التحديات الإقليمية و المتغيرات الدولية شيء، و المخاطر المباشرة شيء آخر تماما.. هذه الأخيرة مهما تعاظمت فهي مؤقتة و لها حدود و زوالها مرهون بتطوير (تكتيك) التعامل معها، لكن التحديات تثير كل ملكات ( الفن الإستراتيجي) و ترتقي به إلى سماوات أكثر علوا و اتساعا. نعم .. الإستراتيجية فن، و تأتي العلوم و الخبرات تالية لها لخدمة أهدافها و ملاحقة تلك (الرؤية) التي تتجاوز الحاضر والواقع الجغرافي إلى حيث يذهب العقل الاستراتيجي الذي يرى المستقبل بذكاء البصيرة.. لا محدودية البصر. التحديات توجد عادة (هناك) سواء في الجغرافيا او في المستقبل، و تحديدها ووضع الخطط الكفيلة بالقضاء عليها يتطلب إبداعا من طراز رفيع، وهذا الإبداع هو جوهر فن «الاستراتيجيا» وهو أيضا ما يميز شخصية النظم العسكرية في العالم .. طبعا لسنا في حاجة للإشارة إلى عبقرية قراءة الجغرافيا، وامتلاك القدرة على تسخيرها لخدمة أهداف الأمن القومي.. وطبعا يحق للجميع السؤال: هل تستحق قاعدة محمد نجيب العسكرية التي تفتتح اليوم كل هذه المقدمة كي نفهم القيمة الجيوستراتيجية لها ؟، و هل تكفي هذه القاعدة العسكرية الأولى من نوعها في قارة إفريقيا والعالم العربي للقضاء على التحديات و تأمين مصالح الأمن القومي المصري في عالم متغير؟، و الأهم: ما الذي تعنيه هذه القاعدة العسكرية الضخمة المتكاملة المتطورة لخارطة النفوذ الإقليمي والتوازنات الجديدة في القرن الحادي و العشرين؟ للإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي ان نضع في اعتبارنا ثلاثة حقائق: الأولى ان هذه القاعدة و إن كانت الأولى إلا أنها لن تكون الأخيرة على أرض الدولة المصرية. الحقيقة الثانية: إن هذه القاعدة لا تختص فحسب بالمهام الدفاعية في محيطها الجغرافي وإنما أيضا الدفاع عن مصالح مصر داخليا و خارجيا. الحقيقة الثالثة: إن هذه القاعدة تشكل في ذاتها مجرد سطر جديد في سجل الفكر الاستراتيجي المصري.. وهو فكر له سماته وخصائصه التي يعرفها جيدا خصوم الدولة المصرية قبل أصدقائها، و يدركها إدراكا بالغا أهم الباحثين في العلوم العسكرية في أعرق الأكاديميات العسكرية شرقا وغربا، ما جعل للفكر الاستراتيجي المصري مكانته واعتباره وتقديره دوليا.. ولعل واحدة من بين هذه الخصائص و السمات المتعددة تكشف لنا عن جانب مثير للانتباه.. ذلك أن العقل الاستراتيجي المصري لا ينظر لامتلاك القدرة كغاية في حد ذاتها، وإنما يعتبر القدرة مجرد وسيلة (مناسبة) للتهديدات و التحديات على السواء.. وأن هذا العقل لا يعمل بطريقة المثير والاستجابة أو بما نعرفه في حياتنا العامة على أنه: الفعل ورد الفعل.. بطريقة ابسط يمكننا القول بأنه عقل لاحدود لإبداعه وبالتالي لا يمكن توقع نواياه و لا يمكن إخضاعه لضغوط تحد من تطوره أو حتى دفعه أو جره باتجاه معين .. وهذه الخصائص هي أبرز سمات الاستراتيجية التي تعرف في العالم بأسره على أنها: فن الإبقاء الدائم على المبادرة وإفقادها عند الخصوم. هنا تأتي الاجابة عن السؤال الأول.. فهذه القاعدة شهدت قبل الإعلان عن افتتاحها اليوم 22 يوليو 2017 بتسعة أشهر، و تحديدا في اكتوبر من العام الماضي المناورات العسكرية المصرية الروسية (حماة الصداقة2016).. و كانت تلك المناورات هي المرة الاولى في التاريخ الحديث و المعاصر التي تطأ فيها العسكرية الروسية أرض قارة أفريقيا (و يتوجب هنا التفريق بين وجود الخبراء السوفييت في حقبة معينة و طبيعة أعمالهم و بين مهام وحدات الجيش الروسي التي شاركت في هذه التدريبات) .. هذه المناورات التي شاركت فيها عناصر مقاتلة من المظلات ووحدات الانزال الجوي و القوات الخاصة اكسبت الجانب الروسي خبرات غيرت من معادلات القدرة لدى الجيش الروسي وأربكت حسابات خصوم هذه القدرة ما دفع بعدد من الخبراء و المحللين الاستراتيجيين في الغرب للدعوة لاعادة حسابات القدرة الروسية في ضوء الأهمية الجيوستراتيجية لموقع التدريبات الذي كان معروفا منذ عام 1993 على أنه مجرد مدينة عسكرية تقع بمنطقة الحمام غرب الإسكندرية .. أي نطاق المنطقة الشمالية العسكرية. طبعا المعنى هو أن هذه القاعدة الضخمة أنتجت ثمارا قبل أن يتم الإعلان عن