مستقبل وطن يطلق مؤتمرا لدعم مرشحي الشيوخ بدمياط الجديدة    تنسيق المرحلة الأولى.. التعليم العالي تنتظر نتيجة الثانوية للكشف عن الحد الأدنى    إلكترونيا.. رابط التقديم لكلية الشرطة لهذا العام    جامعة قناة السويس تنظم دورة تدريبية لتعزيز مهارات الذكاء العاطفي    إنفوجراف| تراجع أسعار الذهب اليوم الجمعة 25 يوليو    أسعار اللحوم الحمراء اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    أسعار النفط تصعد وسط تفاؤل بانحسار التوتر التجاري وخفض صادرات البنزين الروسية    في عمر ال76.. سيدة أسوانية تمحو أميتها وتقرأ القرآن لأول مرة (فيديو وصور)    وزير الإسكان : تلقي 6863 طلب توفيق أوضاع من المواطنين على مساحة إجمالية 58454 فدانا    انخفاض أسعار الحديد وارتفاع الأسمنت اليوم بالأسواق (موقع رسمي)    انقطاع مياه الشرب اليوم عن مناطق في الجيزة لمدة 6 ساعات    الخارجية الفلسطينية: اعتراف فرنسا بدولة فلسطين يمثل انتصارا للدبلوماسية    «القاهرة الإخبارية»: دخول 161 شاحنة مساعدات لغزة منذ الأمس    إيران والترويكا الأوروبية تناقشان البرنامج النووي في اسطنبول.. أي أفق للتسوية والاتفاق؟    تايلاند وكمبوديا تتبادلان إطلاق النار مجددا قرب الحدود المتنازع عليها    وزير الخارجية يسلم الرئيس السنعالي رسالة خطية من الرئيس السيسي    بعد إثارته للجدل.. أحمد فتوح يغلق حسابه على "إنستجرام"    مواعيد مباريات الجمعة 25 يوليو - الأهلي ضد البنزرتي.. والسوبر الأردني    موعد المباراة.. الزمالك يختتم معسكره بمواجهة وادي دجلة    صفقة الزمالك.. الرجاء المغربي يضم بلال ولد الشيخ    بعد إيكيتيكي.. ليفربول يستعد لإبرام صفقة قياسية    300 جنيه للمادة....بدء أعمال تظلمات طلاب الثانوية العامة يوم الأحد المقبل    وفاة وإصابة 3 أشخاص إثر انقلاب سيارة ملاكي بصحراوي المنيا    ضبط 3 آلاف سرقة تيار كهربائي ومخالفة شروط التعاقد    مصدر أمني ينفي وجود احتجاجات لنزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل    مصرع عنصر شديد الخطورة بعد تبادل نار في أسيوط    للوصول إلى شواطئ الإسكندرية.. مواعيد انطلاق القطارات من محطة بنها ل«عروس المتوسط»    «ربنا ميحرمناش منك يا صوت مصر».. نادية الجندي تساند أنغام    ظهرت بفستان جريء.. أول تعليق من إليسا بعد حفل "جدة" (صور)    الليلة.. الستاند أب كوميديان محمد حلمي وشلة الإسكندرانية في ضيافة منى الشاذلي    عالم أزهري يدعو الشباب لاغتنام خمس فرص في الحياة    رئيس الرعاية الصحية: تقديم خدمات الغسيل الكلوي بأسوان من خلال 250 ماكينة دون قوائم انتظار    «100 يوم صحة» تقدم 14 مليونا و556 ألف خدمة طبية مجانية خلال 9 أيام    الفن السيناوي يضيء ليالي مهرجان جرش. .فرقة العريش للفنون الشعبية تتألق وتبهر الأردنيين بتراث سيناء (صور)    حالة المرور اليوم بمحاور وميادين القاهرة والجيزة    موجة حارة شديدة تتسبب بحرائق في تونس    بكام الفراخ النهارده؟.. أسعار الدواجن والبيض في أسواق الشرقية الجمعة 25-7-2025    نجم الزمالك السابق يوجه رسالة خاصة ل عبد الله السعيد    شديد الحرارة والعظمى 44.. حالة الطقس في السعودية اليوم الجمعة    طريقة عمل بلح الشام، باحترافية شديدة وبأقل التكاليف    رسميا.. قائمة بالجامعات الأهلية والخاصة 2025 في مصر (الشروط والمصاريف ونظام التقسيط)    بعد «الاستوري» المثير.. أحمد فتوح يحذف حسابه على «انستجرام»    لا ترضى بسهولة وتجد دائمًا ما يزعجها.. 