية الانتقال إلى باريس لتغدو مقر الإقامة الملكية؛ وهو ما تم فعلاً فى 6أكتوبر 1789، حين انتقل الملك والعائلة المالكة من قصر فرساى إلى باريس تحت حماية الحرس الوطني... وتتطور الأحداث بعد إعلان قيام الجمهورية الفرنسية لأول مرة عام 1792. وفى السنة التى تلتها، أعدم كل من لويس السادس عشر وزوجته مارى أنطوانيت فى ميدان الكونكورد، أكبر الساحات فى باريس والذى كان مسرحاً للعديد من عمليات الإعدام بالمقصلة، ففى صيف عام 1794، أعدم أكثر من 1300شخص فى شهر واحد فقط. فى ميدان الكونكورد نفسه مسلة مصرية ضخمة عليها إهداء من الخديو إسماعيل للويس فيليب 1831. تشكل بعد ذلك مجلس مؤلف من خمسة أعضاء تولى إدارة البلاد، حتى أطيح به بعد الانقلاب العسكرى الذى قاده نابليون بونابرت الذى وضع حداً للثورة واختير فيما بعد فى استفتاء عام إمبراطوراً على فرنسا.
مولد مدينة النور احتلت باريس من قبل الروس والحلفاء على إثر هزيمة نابليون بونابرت فى 31مارس 1814، وكانت هذه المرة الأولى التى تحتل فى باريس من قبل قوات أجنبية منذ قرابة 400سنة. تلا ذلك استعادة بوربون حكم فرنسا من جديد، حيث أصبح لويس الثامن عشر ملكاً فى الفترة (1814-1824)، تلاه شارل العاشر الذى انتهت فترة حكمه بعد قيام ثورة يوليو 1830. بات نظام الحكم فى فرنسا بعد الثورة نظاماً ملكياً دستورياً متمثلاً فى الملك لويس فيليب الأول، الذى بدوره قامت عليه ثورة فبراير 1848. قادت ثورة فبراير إلى تكوين الجمهورية الفرنسية الثانية. اجتاح وباء الكوليرا باريس عامى 1832و1850، حيث قتل وباء 1832لوحده 20,000من أصل 650,000وهو مجموع سكان باريس فى ذلك الوقت، أى نحو 3%من سكان المدينة. ثم كانت حركة التطور الكبرى التى لحقت بباريس مع الثورة الصناعية، فأنشأت شبكة متطورة من سكك الحديد شجعت على توافد العديد من السكان إلى المدينة. وجاء تطور المدينة معماريا على يد الإمبراطور نابليون الثالث، الذى عهد بمهمة تطوير باريس إلى البارون هاوسمان، الذى أزال شوارع باريس الضيقة والمتعرجة التى تعود إلى العصور الوسطى مكوناً شبكة من الطرق الواسعة والواجهات الكلاسيكية الحديثة.. وهو ما جعلها تكتسب لقب «مدينة النور». والمعروف أن الخديو إسماعيل قد طلب من نابليون الثالث أن يستعين بالمعمارى هاوسمان ليقوم بتخطيط قاهرته الجديدة التى نطلق عليها الآن القاهرة الخديوية او منطقة وسط البلد. سقطت الإمبراطورية الفرنسية الثانية خلال الحرب الفرنسية البروسية (1870-1871). واستسلمت باريس المحاصرة تحت القصف الشديد فى 28يناير 1871. أبدى سكان باريس امتعاضاً شديداً من الهدنة المهينة التى وقعتها الحكومة الفرنسية القابعة فى فرساى إلى تكوين حكومة كومونة باريس مدعومةً بجيش مكون من أعداد كبيرة من أعضاء الحرس الوطنى السابقين. قام هذا الجيش بمقاومة القوات البروسية، إلى جانب جيش حكومة فرساي. وسقطت حكومة كومونة باريس بعد أسبوع دموى أعدم فيه قرابة 20,000. انتهت الحرب على إثر ذلك فى 28مايو 1871. تزايدت أهمية باريس فى أواخر القرن التاسع عشر، حتى أصبحت مركزاً للتكنولوجيا والتجارة والسياحة والعمارة، حيث يعد برج إيفل -الذى ظل أطول مبانى العالم حتى عام 1930- أشهر الأدلة الدالة على تطور العمارة فى باريس فى تلك الفترة.