افتتاحها.. والأهم : أن تدريبات مشتركة أخرى مع عدد آخر من الدول و بالذات روسيا والولايات المتحدةالأمريكية ستتم على أرض هذه القاعدة وبصرف النظر عن مواعيدها الدورية .. نعم سيتعرف الطرفان على قدراتهما – و ربما وجها لوجه- من خلال التدريب المشترك مع العسكرية المصرية و انطلاقا من قاعدة محمد نجيب العسكرية التي اكتسبت من قبل إعلان افتتاحها قيمة (جيوستراتيجية) لدى جيوش القوى العظمى.. السطر المهم هنا ليس الخبر الصحفي الذي تحمله هذه السطور ولكنه سطر يتصل بإرادة العقل الاستراتيجي الذي قرر إقامة هذه القاعدة المتكاملة في هذا الموقع بالذات. السؤال الثاني وجد إجابته مع الإعلان عن افتتاح هذه القاعدة.. حيث جرى الإعلان رسميا عن التخطيط لإنشاء (عدد) آخر من القواعد العسكرية المتكاملة المماثلة على مختلف الاتجاهات الاستراتيجية.. وتأتي كلمة (متكاملة) للتمييز بين هذا النمط من القواعد الضخمة التي لا مثيل لها إلا لدى القوى العظمى في العالم.. وبين القواعد العسكرية النوعية (الجوية و البحرية و الصاروخية) وهو ما يعكس جاهزية بعينها (مناسبة) للتحديات التي تستهدف كيان الدول الوطنية.. و بالذات في حالة مصر التي يتكالب عليها اليوم الأعداء من كل حدب وصوب بهدف اسقاط الكتلة البشرية الصلبة (الأضخم عربيا بحجم 93 مليون نسمة) وإخضاعها لنظرية التفتيت و التقسيم.. ولعل الإعلان عن قرب افتتاح قاعدة (براني) إلى الغرب من هذه القاعدة يتيح لنا فكرة عن الأهداف الاستراتيجية ( المباشرة) الأربعة لإنشاء القاعدتين في نطاق الاتجاه الاستراتيجي الغربي وهي : حماية محطة الضبعة النووية ، وحقول النفط بالصحراء الغربية ، و مدينة العلمين الجديدة، وميناء مرسى الحمراء على المتوسط .. هذا بخلاف منع تسرب العناصر الإرهابية المسلحة عبر خط الحدود الغربية ومجابهة مختلف أنشطة تهريب البشر والمخدرات والسلاح.. بعبارة أخرى: إزالة أي وجه للفراغ الإستراتيجي في الصحراء الغربية مرة واحدة و للأبد. بالطبع تظل الأهداف (غير المباشرة) هي الأعمق أثرا والأضخم في الإسهام بمنظومة (الردع) والقدرة على الدفاع عن مصالح الأمن القومي المصري وهي في القلب تماما من منظومة الأمن القومي العربي وهكذا نصبح في عمق الإجابة عن السؤال الثالث.. معنى هذه القاعدة ومغزاها إقليميا و دوليا.. لقد سبقت منا الإشارة إلى أن مصر بعد ثورة 30 يونيو قد أصبحت (قوة عظمى إقليمية) وهو أمر أقره الخبراء والمحللون العسكريون في مختلف أنحاء العالم و إن غفلت عنه جانب لا بأس به من وسائل الإعلام المحلي لأسباب متعددة .. لكن ذلك لم يكن غائبا لا عن الإعلام الغربي ولا مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في الشرق و الغرب.. ولا يوجد لدينا أدنى شك في أن العقل الاستراتيجي الذي خطط وقرر إنشاء هذه القاعدة وما يليها من قواعد هو عقل يدرك أعباء ومتطلبات أن تكون مصر قوة عظمى ليس فحسب على مستوى إقليم شمال أفريقيا.. وإنما أيضا بكامل امتداد الخريطة من جبال زاجروس و كردستان في الشرق إلى سواحل المحيط في الغرب.. ومن كامل حوض شرق المتوسط وما يليه من تضاريس جبال طوروس شمالا.. إلى وسط وشرق قارة أفريقيا على الأقل.. ولعل الاتصالات والزيارات المباشرة التي قام بها عدد من كبار القادة العسكريين في العالم للقاهرة مؤخرا بمن فيهم قائد القيادة الإفريقية للجيش الأمريكي (أفريكوم) للتنسيق والتشاور تحمل عددا من الإشارات ذات المغزى في هذا الاتجاه. الخلاصة: إن سعي العقل الاستراتيجي المصري لإعادة بناء وتنظيم القدرات القتالية على جميع المحاور يتسق مع التطورات عابرة الحدود في القرن الحادي و العشرين بكل ما تحمله هذه التطورات من تحديات للأمن القومي المصري والعربي في عالم يفتقر اليوم إلى الاستقرار وتستخدم فيه قوى بعينها الإرهاب لتحقيق مكاسب جيوسياسية.. أي تستخدم فيه الإجرام المنظم في إعادة رسم الخرائط و هدم الدول الوطنية ذات السيادة.. لتلبية أطماعها. • هذه السطور كتبناها بعد زيارة الأهرام العربي لقاعدة محمد نجيب العسكرية بدعوة كريمة من القوات المسلحة المصرية قبل أن يفتتحها رئيس الدولة بثماني وأربعين ساعة.. وننشرها في نفس لحظة افتتاح القاعدة .