3 أبراج كثيرة الشكوى    أنوشكا عن ياسمين عبدالعزيز: «محتاجة تحس بالأمان» (فيديو)    تدهور الحالة الصحية للكاتب صنع الله إبراهيم من جديد ودخوله الرعاية المركزة    الأوقاف تفتتح اليوم الجمعة 8 مساجد في 7 محافظات    استمرار استقبال طلاب الثانوية العامة لاختبارات العلوم الرياضية بالعريش    مصدر للبروتين.. 4 أسباب تدفعك لتناول بيضة على الإفطار يوميًا    سعاد صالح: النقاب ليس فرضًا أو سنة والزواج بين السنة والشيعة جائز رغم اختلاف العقائد    تفاصيل صفقة الصواريخ التي أعلنت أمريكا عن بيعها المحتمل لمصر    أحمد سعد: ألبوم عمرو دياب مختلف و"قررت أشتغل في حتة لوحدي"    وسيط كولومبوس كرو ل في الجول: صفقة أبو علي تمت 100%.. وهذه حقيقة عرض الأخدود    سعاد صالح: القوامة ليست تشريفًا أو سيطرة وإذلال ويمكن أن تنتقل للمرأة    فلكيا.. مولد المولد النبوي الشريف 2025 في مصر و3 أيام إجازة رسمية للموظفين (تفاصيل)    دعاء يوم الجمعة.. كلمات مستجابة تفتح لك أبواب الرحمة    داليا عبدالرحيم تنعى أسامة رسلان متحدث «الأوقاف» في وفاة نجل شقيقته    لتخفيف حرقان البول في الصيف.. 6 مشروبات طبيعية لتحسين صحة المثانة    الشيخ خالد الجندي: «ادخل العبادة بقلب خالٍ من المشاغل الدنيوية»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاولة لفهم لقاء السيسي وبوتن
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 17 - 08 - 2014

علينا أن نمي الأشياء بأسمائها، فهذه ليست زيارة، ولكنها تواصل، وليست لقاء، ولكنها توافق، وليست ردًا علي شيء، ولكنها إجابة علي أشياء، وليست مناورة ولكنها توجّه، وليست طلبًا لعون، ولكنها تحقيق لتعاون، كما أنها لا تصنّف في أبواب التكتيك، وإنما تدخل من أوسع أبواب الاستراتيجية، وهي لا تعبر عن الكمياء الشخصية لرئيسين، بقدر ما تعبّر حتي في طبعتها الشخصية، عن الكمياء التاريخية والثقافية لشعبين، وهي لا تساهم في إعادة توازن القوي فوق تخوم الاقليم، ولكنها تساهم في إعادة توازن القوي فوق تخوم العالم، وهي مع ذلك كله، ليست لصالح الفوضي، وإنما لصالح الاستقرار، وليست لصالح الحرب وإنما لصالح السلام.
'1'
بعد عامين فقط من إنهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكك وحداته السياسية تحت تأثير أعباء امبراطورية هائلة دُفع إليها، في سباق حاد تحت مظلة الحرب الباردة، كانت تقارير أجهزة المخابرات الأمريكية، ترقب عن كثب احتمال أن تعاود القوي الروسية، لملمة شظاياها، والانبعاث من جديد، فقد كان المطلوب تحديدًا عدم السماح بانبعاث جديد محتمل للقوة الروسية، وتحويل الانتصار الأمريكي الذي تحقق في الحرب الباردة، إلي انتصار استراتيجي كامل، أي انتصار يُبقي عليه الزمن، خاصة وقد ضمّ إليه النتائج التي تحققت لصالح الولايات المتحدة في حرب الخليج، لتبقي أمريكا قوة كبري منفردة علي قمة النظام الدولي، وكان أهم تقريرين صدرا عن البنتاجون في ذلك الوقت، يتمحوران حول تحقيق عاملين أساسيين، لإبقاء روسيا قعيدة وجريحة تحت أنقاض سقوط الامبراطورية السوفيتية، وهما بالنص:
أ 'إقناع المنافسين المحتملين بأنه لا حاجة لهم للتطلع إلي دور أكبر'.