الحربان العالميتان خلال الحرب العالمية الأولى، كانت باريس فى طليعة المدن المشاركة فى الحرب. نجت المدينة من الغزو الألمانى بعد انتصار القوات الفرنسية البريطانية على ألمانيا فى معركة المارن الأولى عام 1914التى وقعت على مقربة من المدينة. فى 1918-1919، كانت باريس مسرحاً لانتصار الحلفاء وكذلك مفاوضات السلام. فى الفترة ما بين الحربين العالميتين، اشتهرت باريس بتجمعاتها الثقافية والفنية والحياة الليلية. كما أصبحت المدينة مركزاً لتجمع الفنانين من جميع أنحاء العالم، من المؤلف الموسيقى الروسى إيجور سترافينسكى إلى الرسام الإسبانى بيكاسو، ومن الكاتب الأمريكى إرنست همينغوى إلى الرسام الإسبانى سلفادور دالي. فى 14يونيو 1940، بعد 5أسابيع من معركة فرنسا، سقطت باريس فى يد القوات الألمانية. التى ظلت بها حتى تحررت فى أغسطس عام 1944بعد شهرين ونصف الشهر من غزو نورماندي. لم يصب وسط باريس بأذى ملحوظ خلال الحرب العالمية الثانية، حيث لم يكن هناك أهداف إستراتيجية لقاذفات الحلفاء، فالمصانع الكبرى كانت تقع فى ضواحى المدينة كما لم تكن السكك الحديدية عرضة للأذى. وعلى الرغم من أوامر هتلر بتدمير المدينة بمعالمها التاريخية، فإن القائد الألمانى ديتريش فون شولتيتز رفض؛ ما أكسبه لقب «محرر باريس».
تاريخ من الاستعمار لا يحتاج القارىء الباحث بين كتب التاريخ الكثير من الجهد، ليكتشف أن فرنسا التى تنعت العرب والمسلمين بالإرهاب، هى من مارسته قبل قرون إزاء العرب والمسلمين. وكانت أبشع تلك الممارسات من خلال الحروب الصليبية التى قادتها فرنسا. كما أكد ذلك أرنست باركر فى مؤلفه الهام عن تاريخ الحروب الصليبية، حين أكد أن فرنسا هى الموطن الطبيعى لتلك الحروب، فقد خرجت الحملة الصليبية الأولى (1096م–1099م) تلبية للدعوة التى أطلقها البابا أوربان الثانى سنة 1095م فى كليرمونت جنوبفرنسا من أجل تخليص القدس وعموم الأراضى المقدسة من أيدى المسلمين وإرجاعها للسيطرة المسيحية. ثم كان للراهب الفرنسى سان برنار دور أساسى فى إقناع الملك الفرنسى لويس السابع بخروج الحملة الصليبية الثانية التى انطلقت 1145بقيادة لويس السابع ملك فرنسا وكونراد الثالث ملك ألمانيا وجاءت الحملة الصليبية الثالثة، بين عامى 1189م و1192م، بقيادة ثلاثة من ملوك أوروبا هم: فريدريك الأول بربروسا إمبراطور ألمانيا، وفيليب الثانى أغسطس ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، تلك الحملة التى تصدى لها صلاح الدين الأيوبى ونجح فى استرداد القدس من أيدى الصليبيين. وتظل فرنسا فى الصورة وكأنها مصرة على شن تلك الحملات التى أكسبتها ثوبا دينيا متخذة من الصليب شعارا لها، وذلك حين عادت مجددا عام 1250 لتشن حربا على مصر قادها لويس التاسع الذى دحره أهل المنصورة فى معركة دامية وسجنوه فى دار ابن لقمان
