على الرغم من أن جولة محادثات الاستانة، التى عقدت فى الثالث والرابع من مايو الجارى فى العاصمة الكازاخية، شهدت انسحابا فى أول أيامها، وتلكؤا واضحا، من جانب فصائل المعارضة السورية، التى وافقت على المشاركة فيها، وهو تكرار لما حدث فى الجولات السابقة، وبنفس الأهداف المتمثلة فى محاولة الضغط على النظام السورى ليوقف اعماله القتالية، بل لعرقلة محادثات الأستانة، بشكل أو بآخر، لحساب الأطراف الإقليمية والدولية التى تقف وراء المعارضة السورية، فإنه ليس من المبالغة فى شىء القول بأن هذه الجولة من المحادثات تتسم بالكثير من الأهمية، وذلك بحكم ما تم طرحه وإقراره، بل البدء فى تنفيذه بالفعل على الأرض فى سوريا، نقصد بذلك الاقتراح الروسى بإنشاء أربع مناطق للتهدئة والحد من التصعيد فى سوريا، وبغرض معلن هو دعم فرص وقف إطلاق النار واستمار الهدنة فى سوريا، التى تم التوصل إليها من قبل، التى تظل صامدة نسبيا، برغم الخروقات المتكررة لها، من جانب كل الأطراف . وإذا كان إنشاء مناطق التهدئة الأربع هو اقتراح روسى، وحدد الروس الخرائط والإحداثيات الخاصة بكل منطقة، من مناطق التهدئة، وعملوا على توقيع اتفاق بهذا الخصوص بين الأطراف الضامنة لوقف إطلاق النار فى سوريا، وهى روسياوإيرانوتركيا، مع قيام موسكو فى الوقت ذاته بإقناع دمشق بإنشاء تلك المناطق، وإعلان دمشق موافقتها على ذلك، بل وقيام روسيا بالتحرك فى مجلس الأمن الدولى، فى محاولة لاستصدار قرار من المجلس يدعم هذه الخطوة، لتثبيت وقف إطلاق النار، وقيامها بإجراء الاتصالات الضرورية لذلك، وهو: ما سيتحقق فى النهاية، فإن السؤال الذى يفرض نفسه هو لماذا بادرت روسيا بالإعلان عن إنشاء تلك المناطق الأربع للتهدئة، التى توجد فى محافظة إدلب – وهى الأكبر – وشمال حمص والغوطة الشرقية وجنوب سوريا؟ وفى ضوء هذا الجهد والتحرك الروسى النشط بشأن هذه الخطوة ورعاية تنفيذها اعتبارا من الساعات الأولى ليوم الخامس من مايو الجارى، فإن ما أعلنته موسكو من أن الهدف هو دعم وقف إطلاق النار بين القوات الحكومية والمعارضة، الذى تم التوصل إليه فى جولة سابقة من محادثات الأستانة، يظل جزئيا، وقاصرا بالتأكيد عن تفسير هذه الخطوة الروسية، التى يمكن وصفها دون مبالغة، بأنها خطوة وقائية من جانب موسكو تحسبا لما يمكن أن تقوم به الإدارة الأمريكية فى سوريا خلال الفترة المقبلة. وبالطبع لا يقلل من أهمية ذلك أن موسكو تشاورت مع واشنطن بشأن تلك المناطق الأربع، وهو أمر مفهوم فى إطار طبيعة وأهمية العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة، سواء بشأن سوريا أو بشأن قضايا إقليمية ودولية أخرى بالطبع . على أية حال فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى ما يلى بشأن إنشاء مناطق التهدئة الأربع: أولا: أنه من المعروف أن روسيا سبق أن عارضت بشكل قوى تلميحات ومطالبات تركيا، وكذلك رغبة واشنطن، لإقامة مناطق آمنة على الحدود السورية التركية، بغرض أو هدف معلن هو توفير حماية للمدنيين السوريين من غارات طائرات النظام، ولكن الغرض الحقيقى لأنقرة، هو إنشاء مناطق عازلة على الحدود مع سوريا، لإبعاد الأكراد إلى خلف نهر الفرات، وعرقلة محاولاتهم تشكيل كيان سياسى تخشى تركيا تأثيره على الأكراد فيها من ناحية، ولإيجاد موطئ قدم لها فى سوريا، بمبرر ما، وبما يخدم أطماعها المعروفة فى بعض مناطق شمال سوريا، كما هو معروف من ناحية ثانية. وبينما أدى عدم الحماس الأمريكى لذلك إلى إضعاف الفكرة فى الأشهر الماضية، فإنه يبدو أن واشنطن تسعى للقيام بدور فى سوريا، على الأقل لتأمين مصالحها، أو لمقايضة موسكو حول هذه المصالح، لذا فإنه لم يكن مصادفة أبدا أن تعود فكرة إنشاء مناطق آمنة فى سوريا إلى الظهور مرة أخرى وهذه المرة من جانب واشنطن، حيث تحمس ترامب للفكرة، بعد حادث استخدام أسلحة كيماوية فى خان شيخون الشهر الماضى، واتهام واشنطن للقوات الحكومية بذلك، وقيامها بضرب قاعدة الشغور الجوية استنادا إلى ذلك، برغم أنها تعارض إجراء تحقيق دولى فى الحادث الذى نفت دمشقوموسكو تورط القوات الحكومية فى استخدام غاز السارين فى خان شيخون الشهر الماضى. وبالطبع تلقفت تركيا الأمر وعادت إلى الحديث عما كانت تتحدث عنه من قبل بشأن المناطق الآمنة فى سوريا .