ب 'إذا لم يقتنعوا بذلك، فإن علي واشنطن أن تردعهم'. ومن المؤكد أن هذين العاملين مايزالان قابلين للاستخدام في حالات مقاربة أو مماثلة. الواقع أن واشنطن بدأت بتفعيل العامل الأول غير أن روسيا ما كان لها، بمركبها الحضاري، وقوتها الكامنة، أن تتوقف عمليًا عن التطلع لدور أكبر، خاصة وقد توفّر لها من قلب مؤسستها العسكرية والاستراتيجية، قائد جديد في وزن الرئيس بوتن، وتوفّر لها في الوقت نفسه جيشًا محاربًا، ذو تقاليد رفيعة، وخبرة قتال طويلة، وعقيدة قومية راسخة، وهو جيش رفض حتي بعد أن غيَّرت روسيا علم الامبراطورية السوفيتية، أن ينكّس علم الامبراطورية، وأبقاه ومايزال يرفرف فوق قواعده ووحداته. ثم مارست الولايات المتحدة البند الثاني بكل ما في جعبتها من أعمال مخابرات. إثارة 'للفتن والاضرابات في داخلها وحولها، محولة الاضطرابات في أوكرانيا وجورجيا، إلي نمط جديد مصطنع من الثورات البرتقالية، ساعية في الوقت ذاته إلي تطويع حلفاء روسيا السابقين في حلف وارسو إلي الانخراط في حلف الاطلنطي، بعد تغيير أبنيتهم السياسية والاقتصادية والثقافية، مع العمل علي طرد روسيا من القوفاز وآسيا الوسطي، للاستيلاء علي ثروة البترول والغاز في بحر قزوين، ومحيطه.
كان أول ما فعله بوتن هو إعادة الوحدة إلي منظومة الأمن الداخلي والخارجي في اطار جهاز المخابرات الروسي 'كي. جي. بي' بعد أن تم استقطاع الأمن الداخلي من الجهاز في بداية فترة حكم يلسن، ليبدأ حربًا ضارية كانت كافة أبعاده تصّب طاقة دفعها في اتجاه ردّ الاعتبار إلي الدولة الروسية، ومنظومات القوة فيها، سواء الجيش، أو المخابرات، أو المجتمع العسكري الصناعي، وتقوية يد الدولة في القطاع العام خاصة بالنسبة للغاز والبترول والزراعة، وبعض محاور التجارة الخارجية، في إطار استراتيجية قومية هدفها المحدد هو إعادة انبعاث القوة الشاملة للدولة الروسية، وعندما غدت روسيا قوة صاعدة، دخلت في حيّز جديد من المبارزة الاستراتيجية دفاعًا عن أمنها القومي، بعد أن أعادت بناء دولتها المركزية القوية، وحدّثت مجمعها العسكري الصناعي. وطوّرت بالتالي قوتها العسكرية الضاربة في البر والبحر والجو، وابتنت قواعد اقتصادية وانتاجية جديدة، بينما أعادت صياغة علاقاتها مع بقية القوي الصاعدة في آسيا وحول العالم.
ولم تكن أكثر توقعات مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة تشاؤمًا تري أنه خلال عقد واحد من الزمن، يمكن أن تتحسّن أحوال روسيا إلي هذا الحد، وأن تسوء أحوال أمريكا والغرب عمومًا إلي هذا القدر.