فرنسا العصور الوسطى تعود ولم تتخل فرنسا عن ماضيها الاستعمارى فى العصور الوسطى، فتعود محاولة استنساخه فى العصر الحديث،فقد اتخذ الفرنسيون من حادثة المروحة حجة لاحتلال الجزائر، فأرسلوا حملة حاصرت العاصمة الجزائرية وأمطرتها بالقنابل حتى استسلمت فى 1830م. وبذلك وقعت الجزائر تحت الاستعمار الفرنسى الذى استمر جاثما عليها طيلة قرن و30سنة حتى تخلصت منه 1962. ذاق خلالها الجزائريون شتى ألوان العذاب، إلا أنهم كونوا مقاومة شرسة دفعوا من أجلها الكثير من الدماء حتى لقبت الجزائر « بلد المليون شهيد». عندما احتلت فرنسا الجزائر، اتبعت عدة سياسات تجاه سكانها، تمثلت فى التفقير والتهجير واحتكار أسواقها. فيما وفرت كل سبل العيش والرفاهية للمستوطنين الجدد القادمين ومن فرنسا وباقى أوروبا.حيث منحتهم امتيازات من أراض واسعة فقد أقيمت أول مستوطنة فى بوفاريك سنة 1936ثم توسعت على كل منطقة وصل إليها الاستعمار حتى بلغ عدد المستوطنين فى نهاية القرن 19إلى مليون مستوطن من مختلف الجنسيات الأوروبية، وعملت فرنسا أيضا على تشجيع الهجرة اليهودية إلى الجزائر بمقتضي قانون كريميو 1870 ومثلما فعلت فى الجزائر، ادعت فرنسا أن بعض القبائل التونسية تغير على الحدود الجزائرية، فاحتلت تونس وأجبرت الباى على توقيع معاهدة باردو سنة 1881م وهى معاهدة حوّلت تونس إلى حماية، وبعدها معاهدة المرسى. حتى استقلت تونس عام 1956بعد جهود دبلوماسية ومقاومة عسكرية. وفى المغرب، انتهزت فرنسا فرصة قيام بعض القبائل بالثورة على السلطان عبد الحفيظ فأرسلت قوة عسكرية دخلت فاس عاصمة المغرب آنذاك وفى عام 1912م ، عقدت معاهدة مع السلطان، أصبحت بموجبها المغرب تحت الحماية الفرنسية باستثناء منطقة الشمال والجنوب المغربى فقد وقع تحت الحماية الإسبانية. وكان الاستقلال عام 1955. وإلى جيبوتى، تسللت فرنسا تحت ستار التجارة، وكانت البداية عندما اشترت ميناء أوبوك سنة 1862م ليكون مركزا تجاريا لها، لكنها لم تلبث أن استولت على ميناء جيبوتى عام 1884. ولم يستق عنها إلا عام 1977. ولم تسلم الشام من الاستعمار الفرنسى، فبعد أن صدرت قرارات مؤتمر سان ريمو، وجهت فرنسا إنذارا إلى الملك فيصل بن الحسين ملك سوريا تطلب فيه قبول الانتداب الفرنسى وتسريح الجيش السورى خلال 48ساعة ، وقبل أن تنتهى المدة اندفعت القوات الفرنسية وهزمت القوات السورية التى كان يقودها يوسف العظمة فى معركة ميسلون واحتلت دمشق سنة 1920، ثم بقية المدن السورية. وإذا كانت مصر لن تنسى لفرنسا مشاركتها مع بريطانيا وإسرائيل فى العدوان الثلاثى 1956 ، عقابا لمصر على تأميم قناة السويس. فإنها أبدا لن تنسى الحملة الفرنسية 1798التى قادها بونابرت لأهدافه الإمبراطورية.