وفى إطار هذه الخلفية، فإنه من المرجح أن موسكو، التى تتوفر لها معلومات حول نيات واشنطن، سارعت فى خطوة استباقية ووقائية أيضا، بإنشاء مناطق التهدئة الأربع وتنفيذها سريعا على الأرض، بل محاولة تأمين تأييد إقليمى ودولى لها، فى مجلس الأمن وخارجه. وبالطبع لم يكن فى وسع واشنطن سوى الترحيب، وبالطبع تركيا التى تعد طرفا ضامنا لوقف إطلاق النار فى سوريا. غير أن موقف المعارضة السورية، الذى رفض الأمر، ووصف الخطوة بأنها تمهد لتقسيم سوريا، هو موقف دال يشير إلى مواقف الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة للمعارضة السورية، التى لا تستطيع أن تعلن معارضتها لهذه الخطوة لاعتبارات كثيرة .
ثانيا: أنه يبدو أن موسكو قد تخوفت من إقدام واشنطن على إنشاء مناطق آمنة فى شمال سوريا، وتحت حمايتها، خصوصا أن هناك بالفعل قوات أمريكية محدودة على الأرض فى سوريا، ظهرت قبل أسابيع، للفصل بين القوات التركية وقوات سوريا الديمقراطية الكردية، ومنع التماس بينهما فى شمال غرب سوريا. لذا فإنها سارعت بإنشاء مناطق التهدئة الأربع لسحب البساط من تحت أقدام إدارة ترامب، وإنهاء مبررها لإقامة مناطق آمنة فى سوريا، خصوصا أنها تدرك أن إدارة ترامب لا تعبأ بالحفاظ على وحدة سوريا، كما أن تركيا ستستغل ذلك لخدمة مصالحها على حساب سوريا. ومن ثم جاءت هذه الخطوة الروسية كخطوة استباقية، ووقائية أيضا لقطع الطريق على مثل هذا التطور، الذى كان يلوح فى الأفق . ومع الوضع فى الاعتبار أن السلطات السورية لا تستطيع رفض ما قد تراه موسكو مناسبا لسوريا، فى الظروف الراهنة، وبالتالى وافقت دمشق على هذه الخطوة، فإنه من الواضح أن روسيا تشكل ضمانة، تثق فيها دمشق، وأن إعلان مناطق التهدئة الأربع كان للحيلولة دون إنشاء مناطق آمنة برعاية أمريكية وتركية، كانت ستقود على الأرجح إلى تقسيم سوريا، الذى تعارضه روسيا بشكل كبير . أما تباكى المعارضة السورية ورفضها لتلك المناطق الأربع والقول بأنها خطوة على طريق تقسيم سوريا، فإنه يظل مناورة لصالح القوى التى تقف وراءها، ومحاولة للحصول على بعض المكاسب بشكل أو بآخر .
ثالثا: أنه برغم الثقة فى التزام موسكو بوحدة سوريا الإقليمية، وهو ما تم التأكيد عليه أيضا، عند إنشاء مناطق التهدئة الأربع، وهو ما أقرته إيرانوتركيا كذلك، وهو أمر مهم بالنسبة لمستقبل سوريا وأطماع تركيا فيها، فإنه من الطبيعى أن تثير الخطوة الروسية بعض القلق بالنسبة لوحدة سوريا ومخططات تقسيمها من جانب بعض القوى، ومنها بعض فصائل المعارضة السورية. غير أن ما يمكن أن يقلل من المخاوف هو أن روسيا بوجودها الفعلى فى سوريا، وبتحركها النشط على الأرض، وتأييدها لوحدة سوريا ورفض تقسيمها، تظل قادرة على عرقلة ومنع هذا الاحتمال، خصوصا أنها أعلنت إجراءات محددة لمنع طيران التحالف الدولى والطيران الأمريكى فوق المناطق الأربع.
ومن جانب آخر فإن ما تمر به المعارضة السورية من حالة ضعف ملحوظة، ومن تشرذم متواصل، يحولان دون نجاحها فى الاستئثار بأية مناطق فى سوريا وإدارتها بكفاءة، خصوصا أن حبالا سرية عديدة تربط بين فصائلها وأطراف إقليمية ودولية تغذيها من خارج سوريا.
وفى الوقت ذاته فإن القوات الحكومية تتقدم باستمرار لتقلل من المناطق التى تسيطر عليها الميليشيات الإرهابية .
ومع استمرار استهداف مواقع الميليشيات الإرهابية – داعش وجبهة النصرة وفصائل أخرى – فإن الفترة المقبلة، وما سيتم على الأرض وموقف موسكو، وبالطبع واشنطن وأنقرة، سيحدد إلى درجة كبيرة مستقبل الأوضاع فى سوريا، ولعل الخطوة الروسية تقطع الطريق على أطماع تركياوإيران وغيرهما فى سوريا الشقيقة.