'2'
كان منحني التقدم في الولايات المتحدة وأوربا عمومًا يأخذ اتجاهًا عكسيًا، فقد تحولت أمريكا تحت ضغط طموح استراتيجي قاهر، هيأه لها وجودها منفردة علي قمة النظام الدولي، إلي نمط متدنِّ من الامبريالية، أقرب إلي الصيغة المباشرة للاستعمار التقليدي، وذلك تحت ضغط أزمة اقتصادية هيكليّة، كانت مقدماتها قد بدت واضحة في النصف الثاني من العقد الأخير من القرن الماضي، ولم يكن الحل المتاح للبقاء الانفرادي علي قمة النظام الدولي، وعلي بوادر أزمة اقتصادية تزداد استحكامًا، سوي الدخول في مشاريع هائلة لانتاج سلاح مطور، ثم تحويل القوة العسكرية ذاتها إلي استثمار اقتصادي، بعد اختلاق عدو جديد بديل، تم البحث عنه مبكرًا، بعد حرب تحرير الكويت، عن طريق احلال 'خطر الجنوب' محل 'خطر الشرق'، غير أن هذا الاحلال لم يكن مكتملاً إلي أن جاءت نظرية 'هتنجتون' عن صراع الحضارات. لتصنع منه قوامًا فكريًا وايديولوجيا أكثر تماسكًا. في الوقت الذي أصبح فيه كتاب 'رقعة الشطرنج الكبيرة'، لبرجنسكي، أنجيلا جديدًا، في خلايا العقل الاستراتيجي الأمريكي، فلم يعد العدو المهم، وإنما الحفاظ علي تفوق الولايات المتحدة، وعدم السماح، بقيام مركز قوة دوليّ، يعترض الهيمنة الأمريكية للخطر.
هكذا أمسكت أصابع المحافظون الجدد بهيئات التخطيط الاستراتيجي، وهكذا تم في عام 1997 إنتاج مشروع 'القرن الأمريكي الجديد'، وانبثق عنه تقرير 'إعادة بناء الدفاعات الأمريكية'، قبل وقوع أحداث 11 سبتمبر التي منحت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة طابعًا معولما.
لقد جاء أول استخدام سياسي لتغيير القرن الأمريكي الجديد، سابقا علي ذلك، وعلي لسان كلينتون، والمدهش أنه جاء في ثنايا بيان دفاعه عن نفسه في قضية علاقته بمونيكا، المتدربة في البيت الأبيض، وقد تلاه قصف محدود بالصواريخ لافغانستان، وللسودان، خصّ مصنعًا للأدوية وآخر لانتاج الحلاوة الطحينية، وعندما بدأ الفتح الاستراتيجي لضرب أفغانستان، ثم العراق بعد ذلك، كانت الامبراطورية الأمريكية تدافع عن ديمومتها علي رأس العالم لقرن كامل جديد، بينما كانت حسابات العوائد الاقتصادية المتوقعة، تزيد أضعافًا مضاعفة عن حسابات التكلفة، فقد كانت الحسابات الأولية لتكلفة الحرب علي العراق هي 50 مليون دولار فقط لا غير، بينما بلغت التكلفة المادية للحرب في أفغانستان والعراق، بعد ذلك، بحسابات الفرص البديلة ثلاثة تريليون دولار.
وفي ثنايا نتائج الحرب، ومحاولة التوسع الامبراطوري. تجاوز الدين الأمريكي نسبة 100% من الناتج المحلي الاجمالي، وإذا ما واصلت معدلاته الارتفاع بنفس النسبة، فالمقدر له أن يصل في عام 2020 إلي نسبة 875% من هذا الناتج، وهو أمر تتحمله الطبقات المتوسطة والدنيا والتي تشكل 80% من المواطنين الأمريكيين، وقد كان نصيبها قبل 20 عاما تساوي 48% من هذا الناتج لكنها انخفضت في أعقاب حرب العراق إلي 39% فقط، وإذا كانت ديون الرهن العقاري وحدها تساوي 6.6 تريليون دولار، فإن تكلفة نتائج ما بعد الحرب الخاصة بالعسكريين الأمريكيين الذين اشتركوا في أعمال القتال، من معاشات وتعويضات ورعاية طبية، تصل إلي 1.8 تريليون دولار.
