يختزن الوجدان الشعبى المصرى تراثًا ساخرًا حيال «عجرفة العثمانلية» وسلوكهم الاستعلائى وشبقهم للتسلط، وهناك نكتة تقول إن «تركيًا» ابتلى بالفقر والتجريد من السلطة، وكثيرًا ما كان يحدث ذلك بين عسكر الاحتلال العثمانى للدول التى خضعت لسطوة «الباب العالي»، فالغدر ومؤامرات القصور والانقلابات والتجريس من سماتهم الراسخة، فجلس «العثمانلى المتعجرف» على قارعة الطريق وأمامه عدة «قلل» كسبيل يروى العابرين، لكن بمجرد أن يمسك أحدهم بالقلة ينهره العثمانلى آمرًا إياه بتركها والشرب من غيرها، والتفسير الوحيد هى رغبته الدفينة فى ممارسة السلطة حتى وهو يفعل الخير بسقاية الناس. هكذا يتصرف الرئيس التركى أردوغان، الذى يتسول منذ عقود الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، لكنه يكيل لسياساته وأنظمته تصريحات قبيحة، ويمارس العنتريات لدغدغة مشاعر الإسلاميين، لكنه يرتبط بعلاقات إستراتيجية واتفاقيات أمنية ودفاعية مع إسرائيل تأسست فى مارس 1949، لتكون تركيا ثانى أكبر دولة إسلامية (بعد إيران عام 1948) تعترف بإسرائيل.
وفى هذا السياق تحضرنى قصيدة الشاعر الكبير صلاح جاهين «تُركى بجَم» التى تغنّى بها رفيق دربه الشيخ سيد مكاوى، ويذكُر كتاب «صلاح جاهين رؤى ودراسات»، الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة أنّ جاهين استخدم أسلوب الكاريكاتير فى قصيدتهُ ليُقلد بها الأتراك، كمّا استعان بها نجوم السينما آنذاك فى الأفلام الكوميدية على طريقة مارى مُنيب فى مسرحيات نجيب الريحانى وبديع خيرى الشهيرة، ليسخر من التُرك وطريقة حديثهم المتعجرفة، وتأتى هذه القصيدة ضمنّ الأشعار الصحفية للسخرية من السياسيين العثمانلية، لانضمامهم لحلف الأطلسى وتهديدهم لسوريا، وتعبر عن توتر العلاقات المصرية التركية، والذى يعود لأيام الخلافة، حيث كان العثمانيون يفشلون فى السيطرة على مصر التى كانت تتمتع بحكم شبه ذاتى برغم أن والى مصر كان يتم تعيينه من تركيا، وتقول كلماتها:
تركى بَجَم .. سِكِر انسجم لاظ شقلباظ .. اتغاظ هجم أَمان أَمان ... تركى بجم دبور جبان .. من غير زبان زنّان كبير ... يمضغ لبان يسمع نفير .. يخاف جبان أَمان أَمان ... تركى بجم سوس بازفان .. اقطع لسان عربى واقف لك ديدبان أدخل تموت .. جّنات مكان أَمان أَمان ... تركى بجم سيكتير زمان ... سيكتير كمان أدخل ح نضرب فى الملان خليك تقول أَنا جلفدان أَمان أَمان ... تركى بجم تركى بَجَم .. سِكِر انسجم لاظ شقلباظ .. اتغاظ هجم أَمان أَمان ... تركى بجم
وباستثناء جماعات التأسلم السياسى وفى صدارتها «الإخوان»، فإن المصريين والشوام وغيرهم من الأمم التى احتلها العثمانيون باسم الإسلام، يذكر تلك الحقبة بسخط ومرارة، فقد مارس سلاطين وأغاوات إسطنبول أبشع أنواع الإذلال والمهانة، ونهبوا ثروات الشعوب البشرية حين أجبروا الحرفيين والصُنّاع المهرة على مغادرة أوطانهم، والانتقال لتركيا للعمل بنظام «السُخرة»، ناهيك عن فرض الضرائب والإتاوات الفادحة على كاهل فقراء الفلاحين والحرفيين، وكلما عيّن «الباب العالي» واليًا جديدًا على إحدى الدول المحتلة، حتى يضاعف الجبايات ويمارس «السناجقة» أبشع وسائل الإهانة والتعذيب لجمع الأموال، وكثيرًا ما تمرد المصريون على هؤلاء وقتلوا بعضهم، خصوصا حين كانوا يحاولون الاعتداء على شرفهم باختطاف فتاة أعجبت أحدهم، ووصل بهؤلاء الفُحش لدرجة فرض الجزية على المسلمين خلافًا للأحكام الشرعية.
