نعم. بدون خشى أو حياء سوف تفاجئك من بعيد ألوان القطع النحتية التى تتدلى من الأسقف بألوانها المبهجة فى أجنحة الملكات مثل ثريات، لكنها من نسيج مصنوع فى البرتغال بلد الفنانة صاحبة الأعمال، وسيدهشك هذان الكرسيان التوءمان من المعدن فى قاعة المرايا الشهيرة، حتى إذا مررت بقاعة «المعارك» ستجد طائرة هليكوبتر. وقد طليت بطلاء مذهب وكستها أعداد من ريش النعام الوردى. هناك داخل قصر فرساى، حيث لا شىء سوى الفخامة والأبهة. وكيف لا، وهو القصر الذى ارتبط باسم الملك لويس الرابع عشر، رغم أنه أنشىء فى عهد لويس الثالث عشر إلا أن الملك الشمس كما كان يلقب فى القرن السابع عشر والذى اتخذت طرز العمارة والأثاث اسمه «لوى كاتورز» قام بتوسعات شاسعة جعلت منه قصر وحدائق فرساى الذى نعرفه اليوم، وأصبح فى عهده مكان البلاط الملكى لفرنسا.
إذا تابعت ردود أفعال الزائرين من حولك، ستجد خليط شديد التباين ما بين الامتعاض التام والاحتفاء والإعجاب بفنانة شابة صعد نجمها فى مسقط رأسها البرتغال، وفى باريس التى تقطن بها منذ سنوات. قد تسمع رجل خمسينى يستنكر أن يتم «تشويه» القصر التاريخى بتفاصيله وطرزه بإقحام القطع الفنية ليس لشىء إلا لإحداث صدمة للمتلقى أمام تقاليع الفن التى لا تنتهى، بينما إذا تلاقت نظراتك مع شابتين متحمستين وتبادلت معهما الحديث، سوف تجد الحفاوة البالغة بالفنانة المعاصرة جوانا فاسكونسيلوس، إذ تبادر إحداهما قائلة: «الموضوع جدلى للغاية ما زال هناك المعارضون والمؤيدون، لكنى أرى أن التراث والتاريخ هما عناصر حية تتفاعل مع أحداث الحياة، لماذا نصر على تحويلهما إلى متحف مقدس لا يمكن لمسه أو الاقتراب منه؟ لماذا لا ننظر للأعمال كمصدر للخيال والإلهام تساعدنا على الغوص فى التاريخ وتخيله بصورة ملموسة؟».
أما إدارة المعارض فى فرساى، فقد فتحت أبواب كل من الحديقة المترامية الأطراف والقصر المهيب لاستقبال الفن المعاصر منذ عام 2008، حيث استضافت أعمال الأمريكى جيف كوونز، واليابانى تاكاشى موراكامى، والفرنسيين كسافييه فيلهان وبرنار فينيه، حتى أتت البرتغالية جوانا لتكون أول فنانة امرأة تعرض داخل فرساى. ولم يعق إدارة المعارض فى القصر الانتقادات الشديدة التى وُجهت إليها، حيث اعتبرت دائما أن التراث حى لا يموت، بل يتطور ويتفاعل مع الواقع الذى نعيشه من خلال الفن المعاصر.
علاقة الكلاسيكى بالعجائبى
وأيا كان رد الفعل أثناء زيارة القصر، سواء كان الغضب والرفض أو الدهشة والاستحسان، أمام الكائنات العجائبية التى «تعترض» طريقك أثناء الجولة فى حضرة لويس الرابع عشر ومارى أنطوانيت، سوف تفرض عليك التوقف، ولو للحظات. وإذا تقبلت الفكرة ستدرك أن الهدف من العمل ليس مجرد الصدمة المفرغة من المضمون، بل أن هناك تفكير مسبق وفلسفة داخلية لأعمال الفنانة. حيث تشير الفنانة فى تقديمها للمعرض الذى أفردت له إدارة فرساى فترة ثلاثة أشهر كاملة من يونيو الماضى وحتى آخر سبتمبر الجارى أن عملها يتطور فى إطار عالم الأوبرا، حيث وجدت فى فرساى المثال الأوبرالى النموذجى من الناحية الجمالية أو كما تقول: «الأعمال التى أقدمها فى هذا المعرض قد شهدت ميلادها خصيصا لهذا المكان، أراها فقط فى فرساى وبشكل يتجاوز الزمان. فحين أعبر صالونات قصر فرساى وحدائقه، أشعر بطاقة المكان التى تتأرجح بين الواقع والحلم وبين اليومى والسحرى وبين الاحتفالى والمأساوى».
ففى القاعة التى تحمل اسم «قاعة المعارك» تتدلى ثلاثة ثريات عملاقة مصنوعة من الأقمشة الفاخرة، وإذا ما تم تأملها ستجدها لشخصيات محاربة، وستعلم أنها كائنات أنسوية تسمى «فالكيريز»، أو آلهة ترجع لأساطير الشمال القديمة، والتى كانت تختار الموتى من المقاتلين الشرفاء لتحملهن إلى العالم الأعلى، وهى نفس الشخصيات التى كانت بطلات أوبرا شهيرة لفاجنر تحمل نفس الاسم.
أما فى قاعة مارى انطوانيت، سيجذبك بجانب «سرير» الملكة وجود «شماعة» على هيئة بيضة خشبية تتدلى منها أشكال وألوان من الشعر المستعار، وقد يلتبس الأمر حينها على المتلقى حين يحلق بخياله فى الصور التى طالما شاهدها فى الأفلام الأجنبية لأزياء القرن السابع عشر، والشعر المستعار الذى كانت تبدله الملكات والنبيلات كل حسب مركزه الاجتماعى، ولا يعلم إن كان هذا المشجب هو أحد مقتنيات القصر أم هو أحد أعمال جوانا فاسكونسيلوس.
حتى إذا كانت المحطة الأخيرة فى قاعة المرايا التى مادام كُتب عنها فى كتب التاريخ، فاجئتك تلك الطائرة الهليكوبتر، وقد حطت وسط دهشة الجمهور، وقد كستها الفنانة بريش النعام الوردى، وطلت أجزائها المعدنية بطلاء مذهب يذكرك بطرز المقاعد المذهبة التى تنتمى لعصر لويس الرابع العشر. وبعيدا عن التناقض الزمنى بين عصر الخيل فى القرن السابع عشر وبين عصر الهليكوبتر فى القرن الواحد والعشرين، حاولت الفنانة أن تبدل آلة الحرب لتجعلها قطعة فنية انسانية بزخارفها المختلفة ونعومة ريش النعام، ولم تنسَ فى اختيارها لريش النعام أنه أحد الحيوانات المفضلة لدى مارى انطوانيت والتى كانت تربيها فى حديقة القصر لتزين بريشها قبعاتها المختلفة.
ورغم هذا الانفتاح الذى يميز الساحة الفنية فى مدينة النور، ورغم شروع قصر فرساى فى استقبال الفن المعاصر ليحل ضيفا وسط مقتنيات القصر التاريخى، ليس انحيازا للفن على حساب التراث، بل احتفاء بتراث يتجدد مع إيقاعات الحاضر، رغم ذلك كله قامت إدارة المعارض بالقصر ب«تجنيب» عمل فنى بعنوان «المخطوبة» وعدم عرضه، وهو عبارة عن ثرية أو «نجفة» عملاقة مصنوعة من عشرات الآلاف من المفردات الصحية النسوية، اعتبرته الفنانة «منع» و«رقابة»، بينما اعتبرته الإدارة غير متسق مع المكان.