سقطت بغداد .. ونزفت باريس ازدهار العلاقات الفرنسية - العراقية بعد موقف ديجول الداعم للدول العربية 1967فى حربها ضد إسرائيل باريس تساند صدام في حربه على إيران وشهر العسل ينتهى بعد غزو العراق للكويت 9من إبريل 2003، سيظل هذا التاريخ مفصليا ليس فى تاريخ العراق وحده بل فى تاريخ الشرق الأوسط بأكمله، فسقوط تمثال صدام حسين البرونزى فى ساحة الفردوس ببغداد، لم يكن إلا الكلمة الفصل ليس فى نهاية صدام حسين نفسه كحاكم للعراق أو نهاية البعث الذى حكم العراق منذ عام 1963. بل هو نهاية العراق الذى دخل دوامة من الصراعات والتفكك وعانى من دمار اقتصادى حقيقى، بدأ بفرض الحصار الاقتصادى عليه 1991والذى فرضه مجلس الأمن عقب الغزو العراقى للكويت، وهو الذى لم يثبت مطلقا حتى يومنا هذا. سقط فى العراق آلاف القتلى والجرحى ونهبت مؤسسات الدولة وتبقى سرقات متحف بغداد الوطنى الذى نهب منه حوالى 170ألف قطعة أثرية جريمة فى حق الإنسانية، تضررت البنى التحتية، وحدث الانقسام الطائفى الذى لم يكن معروفا فى العراق برغم الوجود الكبير للطائفة الشيعية فى العراق، فإن العلاقة بين السنة والشيعة كانت طيبة، حيث إن العراقيين عموماً لم يكونوا ينظرون إلى الانتماء الطائفى كعامل أساسي، كما أن العديد من العوائل العراقية هى خليط من الشيعة والسنة معاً. وهذا يوضح قبول العشائر الشيعية بأن يحكم العراق أهل السنة بعد الثورة على الإنجليز، التى شاركت بها العشائر السنية والشيعية على حد سواء، وأصدرت المراجع الشيعية فى النجف فتوى بالجهاد لتحريك الشارع العراقى لثورة العشرين. وأثناء الحرب العراقيةالإيرانية، كانت الأفكار القومية هى السائدة فى العراق. وباعتبار أن عددا من أعضاء حزب البعث فى العراق كانوا من الشيعة، فقد وصل الشيعة إلى مناصب عالية فى الدولة. وكانت سيطرتهم فى التعليم والتجارة والاقتصاد واضحة. بعد خروج آخر جندى أمريكى من العراق فى 18من ديسمبر 2011، آل الحكم إلى الشيعة وحصلوا على معظم الوزارات السياسية ونال الأكراد حكما ذاتيا بصلاحيات. بدأت أعمال العنف الطائفى فى العراق بالتصاعد منذ أوائل عام 2005. إلاَّ أن تفجير مرقدى الإمامين العسكريين فى سامراء، والمقدَّسين لدى الشيعة، فى شهر فبراير من عام 2006تسبب بتصاعد موجة الهجمات المتبادلة بين السنة والشيعة على نحو متزايد.وقد أرغم ذلك العديد من الأسر العراقية على هجر منازلهم والانتقال إلى مناطق أخرى فى البلاد، أو ببساطة هربوا إلى الخارج. لقد أسهم الاحتلال الأمريكى فى تغيير موازين القيادة داخل العراق بعد سقوط النظام، حيث أدى إلى بروز تيار الإسلام السياسى كقوة فاعلة فى العراق، تزامناً مع فشل المشروع القومى الوحدوي، وتعثر اليسار العراقى والعربى بشكل عام. فأصبح العراق تحت قيادة شيعية لاقت دعماً كبيراً من الجانب الإيراني، ومواجهة شرسة من قبل دول الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة السعودية (التخندق السني)،. وكما أشارت رسالة ماجسيتر بعنوان «ما بعد الغزو العراقى فإنه بعد انسحاب الاحتلال الأمريكى من العراق نهاية 2011، ومع استمرار الطائفية السياسية الداخلية، سوف يعيش العراق حالة من الصراع الإقليمى المستدام تجعل من الصعب عليه أن ينال استقراره السياسى والأمنى بسهولة، وتنذر بوقوع صراع سياسى كارثى مدمر قابل للانفجار فى أى لحظة، خصوصا فى ظل التطورات السياسية فى المنطقة العربية عامة وسوريا خاصة. ففى حال سقوط النظام السورى الحالي، فإنه سيعجل ببروز هذا الصراع إلى السطح بشكل أكثر حدة وعنفا، خصوصاً أن أكثر الدلائل تشير إلى صعود تيار الإسلام السياسى المحافظ فى دول الثورات العربية، والمدعوم من قبل دول الخليج العربي، وبمباركة الولاياتالمتحدة فى محاولة لركب موجة التطورات السياسية الحاصلة فى المنطقة، وجنى الأرباح. وضمن هذا الواقع حسم النظام الحالى فى العراق خياره فى الانحياز إلى جانب النظام السورى والدول التى تدعمه، خصوصاً إيران، واعتبار أن ما يجرى فى المنطقة ليس بربيع عربي، وهو ما دفعه إلى تقديم حلول للأزمة القائمة ما بين النظام وقوى المعارضة، تسهم فى حماية الأمن والسيادة السورية من جهة أخرى، وإبعاد خطر الانفلات الأمنى والسياسى، الذى قد تمتد آثاره إلى العراق ودول المنطقة ككل.
