أمست دول أوروبا أهم روافد تجنيد عناصر متميزة للتنظيمات الإرهابية، وتناولت تقارير إعلامية ومعلومات استخباراتية، انخراط أعداد كبيرة من الأوروبيين لتنظيم «داعش»، واللافت أن هؤلاء الشباب ليسوا من أصول إسلامية، لكنهم أبناء عائلات أوروبية، فلماذا يغادرون بلادهم، ويتخلون عن الحداثة، وقيم الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، للانضمام لتنظيمات وحشية ويتحوّلون لمقاتلين شرسين، ويتبنون الأفكار الجهادية المتطرفة، ويُغيّرون أسماءهم وهويّاتهم، ويقطعون أواصر التواصل بأسرهم، ويتخلّون عن جنسيّاتهم، ويبدّلون نمط حياتهم وهيئة ملابسهم وسلوكهم، ويفجرون أنفسهم، فلماذا وكيف يحدث هذا؟! البداية كانت بمقهى شمال سوريا حيث يجلس تشارلز الذى أصبح اسمه «أبوسميّة البريطاني» الذى يعيش هناك منذ عامين أمام شاشة الكمبيوتر، لتطوير وإدارة برنامج «داعشّو ISIS SHOW» وهو برنامج بثّ صوتى يستخدمه التنظيم للدّعاية لما يسمى دولة الخلافة عبر الإنترنت، ويتحدث عبر خدمة «سكايب» للصحفى جوناثان ليكرون مقدّم برنامج «Jihadistuff» عن كرة القدم، قائلا إنّ شغفه يتضاءل كلّما تقدم بالسّن، وإنّه كان مشجعًا لمانشستر يونايتد، لكن أغلب مقاتلى «داعش» يشجعون ريال مدريد، وبرشلونة.
يتحدث عن حياته الجديدة مؤكدًا سعادته البالغة وأنّه لم يعد يأبه لجنسيته البريطانية أو جواز سفره ولا يعرف حتّى أين تركه، ويقول إنّ الكثيرين من رفاقه لا ينوون مطلقًا العودة لبلدانهم الأصلية وقطعوا كل صلاتهم بها وأحرقوا جوازات سفرهم، ويضيف «نحن هنا نتمتّع بالحرية التّامة، يمكننى أن أقود سيارتى وأذهب حيثما شئت، ولا أحتاج حتى لرخصة قيّادة». أما الشاب الفرنسى بيير شوليى (19 عاماً) فقد بعث رسالة مقتضبة بعدما اختفى فجأة كتب فيها: «أمي، أبي، لقد ذهبت لسوريا لأساعد النّاس، ولا تقلقا، سأتصل بكما حينما يمكننى ذلك»، فظنّ والداه أن ابنهما تطوع لدى المنظمّات الإغاثية فى سوريا، خاصة أنّه أخبرهما بإحدى رسائله أنه يعلّم الأطفال السوريين كرة القدم، لكنّ هجوماً انتحاريّاً بالعراق قطع الشك باليقين، ففى تسجيل بثّه «داعش» لهجوم بشاحنة مفخخة على قوات حكومية بمحافظة صلاح الدين، ونعى التنظيم منفّذ الهجوم «أبو طلحة الفرنسي» وهو المراهق بيير شوليي.
وزخرت كتب الرحالة الغربيين بالأساطير حول «طائفة الحشاشين التى اشتهرت ما بين القرن 11 و13م، فنجد الإيطالى ماركو بولو يصف «أسطورة الفردوس» ونقرأ بكتابه «قلعة آلموت» معقل الطائفة التى أسسها الحسن الصباح: «كانت الحديقة تضم أشجار الفاكهة، والقصور الفارهة، وجداول تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء، وبنات جميلات يغنين ويرقصن ويعزفن الموسيقى، ليوهم الشيخ أتباعه بأنها الجنة، وكان دخولها مقصورًا على أعضاء الجماعة الذين يختارهم شيخ الجبل ليدخنوا الحشيش ويضاجعوا الحسناوات ويتناولوا أطيب الطعام والخمور، وعندما يستيقظون يعتقدون أنهم ذهبوا الجنة، وبعدما يُشبعون شهواتهم يجرى تخديرهم مجددًا، لإخراجهم وإرسالهم لشيخ الجبل، فيركعون أمامه، ويسألهم من أين أتوا؟، فيردون: «من الجنة»، بعدها يرسلهم ليغتالوا أشخاصًا محددين؛ ويعدهم حال نجاحهم بمهماتهم فإنه سيُعيدهم للجنة، وإذا قُتلوا فستحملهم الملائكة للجنة».
مأزق أوروبي
وتحوّل الأمر بدول أوروبية أبرزها ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وهولندا وغيرها لظاهرة خطيرة، تقتضى بحث جذورها الاجتماعية والنفسية، بعدما وصلت لمرحلة لا تكفى الحلول الأمنية وحدها معالجتها؛ وهى النتيجة التى توصّلت إليها دراسة نشرتها دورية «مقاربات حول الإرهاب»، واستندت لبحوث إثنوجرافية وخلفيات نفسية واجتماعية لمجموعات شباب، لتقديم رؤية أعمق حول الوضعية العائلية للأوروبيين المتورطين بالإرهاب، وتشير معدّة الدراسة ماريون فان سان إلى أنه رغم أن هذا البحث لا يعدو أن يكون عيّنة صغيرة، لكن يمكنه المساهمة فى التوصل لفهم الأسباب التى تجعل هؤلاء الشباب ينضمون لتنظيمات الإرهاب بمناطق الصراعات الدامية.