'3'
غير أن النتائج الوخيمة لتحويل القوة العسكرية إلي استثمار اقتصادي، ثم فشل القوة العسكرية القاهرة، في الصراع علي الموارد والثروات الطبيعية والمواقع الاستراتيجية الحاكمة، انعكس علي القوة العسكرية ذاتها، ففي موازنة العام الماضي جري تحت ضغط تخفيض الانفاق العسكري، بتخفيض 15% من القوات البرية، وبدا الحديث واضحًا عن تقليص عدد حاملات الطائرات في الشرق الأوسط، وتحدث أكثر من صوت استراتيجي عن فقدان الولايات المتحدة، القدرة علي خوض حربين في وقت واحد، بل وصعوبة الانخراط في حرب جديدة، كما تم تقليل الاعتماد علي الشركات العسكرية الخاصة، التي كان رامسفيلد يبشر بأنها تشكّل توجهًا جديدًا لخصخصة الجيوش، ثم جري صوت الجنرال راي أوديرنو قائد الجيش الأمريكي في أكتوبر الماضي في إيقاع حزين، مؤكدًا أن تخفيضات الميزانية والغموض المالي علي مدي العامين الماضيين أجبرا الجيش الأمريكي علي تخفيض ميزانية الانفاق علي تدريب الفرق القتالية بشكل كبير، موضحًا أن عدد الفرق العسكرية الأمريكية الجاهزة للقتال علي جبهة الحرب في الوقت الحالي لا تتعدي فرقتين فقط، مبررًا ذلك بأن تكلفة الحرب في أفغانستان خلال العام الأسبق، جاءت أكثر مما هو متوقع، وكان من الضروري تعويض ذلك الاتفاق من حساب عمليات الجيش التي تشمل الأموال المخصصة للتدريب، وبغض النظر عن دقة التبرير. وما إذا كان صحيحًا، أو كانت بعض المعلومات الأخري التي أفادت إن جانبًا من هذه الأموال قد تم توظيفه في أعمال ذات طبيعة انقلابية، ولصالح جماعات يمكن وصفها بأنها إرهابية. لكن الشاهد أن مشروع تحويل القوة العسكرية إلي استثمار اقتصادي قد باء بالفشل.
وبات واضحًا أن تمدد الامبراطورية، اعتمادًا علي ذلك لم يعد ممكنًا طالما أن حسابات التكلفة قد ثبت أنها أكبر بكثير من حسابات العوائد، لكن الأزمة الاقتصادية ازدادت حضورًا وتأثيرًا وبدا واضحًا أن الولايات المتحدة تفقد قدرتها علي التدخل في العمليات الكبري في الاقليم، وأن اتساق استراتيجيتها أصبحت غير متوازنة إلي حد بعيد.وهكذا انتقل التفكير الاستراتيجي الأمريكي من صيغة الحرب بين الدول، أو الحرب علي الدول، إلي صيغة مستحدثة هي الحرب داخل الدول، أي خلق جيوش من الفوضي والإرهاب والدم، تحت مسميات فوق قومية وتحت قومية لخلق بيئة مضطربة وقابلة للاحتداب والتقسيم، تخلق حالة جديدة من القابلية للاستعمار، أو تنتهي إلي ما عبرت عنه ذات مرة بأنه خلق قناعات داخلية ب'استحسان التبعية'.
'4'
لقد انتقلت مظاهر الأزمة ذاتها إلي أوربا، وإذا كانت 'دير شبيجل' الألمانية قد أكدت أن أمريكا تخسر دورها الاقتصادي المهيمن، فقد وصفت ذلك بأنه 'نهاية التعجرف'، لكن معهد 'بروكنجز' قدم توصيفًا أكثر دقة للحالة الأمريكية، فقد اعتبر ما تفعله الولايات المتحدة من أدلة إلي آخره هو بمثابة 'نضال أمريكي ضد التآكل'، أما الكتاب الأبيض للدفاع والأمن القومي الفرنسي فقد نبه مبكرًا في يونية 2008 إلي عدة ظواهر بدت له شاخصة فوق المسار المستقبليّ لأمريكا والغرب عمومًا.. كان في مقدمتها:
أ- نحن ندخل في عالم ما بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
ب- لم يعد العالم الغربي في أوربا وأمريكا بشكل خاص يستحوذ علي المبادرة الاقتصادية والاستراتيجية كما كان الأمر عليه في عام 1994.
