تركيا تحشد قواتها شمال كردستان وشاحناتها تنقل النفط من جنوبه يوميا الصدام يشتعل فى كركوك وجازبروم الروسية تستثمر مليار دولار فى أربيل الأصوات الدولية تتعالى ضد الاستفتاء.. وليس ضد انفصال كردستان عن العراق
تل أبيب تستخدم الأكراد غرب إيران.. مقابل الوجود الإيرانى شمال إسرائيل
يوم الإثنين الماضى، حشدت تركيا قواتها فى منطقة سمبولى خابور للتلويح بالقوة على الأطراف الشمالية لإقليم كردستان العراق، وفى ذات اليوم التقى أردوغان الرئيس الفرنسى ماكرون لوضع خطة تردع الأكراد عن القيام بتصويت على استفتاء يمهد لانفصال الإقليم عن العراق وإنشاء دولة جديدة.. حدث كل هذا بينما كانت نحو 700 شاحنة نفط تابعة لشركة «جينيل» التركية للنفط تقوم بعملها المعتاد فى نقل النفط الخام الكردستانى فى طريقها عبر الممرات الجبلية شمال العراق، وصولا إلى الأراضى التركية.. ومنها إلى إسرائيل.
اللقاء الذى جمع أردوغان وماكرون كان يظهر أيضا تفاهما مع شركة «توتال» الفرنسية وبى. بى، وهيس، وشركة إينى الإيطالية.. فى وقت أعلنت فيه فى نفس اليوم بوضوح مطلق عملاق النفط الروسى جازبروم ضخ مليار دولار للاستثمار فى خط أنابيب كركوك - شيهان لنقل الغاز الكردستانى لتركيا.
بينما يشكل إقليم كردستان العراق نحو 10بالمائة من الأراضى العراقية، فإن الاحتياطيات المؤكدة من النفط فيه 45 مليار برميل، تجعلها العاشر على العالم فى إنتاج النفط بعد ليبيا، إذا ما تحولت الدولة وفقا لتقديرات بى بى «بريتش بتروليم البريطانية»، لكن فيما يبدو أن بيروقراطية بغداد تسبب العديد من المشاكل لشركة إينى الإيطالية التى شكا مديرها التنفيذى باولو سكارونى من معاناته منها، خصوصا أن الشركة الإيطالية خصصت 7 مليارات دولار لتطوير حقول النفط والغاز جنوب كردستان، ولم تتمكن سوى من استثمار 3 مليارات منها، لا غير، وهو أمر يتشارك فيه مع السيد هايوورد رئيس بريتش بتروليوم البريطانية السابق، الذى شكا فيه من تعقيدات العمل مع بغداد، بينما يشعر بالأمن والأمان وإمكانية تحقيق الإنجازات فى أربيل.
نعود ليوم الإثنين الماضى، حيث كان وزير الدفاع البريطانى فالون فى أربيل عندما لقى مواطن كردى مصرعه وأصيب العشرات فى مواجهات بمدينة «كركوك» على خلفية الترويج لاستفتاء فى أغنى بقعة فى العراق نفطيا، المواجهات جرت بين تركمان وأكراد، ما أفضى لفرض حظر تجول فى كركوك، القرار صدر من بغداد فى الساعات الأولى من صباح الثلاثاء، وفى اليوم ذاته صرح عباس بياتى، نائب قائد الجبهة التركمانية، بأن المواجهة هى محض بداية لاقتتال أهلى فى كركوك بين العرب والأكراد والمسيحيين والتركمان، لكن الأخطر، أن قوات الحشد الشعبى الشيعية المدعومة إيرانيا، أعلنت أنها ستقاتل قوات البشمرجة الكردية لطردها من كركوك، إذا ما أصر الأكراد على إجراء الاستفتاء فى المدينة النفطية التى لا تقع أصلا فى النطاق الجغرافى لإقليم كردستان.
وقائع قتل معلن قصة الساعات الثمانى والأربعين التى ركزت فيها على جغرافيا الصراع النفطى والسكانى فى إقليم كردستان، الذى يحضر نفسه للاستفتاء على الاستقلال بعد غد 25 سبتمبر 2017، تكشف بوضوح تام ما ينتظر جغرافيا العالم العربى من مخاطر وتعقيدات فى بيئة الأمن القومى، والأهم: كمية الدماء التى ستسكب فى العراقوالكويت والسعودية والأردن مقابل استثمارات النفط فى كردستان من قبل عمالقة النفط والغاز فى الشرق والغرب.
انفصال كردستان عن العراق هو قرار تم اتخاذه يوم قرر بول بريمر، المندوب السامى الأمريكى فى بغداد فور احتلالها فى 2003، وتم إقراره مع الدستور العراقى الذى كتبه نوح فيلتمان، ليكرس ضياع العراق الذى نعرفه، تحت ستار نشر الديمقراطية، وهو القرار الذى اتخذته إسرائيل منذ منتصف خمسينيات القرن الماضى، مع قرار نزع جنوب السودان عن سياقه، وهو ما تم إنجازه أولا.. تل أبيب لا تقف اليوم داعمة لعملية انفصال كردستان عن العراق، بل تقف راعية لهذا الانفصال، خصوصا أن 75 بالمائة من النفط الذى تستورده يأتيها من كردستان، وتدفع فى مقابله تسليحا وتدريبا ودعما سياسيا، ومليار دولار سنويا.