حينما أتأمل ملامح الرئيس التركى أردوغان وهو يتباهى بتراث أجداده العثمانلية، وسلوكه السياسى الذى يشير بوضوح للانقلاب التاريخى على قيم أتاتورك، الذى أنهى حقبة «رجل أوروبا المريض»، وأسس جمهورية عصرية يجنى شعبه ثمارها حاليًا، أشاهد شبق التسلط للنسخة الإخوانية - التركية المتمثلة فى «حزب العدالة والتنمية» التى مكّنها دستور أتاتورك من الصعود للحكم لتنقلب على تراثه الحضاري، بينما شاهدت تسجيلاً للأمير عثمان آخر أحفاد السلطان عبد الحميد الثاني، وهو يقول «إن كل تركى مدين لأتاتورك بطل الاستقلال فلولاه لكانت إسطنبول الآن مدينة روسية».
ولو هاجم الأمير العثمانى أتاتورك لالتمسنا له العذر، لكنه نطق بحقائق التاريخ بعيدًا عن ذهنية المؤامرات التى تسكن أردوغان وأذنابه المتأسلمين الذين يصبون اللعنات على «الكمالية» التى تبنت حزمة إصلاحات عُرفت بمصطلح «السهام الستة»، وهي: ترسيخ الشعور القومى خلافًا للمتأسلمين الذين يُنكرون الدولة الوطنية، مقابل حنينهم المريض لنظام حكم أوتوقراطى سلطوى متخلف، بينما منحت الكمالية المرأة حقوقها كاملة وشاركت فى البرلمان تصويتًا وتمثيلاً قبل فرنسا بأحد عشر عامًا، إضافة لإصلاحاته الجذرية، فقد كان النظام السلطانى طبقيًّا منحطًا نشر الأمية والخرافات، فأطاح أتاتورك بتلك الطبقية، وفرض مجانية التعليم والرعاية الصحية، ورسّخ لمركزية الدولة لينسف الإرث الطبقى للسلطنة التى يرى مؤرخون أنها ليست حضارة أصيلة، لأنها قامت على القوة الغاشمة وأفرزت منظومة انتقائية هجينة من تراث العرب والفرس واليونان والقوقاز، ولم تنجب مفكرين ومؤرخين وفلاسفة مثل «الكندي» و»ابن رشد» و»ابن خلدون»، وانحصر تراثها فى تدشين مدرسة «علماء السلاطين» المنافقين والبهاليل.