ج- قد تبقي الولايات المتحدة علي قمة النظام لسنوات، لكن هناك بروز لمراكز نفوذ في بكين ونيودلوس والبرازيل وموسكو.
د- هناك قوس أزمات كبير يتمدد بين الشرقين الأدني والأوسط.
كان واضحًا أن الأزمة الاقتصادية تنتقل من أطراف النظام الأوربي إلي قلبه، فإذا كانت الديون الإيطالية قد تجاوزت رقم تريليون يورو، فسوف يصل الدين الأسباني إذا ظلت معدلات ارتفاعه علي ما هي عليه في عام 2020 إلي 440% من الناتج الإجمالي، أما العجز الإيرلندي فقد تضاعف ثلاث مرات عن العجز اليوناني، وأصبح أعلي عشر مرات من الحد الذي فرضته الاتحاد الأوربي، بينما لجأت بريطانيا إلي تخفيض الموازنة العسكرية بنسبة 7%، أما أحدث مؤشرات اليوم وأبلغها فهي بلوغ نسبة النمو في دول اليورو خلال النصف الثاني من العام المالي الحالي '2014' صفرًا، أو حسب ألفاظ مكتب الإحصاء الأوربي: لقد انعدم النمو تمامًا في دول اليورو.
قبل ذلك بسنوات قليلة كان تقدير الأمم المتحدة الذي كتبه 'هندي فلسباك' الرئيس السابق لمنظمة التجارة العالمية، يتحدث صراحة عن الاقتراب من الهاوية 'الهاوية قادمة والناس تسير إليها مغمضة العينين'، فكل شيء خاطئ كما يقول التقدير، والإجراءات الاقتصادية المطلوبة لمواجهة تحديات الأزمة هي بالضبط عكس ما يجري عمله، فبدلًا من انعاش الاقتصاد يجري تحقيق مزيد من الركود، والانخراط في غريزة القطيع التي تفرضها اقتصاديات السوق.. إلخ، لكن عندما ارتفع صوت 'باورسو' وئيس المفوضية الأوربية السابق في وجه أمريكا مؤكدًا أنها صاحبة المسئولية الأولي عن أزمات أوربا الاقتصادية، ردّ الأمريكيون بعنف ملقين اللوم علي أوربا، ومسئوليتها عن سقوط نفسها، مبررين ذلك بأنها لم تتخلص من أمراضها الخبيثة، خاصة مرضين مزمنين هما: داء القومية، وداء السيادة الوطنية.
مع ذلك فإن أوربا ظلت مقيدة بالتوجه الاستراتيجي الأمريكي، تابعة أكثر منها مستقلة، متلقية أكثر منها مبدعة، مسكونة -علي حد تعبير باحث فرنسي- بهاجس الكينونة الاطلنطية، وعاجزة عن التفكير في العولمة، إلا علي أساس أنها انعكاس لصورتها الخاصة، بينما تقدمت أصوات أوربية أخري تقدم إيقاعات فكرية في معزوفة واسعة، أقرب إلي لحن جنائزي، كانت أهم مفرداتها: 'إن الغرب قد خسر احتكار التاريخ واحتكار الرواية'.. ، 'نحن نعيش نهاية الهيمنة الحصرية للغرب التي فرضت نفسها منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر'.. ، 'إننا نواجه تحلل النظام الأوربي الذي أقامه عصر النهضة'.، 'إن تفكيك النظام الأوربي هو أسهل الطرق، لا نستطيع أن نكرر الدواء لمدة 20 عامًا، لقد وصلنا إلي شغير الركود'.!!