وهكذا نشأت داعش فى ظل هذا المناخ الشائك كان بديهيا أن تنشأ داعش «الأصول تعود إلى عام 2004حين شكل أبو مصعب الزرقاوى، تنظيم جماعة التوحيد والجهاد وأعلن مبايعته لتنظيم القاعدة. وبرز إبان الاحتلال الأمريكى للعراق على أنه تنظيم جهادى ضد القوات الأمريكية فاستقطب الشباب. وفى عام 2006خرج الزرقاوى فى شريط مصور يعلن تشكيل مجلس شورى المجاهدين بزعامة عبد الله رشيد البغدادى. وفى الشهر نفسه قتل الزرقاوى وعين أبى حمزة المهاجر زعيما لتنظيم القاعدة فى العراق. وفى نهاية 2006تشكل تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق بزعامة أبو عمر البغدادى الذى قتل هو والمهاجر فى عملية عسكرية أمريكية 2010ليتولى بعده التنظيم أبو بكر البغدادى امير داعش، وهو سليل عائلة تتبع الفكر السلفى التكفيرى. وقد استغل البغدادى الأزمة فى سوريا فى محاولة لتوسيع نفوذه ودخل شرق سوريا تحت شعار « نصرة أهل السنة فى سوريا «. وفى عام 2011بدأ تواجد القاعدة مع ظهور جبهة النصرة بقيادة أبو محمد الجولانى. وفى 2013أعلن البغدادى دمج جبهة النصرة مع العراق تحت مسمى «داعش». وإن نفى الجولانى بعدها خبر الدمج وأعلن مبايعته تنظيم القاعدة فى أفغانستان.
وأين كانت فرنسا؟ كانت العلاقات الفرنسية - العراقية جيدة للغاية، خصوصا بعد موقف الرئيس الفرنسى تشارل ديجول الداعم للدول العربية 1967فى حربها ضد إسرائيل، وكان العراق من أكثر الدول المصدرة للنفط إلى فرنسا، وقامت فرنسا ببناء مفاعل العراق النووى «تموز» الذى فجرته إسرائيل عام 1981.. كما ساندت فرنساالعراق فى حربه على إيران. ولم ينقطع شهر العسل إلا بعد غزو العراق للكويت، حيث شاركت فرنسا بقوات عسكرية فى حرب الخليج الثانية، وبهذا فقد شاركت فى وضع أول مسمار فى نعش العراق حين قدمت 18ألف جندى للمشاركة فى عاصفة الصحراء. كما نتج عن حرب الخليج الثانية تدمير بنية العراق التحتية وجيشه وحرسه الجمهورى الذى كان يعد من أقوى جيوش المنطقة، وتم فرض عزلة شديدة على تلك البلاد إثر قرار هيئة الأممالمتحدة فرض عقوبات اقتصادية خانقة عليها، استمرت ثلاثة عشر عاماً عانى منها البلد بشدة. فالأضرار التى لحقت بالبنية التحتية للعراق من مصافى النفط ومولدات الطاقة الكهربائية ومحطات تصفية المياه، أدت إلى تدنى هائل فى جميع المرافق الاقتصادية والصحية والاجتماعية فى العراق. نتج عن الحرب الجوية تدمير 96%من مولدات الطاقة الكهربائية لتعيد مستويات إنتاج الكهرباء فى العراق لما قبل عام 1920.. كما أقامت الولاياتالمتحدة، منطقة حظر الطيران لحماية المدنيين العراقيين فى منطقة الشمال والجنوب، وهذه المنطقة كانت العامل الرئيسى فى إقامة إقليم كردستان فى شمال العراق لاحقا. وكان للحصار تأثير كبير شمل جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية. فقد أدى الحصار إلى ارتفاع نسبة التضخم ليصل إلى 2400%فى عام 1994. كما أدى الحصار إلى هجرة