وفى مثل هذه الأيام من العام الماضى صدم الأتراك بالمحاولة الانقلابية مساء الجمعة 15 يوليو2016، وبتحليل هذه الوقائع بمنظور ميكافللى، سنجده صادقًا حينما اعتبر بعض الانقلابات مسرحيات يفتعلها (الأمير) لاختلاق مبررات تقنع الرأى العام بضرورة التخلص من معارضيه، لهذا فشل الانقلاب يرجح كونه مخططًا ممنهجًا لإحياء الخلافة العثمانية، وإعادة تركيا لحظيرة متأسلمة يجمع الرئيس السلطات بقبضة حديدية، وحتى يحقق هذا الحلم فينبغى الإطاحة بمعارضيه على تنوع مشاربهم العسكرية والعلمانية والقومية والكردية حتى حلفائه الإسلاميين مثل «فتح الله جولن» الذى حمله مسئولية «الانقلاب المُدبّر» ووسط الانقسام المجتمعى الحاد نترقب يومًا تجتاح فيه عاصفة الفوضى الخلاقة تركيا، حينها قد تتعرض للتقسيم لمناطق خاصة بالأرمن والأكراد والأتراك وغيرهم، وتستعيد اليونان حقوقها التاريخية، وتتحول أحلام «أردوغان» لأوهام ستتحطم على أرض الواقع.
والحقيقة أن القصة أبعد من ذلك فقد بدأت فصولها يومى 17 و25 من ديسمبر 2013 حينما تكشفت خلالهما ملامح أكبر عملية فساد ورشوة وإساءة استغلال للسلطة بتركيا من قبل حكومة رئيس الوزراء حينذاك رئيس الجمهورية الحالى أردوغان لحظة فارقة فى تاريخ تركيا المعاصر، فقد كشفت تحقيقات الفساد والرشوة تورط 4 وزراء بحكومة أردوغان ومديرو بنوك ورجال أعمال مقربون منه أبرزهم التركى من أصل إيرانى رضا ضراب الذى وصفه أردوغان بأنه من محبى الخير، امتدادًا له شخصيا ولأبنائه، بمثابة هزة قوية زلزلت تركيا ولها تداعيات خطيرة تتجسد الآن وترشحها لنتائج بالغة الخطورة مستقبلاً.
وزعم أردوغان وحكومة حزبه أن تحقيقات الفساد فى 17 و25 ديسمبر 2013 لم تكن سوى محاولة ممن أسماه «الكيان الموازي» للانقلاب, فأطلق ما أسماه «عملية تطهير» لأجهزة الدولة فصادر المؤسسات التعليمية كالمدارس والجامعات التى أسسها رجال أعمال أتراك وشركات كبرى مثل «ايبك» و»بنك آسيا» ومؤسسات إعلامية لإسكات الأصوات المعارضة، وامتدت حملة التنكيل لكل من يخالف أردوغان, وأصبحت تهمة «الكيان الموازي» جاهزة لمن يخرج عن الخط الذى رسمه أردوغان لتركيا فى حقبته الجديدة بعدما أصبح رئيسا بنظام شمولى بنكهة عثمانية تمنحه السيطرة على كل مقاليد الحكم, ليصبح الآمر الناهى الوحيد فى تركيا التى كانت نموذجًا ديمقراطيًا للتعايش بين الإسلام والحداثة، لكن أردوغان حوله إلى تجربة ممسوخة قادت تركيا لعزلة إقليمية ودولية وانتكاسة حضارية.
ويبقى الأمر بعهدة التاريخ الذى سيكون شاهدًا على حجم المظالم وانتهاكات حقوق الإنسان لمعارضى أردوغان وانقلابه المصطنع الذى أعاد (تركيا أردوغان) لحجمها الطبيعي، ولن تستقر إلا بعد فترة طويلة ستترك الخارج وتنكفئ على شئونها الداخلية، والغريب هو تفاعل بعض الدول العربية فالبعض أسعده الأمر، والآخر أحزنه ولا يوجد سبب سوى الطائفية البغيضة، فأردوغان يصارع الكبار سعيًا لنفوذ أوسع بالشرق الأوسط، وليس حبًا للعرب والمسلمين فهو يتخذ الإسلام مطية ليصل لهدفه، وأمله مازال معقودًا على دخول الاتحاد الأوروبى الذى جمّد مفاوضات الالتحاق به أخيرا، ويقف له قادته بالمرصاد، فلن يقبلوا بانضمامه مهما قدّم من تنازلات مهينة، وأطلق من تصريحات بذيئة.