'5'
كان مقررًا أن يكون هذا العام '2014' بمناسبة مرور مائة عام علي الحرب العالمية الأولي '1914' هو عام الاحتفال الغربي الكبير بالنجاح في تحويل الإقليم العربي إلي نواة الاضطراب العالمي الكبيرعلي غرار ما كان الحال عليه في أوربا، غداة الحرب العالمية الأولي، فقد كان علي استراتيجية خلق وإيقاظ وبث التناقضات وتحويلها إلي تناقضات مفترسة في عموم الإقليم، أن تكون قد حققت نتائجها بالحديد والنار، وبالفوضي الداخلية الشاملة، وأن تكون هياكل الدولة القومية في محيطها قد تداعت، ومنظومات القوة فيها انكسرت، وأصبحت ساحة مفتوحة لقوي إقليمية غير عربية القلب واللسان، كان مفترضًا أن يكون الركن الشمالي الشرقي في البحر المتوسط قد أصبح تمامًا في قبضة الخلافة التركية والعسكرية الإسرائيلية في إطار تنظيم تعاون شامل بينهما، وأن تكون روسيا قد فقدت آخر قواعد ارتكازها هناك، وأن يكون قلب الإقليم في مصر قد تحول إلي قطع اللحم المفتت شرقًا وجنوبًا وغربًا، وامتدت مناشير تقطيع العظم المصري فوق مائدة لئام دول في الإقليم ودول خارج حدوده، وانكسرت إرادة مصر، وتم إخراج جيشها من المعادلات السياسية والاستراتيجية للبلاد، وتحويل ما تبقي من بقاياه إلي وقود في عمليات جديدة لفتح أمريكي جديد في إفريقيا، بينما كان هيكل النظام الإقليمي العربي قد تم تفتيته بالطول والعرض، وتمددت رؤوس مثلث القوة ليكون ضابط النظام الإقليمي الجديد، وضامن تفاعلاته، الذي سيقتسم خراجه وعوائده مع سادته في أمريكا وأوربا، تركيا في سوريا وإيران ولبنان، وإسرائيل فيما ينقضي من فلسطين التاريخية، وامتدادات جنوب البحر الأبيض بما في ذلك ليبيا والحواف المتاخمة لجانب منها علي البحر الأحمر بما في ذلك عدن وإيران التي دخلت في لحظة الانقلاب الاستراتيجي الشامل في أوضاع الإقليم، ليتهيأ لها قضم حصة من دم الخليج وأرضه ومياهه، وكأن أوباما يعيد ممارسة نفس المنهج الذي مارسه نيكون بعد الهزيمة في فيتنام، وقلص الالتزامات العسكرية المباشرة، ووضعها علي كاهل قوي إقليمية تابعة، كانت يومئذ شاه إيران وإسرائيل في الشرق الأوسط، والبرازيل في أمريكا الجنوبية وتركيا في البلقان وآسيا الوسطي.
ثم كان مقررًا بعد ذلك أن يتم نقل نواة الاضطراب الكبير حثيثا نحو آسيا الوسطي والقوقاز وأن يتم الطرق في النهاية بمنتوج الفوضي الذي تعاظم علي أبواب موسكو وبكين وفي عمقها، ريثما يتم جمع الوقود الإفريقي الجديد لإنضاج الحريق الاسيوي الكبير.
في مرايا ذلك كله يمكن أن ندرك النتائج التي طوت والحدود والآفاق، لذلك الفعل الثوري الجسور الذي انتجه الشعب المصري العظيم، وجيشه البطل، وقائده عبد الفتاح السيسي، بثورة 30 يونية التي شكلت حزبة مباغتة قوية إلي قلب الاستراتيجية الأمريكية، لم تكن آثارها ونتائجها وتفاعلاتها وقفًا علي مصر وحفاظًًًا علي كيانها الوطني فقد امتدت إلي ما هو أبعد من مصر وأبعد من الإقليم فوق تخوم عالم بالغ الاتساع والعمق.
'6'
لست أدعي أن شيئًا من ذلك كله قد شكل مادة للقاء السيسي وبوتن، ولكنني أحسب أنه كان حيًا يتنفس في العقل الاستراتيجي هنا وهناك، لذلك فإن مفردات مسلح التسليح، والزراعة، والصناعة والتجارة والسياحة.... إلخ، ليست مفردة مستقلة علي مائدة اللقاء، وإنما هي جزء من نسيج الرؤية، في لحظة فارقة، تتغير فيها موازين القوي، بين عالم يقاوم الانحدار والغروب وعالم آخر يتطلع إلي الصعود والشروق!.
Email: [email protected]
Site : ahmedezzeldin.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.