أكثر من 23ألف باحث وطبيب ومهندس عراقى إثر انخفاض معدلات أجر الفرد إلى أكثر من النصف. وقد صاحب الحصار ارتفاع معدلات وفيات الأطفال وسوء التغذية وانخفاض معدلات التحصيل العلمي. فقد تعرض أكثر من 4,500طفل شهرياً للوفاة نتيجة سوء التغذية والأمراض حسب تقديرات اليونسيف. كما ألزم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدةالعراق بتخصيص 5%من عائدات بيع النفط لتعويض الكويت عن الأضرار التى خلفها الجيش العراقي. وقد جمعت اللجنة التابعة للأمم المتحدة ما قيمته 386مليار دولار حصلت الكويت منها على 39مليار دولار فقط. عندما صدر القرار 1441من مجلس الأمن والذى يقضى بعودة لجان التفتيش عن الأسلحة إلى العراق، وفى حالة رفض العراق التعاون مع هذه اللجان تتحمل عواقب وخيمة، وقفت فرنسا مع كل من روسيا والصين تعارض قيام الولاياتالمتحدة بشن حرب عسكرية على العراق.. لكن فرنسا لم تكن ترفض الهجوم من حيث المبدأ، بل كانت ترغب أن تكون هذه الحرب تحت مظلة الأممالمتحدة وبقوات يحدد قوامها مجلس الأمن ويحدد مهمتها والمدة الزمنية التى ستقضيها فى العراق، وهو ما وجده المحللون موقفا يستهدف تحقيق أهداف إستراتيجية بحتة وليس انتصارا لفكرة دعم مشروعية الحرب وهو ما أعلنه بان كى مون نفسه، حين أكد أن قرار الحرب يتعارض ودستور الأممالمتحدة. فقد كانت فرنسا تريد التصد لواشنطن وسياستها فى تهميش أوروبا وفرنسا خصوصا فى منطقة الشرق الأوسط وكذلك الحد من التوغل الاقتصادى المنافس لفرنسا فى القارة الإفريقية عموما التى تعتبر فرنسا بأجزاء كبيرة منها بحكم تاريخها الاستعمارى جزءا منها وتابعا ومناطق نفوذ. ووقعت الحرب ولم تشارك فرنسا بقوات عسكرية، لكنها لم تستعمل حق الفيتو ضد الحرب وإن اكتفت بالتلويح به.
بين بغداد وباريس إن فرنسا التى غضت الطرف عن الاحتلال الأمريكى للعراق أو بالأحرى لم تتخذ موقفا إيجابيا حقيقيا، وفرنسا التى استقبلت أفمام الخومينى ليبدأ منها رحلته إلى طهران وإلى تصدير التشيع، مسئولة بشكل أو بآخر عن الهجمات التى تعرضت لها باريس أخيرا.. فداعش التى نفذت الهجمات هى نتاج طبيعى لسقوط بغداد، ومساندة السنة فى العراق لداعش وانقسامهم ما بين مؤازرتها ومؤازرة واشنطن، إنما هو رد فعل طبيعى وتصرف مضاد فى مواجهة الدور الإيرانى فى ترسيخ الطائفية بالعراق.. فالسنة يرون أن الميليشيات الشيعية أكثر خطرا عليهم من داعش.. تلك الميليشيات التى تتبنى فكر الثورة الإيرانية التى حمتها يوما ما باريس.. .حقا إن الأيام دول وباريس تدفع الآن جزءا من فاتورة مواقفها السياسية والتاريخية.. ولا يعلم أحد من سيكون عليه الدور، ويكفى أن نذكر ما صرح به الفيسلوف الفرنسى ميشال أونوفرى : ظلمنا المسلمين وجرائمنا فى حق شعوبهم هى سبب الإرهاب.. نحن نقتلهم كل يوم فكيف نريد منهم أن يظلوا مسالمين.. ليست حقوق الإنسان هى التى تحرك الرئيس أولاند فى مالى مثلا.. فلماذا لا نتحرك فى إسرائيل؟»