المسرح لا يحتاج لجمهور يشهد رواية يعرفها سلفا، فمن قبل إجراء الاستفتاء بساعات وتداعيات الانفصال بدأت فى التفاعل، فبرغم أن الاستفتاء لا يعنى الانفصال الفورى، فإن عجلة القتل دارت ما بين الأكراد والتركمان، ودارت معها عجلة الصدام الشيعى الكردى، ما يعنى أن جنوبالعراق الذى تضطرم فيه نيران العنف أصلا سيبدأ فى رد الفعل، ومع وجود أهداف جيوسياسية من قبل إيران تجاه السواحل العربية المقابلة لها على الخليج، فإن النيران أولا ستطال الكويت، ومع اندلاع المواجهات لن تضيع الجماعات الجهادية السنية وقتا فى إشعال الموقف شمال السعودية وشرق الأردن، ولا مبالغة إذا قلت إن مصر قد تواجه الإرهاب قبالة سواحل ميناء العقبة، وهو سيناريو سبق للقوات المسلحة المصرية أن توقعته فى تدريبات مشتركة مع القوات الأردنية لمواجهة الإرهاب فى العقبة، المنفذ البحرى الوحيد للأردن للاتصال بالعالم.
الخداع.. من جديد
إقليم كردستان العراق يسيطر على جبال زاجروس وكردستان، وهى حدود المجال الحيوى للأمن القومى المصرى منذ قرون، وبالنظر إلى الألاعيب الجيوسياسية التى كانت ولا تزال إسرائيل تقوم بها على أطراف العالم العربى، وبالذات فى تلك الحواشى غير العربية من حيث تركيب السكان، وبالنظر أيضا إلى تدخل أطراف دولية لإعادة رسم الجغرافيا فى هذا الإقليم لضمان نفوذها ومصالحها، أضف إلى ذلك اللاعبين الدوليين من دون دولة وأخطرهم على الإطلاق شركات النفط والغاز التى تتزاحم لاستغلال موارد هذا الإقليم، ناهيك عما يمثله الصراع فى هذه المنطقة بالذات من إيجاد نقاط تعيق تمدد النفوذ الصينى بامتداد مسار طريق الحرير، وهو المشروع الإستراتيجى الصينى للقرن الجديد، كل هذا يرسم صورة بالغة القتامة حول مستقبل المنطقة العربية بأسرها لمجرد انفصال إقليم كردستان العراق، وهو واحد من أقاليم كردية متعددة توجد فى إيران وأرمينيا وتركياوسوريا تجسد شعبا قوامه 30 مليون كردى، لا يقيم منهم فى كردستان العراق سوى 5 ملايين نسمة. وفى وقت تتزايد فيه الصيحات العلنية بضرورة تأجيل استفتاء إقليم كردستان العراق، من عواصم العالم بما فيها واشنطن بدعوى أن هذا الاستفتاء يصرف الانتباه عن مكافحة داعش، فإن القرار القاطع بشأن انفصال الإقليم قد تم توقيعه من قبل شركات النفط العالمية، وتم ختمه إسرائيليا، حيث تأمل تل أبيب فى إيجاد منطقة نفوذ محاذية للحدود الإيرانية مقابل مناطق النفوذ الإيرانية المحاذية لشمالها فى الجولان وجنوبلبنان وبينما تلوح طهران بإغلاق الحدود مع كردستان العراق وإنهاء كل الاتفاقات معها، لا يوجد فى العالم صوت واحد يدين تقسيم العراق أو يطالب بوقف هذا التقسيم.. فقط تدور التصريحات الرسمية حول تأجيل هذا التقسيم.
وبرغم أن الأصوات الغربية تبدو أكثر حزما تجاه استفتناء إقليم قطالونية للانفصال عن إسبانيا، وهو محض مقدمة لانفصال إقليم بافاريا عن ألمانيا عقب الانتخابات المقبلة، فإن التواطؤ على تقسيم العراق يبدو جليا فى تناقضات القول والفعل، حتى عند أكثر اللاعبين الدوليين تطرفا فى التلويح باستخدام الورقة العسكرية، فتركيا التى حضرت قواتها للاشتباك شمال كردستان وشمال سوريا ردا على الاستفتاء، تواصل شاحناتها السبعمائة يوميا نقل النفط الكردستانى إلى أراضيها، ومثلما كان تاريخ الأكراد يمتلئ بالخداع من قبل القوى العالمية، وأبرز هذه الخدع معاهدة سيفر فى أعقاب انهيار الدولة العثمانية، فإن الخداع هذه المرة ظاهريا يعمل لصالح الأكراد من أجل ما يقفون عليه من آبار النفط والغاز،، لكنه سيريق دماءهم من جديد لحساب شركات النفط، وإذا كان الأكراد تاريخيا قد ساعدوا تركيا ضد الأوروبيين فى الحرب العالمية الأولى، وخانهم الأتراك، وساعدوا إيران فى حربها ضد العراق وخانهم الإيرانيون، وساعدوا الأمريكيين فى غزو العراق، ومن بعده بالإسناد المخابراتى والبشمرجة ضد القاعدة، فإنه فيما يبدو أن المثل القائل إن الأكراد خلقوا ليخدعهم الآخرون.. صحيح إلى حد بعيد.