وتعتبر السلطات الألمانية أن جذور الأزمة بدأت بالسلفيين المتطرفين، وتؤكد صلات مباشرة تربطهم بالدواعش، ويقول آلان رودير، ضابط المخابرات السابق والخبير بالمستشارية لمكافحة الإرهاب: «إن الجسر قصير بين الطرفين»، ووفقًا لبيانات أعلنتها الداخلية الألمانية فإن السلفيين يشكلون الحركة الإسلامية الأكثر فعالية بألمانيا، ويتجاوز أتباعها عشرة آلاف مقاتل، وفى فرنسا صرح مسئول أمنى بأن نحو مائة مسجد يسيطر عليها السلفيون، ورغم أن العدد ليس كبيرًا مقارنة بعدد المساجد بفرنسا، الذى يتجاوز ألفى مسجد، لكنه يتضاعف باطراد. ويتفاقم الأمر فى بريطانيا فنحو 7% من مساجدها البالغ عددها 1740 مسجدًا يسيطر عليها سلفيون، وفقًا لمحمود نقشبندي، خبير مكافحة التطرف، ومستشار الحكومة الذى يدير قاعدة بيانات ترصد التيارات الإسلامية المختلفة، ويشير لتزايد مطرد بين المراهقين الإنجليز، وتبنيهم للأيديولوجية الجهادية.
ويُقدّر تقرير أصدرته «مجموعة سوفان»، للاستشارات بشئون الأمن والإرهاب، أن غالبية المقاتلين الغربيين بسوريا والعراق مضطربون نفسيًا وعانوا غياب الدعم الاجتماعي، وتقول جيسيكا ستيرن المحللة بمجلة «نيوزويك»: الواضح أن أهم الأسباب التى تجعل الأوروبيين يعتنقون مفاهيم إسلامية متعصبة رغبتهم بتشكيل هوية جديدة، وبالنسبة للمنضمين لتنظيم إرهابي، فهناك عنصر البحث عن الإثارة، وربما الانسياق المرضى لممارسة العنف الوحشي.
وكشفت الدراسة أن عددًا من الدواعش الأوروبيين عانوا أزمات اجتماعية خلال مرحلتى الطفولة والمراهقة بالإضافة لإدمان بعضهم للمخدرات، وتورّط بعضهم بقضايا جنائية، وشكّل التحول للإسلام وسيلة للهروب من أنماط حياتهم السابقة، وبعضهم توجه لسوريا سعيًا لغفران خطاياهم.
وعرضت الدراسة أمثلة، كالشاب سيمون، الذى تحول للإسلام عام 2006 لبحثه عن معنى جديد لحياته، واعترض والداه على اعتناقه الإسلام، وتسبب بخلافات مع أسرته، فتزوج عدة مرات وانتهت زيجاته بالطلاق؛ وهناك أيضًا تشيستر الناشط بالمجال الاجتماعي، ومنذ عام 2011 بدأ قراءة القرآن «بدافع الفضول»، وكان والداه غاضبين لتحوله للإسلام خشية انعزاله عن محيطه وجيرانه، خاصة بعدما أطلق لحيته وارتدى «الزى الأفغاني».
جنة «داعش»
وتساءلت مجلة «إيكونوميست» البريطانية عن دوافع انضمام الشباب الأوروبيين لتنظيم «داعش» وعما يقدمه لهم ليتنازلوا عن نمط حياتهم، وعما سيفعلونه لدى عودتهم لأوطانهم، وأرجعت إقبال الأوروبيين على الانضمام للجماعات الإرهابية لعدة عوامل كاستغلال الغربيين للترويج بأفلام دعائية، يتحدثون بطلاقة اللغات الأجنبية، ويتقنون استمالة أقرانهم، ويطلقون وعودًا سخية كدخول الجنة ووسائل الرفاهية كالمشروبات والمأكولات، وأشارت ل«هاشتاج» دشّنه «داعش» لدعوة الشباب الغربيين للانخراط بالتنظيم، بعنوان «جهاد خمس نجوم» على غرار «الحشاشين» لكن بأساليب معاصرة.
ونقلت عن الجهاديين الأوروبيين قولهم إن «داعش» توفر حياة رغدة، ولديهم الوقت للتدريب، وتعلموا الاعتماد على النفس، وتوفر الاتصال بالإنترنت عبر الأقمار الصناعية، للتواصل بأصدقائهم الغربيين لدعوتهم للانضمام للتنظيم.
ويشارك الجهاديون الغربيون بالمعارك، يذبحون معارضى «داعش» ولو كان من مواطنيهم باعتباره الطريق للجنة بأساليب «الحشاشين»، وبعضهم يقاتل للسيطرة على حقول نفط والقواعد العسكرية والأسلحة الثقيلة، بالإضافة لتقلدهم مناصب يفتقدونها بدولهم الغربية بهذه البساطة.
ويحصد «داعش» امتيازات بتجنيده للأوروبيين، فيستخدمهم لمساومة أهالى المختطفين الغربيين، فيرسلون تهديدات بقتل أبنائهم وتعذيبهم، ليدفعوا للتنظيم فدية تشكل أحد موارد «داعش»، وكان من أبرز أسباب الحفاوة بالجهاديين البريطانيين دون سواهم، لأنهم يتقنون الإنجليزية، اللغة الأكثر انتشارًا عالميًا، ويستغلهم «داعش» لتحقيق أهدافه.