إن كان لنتائج محادثات «جنيف 7» حول الأزمة السورية، على قلة ما توصلت إليه، أن تدلنا على شىء فهو أن الأطراف الدولية والاقليمية المنخرطة في الأزمة باتت مستعدة لقبول «حلول وقتية» ب«مخرجات غامضة». فلا أحد في سوريا لديه النفوذ على الأرض والقوات التى تمكنه من تحقيق أهدافه الحقيقية كاملة، بدءاً من روسياوإيران، وانتهاء بأمريكا وتركيا، مروراَ بالقوى العربية الفاعلة على الساحة السورية. وفي ظل العجز عن تحقيق الأهداف الحقيقة المبتغاة، دخلت سوريا مرحلة «حلول الترضيات» و«حلول الحد الأدنى». وهذا يجهز الساحة السورية لتحولات كبيرة مقبلة. ولهجة المبعوث الدولى للأزمة السورية ستيفان دى ميستورا خلال اجتماعات جنيف الأخيرة كانت واضحة فى التعبير عن تلك المرحلة الجديدة. فقد كرر دى ميستورا خلال الأيام الأربعة للاجتماعات، بشكل مباشر وضمناً، الإستنتاج التالى: «المواجهات العسكرية فى سوريا فى الرمق الأخير. ووقف العنف والهدنة التكتيكية شعار المرحلة». رسالته هذه كانت موجهة إلى الجميع وعلى رأسهم فصائل المعارضة السورية المسلحة. فالتطورات على الأرض لا تشى بشهية أمريكية للتوغل عسكرياً أكثر من المعدلات الحالية. فواشنطن لا تمتلك قوات فاعلة على الأرض، لا من ناحية العدد، ولا من ناحية الحاضنة الاجتماعية. فقد راهنت واشنطن على لاعبين محليين كثر خلال السنوات الست الماضية، ولم يكسب الرهان منهم سوى أكراد سوريا الذين يشكلون حاليا «قوات سوريا الديمقراطية» التى تحارب داعش» على جبهات عدة واستطاعت هزيمتهم فى الشمال السورى وتخوض ضدهم حالياً معارك ضارية فى الرقة، شمال وسط سوريا. ويقول مصدر أوروبى كبير مطلع ل«الأهرام»: «الأمريكيون سلموا بحقيقة أن هناك فى سوريا حالياً قوتين اثنتين فقط على الأرض وهما: قوات الجيش السوري، و(قوات سوريا الديمقراطية) التى تتشكل فى غالبيتها من أكراد سوريا والتى يبلغ عددهم نحو 70 ألف شخص». ويتابع موضحاً: «فصائل المعارضة التى تدعمها أمريكا والتى تعمل فى اطار الجيش السورى الحر ضعيفة واعدادها تتقلص ومشكلتها الأكبر أنها باتت تتبع كلياً المشروع الأمريكي فى سوريا. فهي تعمل فى قواعد ومنشآت عسكرية أمريكية لحماية مصالح أمريكا وحلفائها على عكس الأكراد السوريين مثلا الذين يخوضون المعارك بأولوياتهم ووفقاً لمصالحهم السياسية». وأخذاً فى الاعتبار التطورات الميدانية الأخيرة والتى يمكن تلخيصها فى 3 تطورات أساسية هى: أولا : استعادة الجيش السورى الكثير من المساحات التى كان خسرها لصالح المعارضة المسلحة. وفى هذا السياق كان عام 2016 حاسما. فهزيمة المعارضة وإجبارها على مغادرة حلب، وعودة المدينة لسيطرة الدولة شكل انتكاسة كبيرة لمشروع الفصائل المسلحة. فحلب، بسبب قربها من الحدود التركية، كانت المركز الاستراتيجي الذى يمر عبره المقاتلون والأسلحة والأموال والآليات والعتاد. بالتزامن مع ذلك، أحكم الجيش السورى سيطرته حول العاصمة دمشق وريفها. فقد تكبدت فصائل المعارضة هزائم اجبرتها على الخروج من غالبية ريف دمشق، ولم يبق أمام القوات السورية سوى إستعادة حى جوبر الدمشقى قبل حصار وتطويق ما تبقى من هذه الفصائل بشكل كامل. ثانيا: توسع إيران والقوات المتحالفة معها وعلى رأسها «حزب الله» و«الحشد الشعبى» فى مناطق إستراتيجية من البادية السورية. وتخوض إيران وحلفاؤها معارك حالياً فى ريف حمص والبادية السورية، فى الوسط، والسويداء، جنوباً. وهى عملياً باتت قريبة من تأمين طريق طهران -بغداد- دمشق الذى دخلت أطراف اقليمية ودولية ساحة الصراع من أجل قطعه وإنهاء الممر الإيراني إلى حزب الله. ثالثا: مقابل تقدم الجيش السورى، وإيران وحلفائها بغطاء جوى روسى فعال، والأكراد السوريين ممثلين فى «قوات سوريا الديمقراطية»، تتراجع بشكل مضطرد مناطق سيطرة فصائل «الجيش السورى الحر» المدعومة أمريكيا. فمع تقدم القوات السورية وإيران فى البادية وريف دمشق والسويداء والقنيطرة، باتت تلك الفصائل «محاصرة» من كل جانب. من قلب هذا الوضع الميداني ونتيجه له، وافق الرئيس الأمريكى دونالد ترامب خلال محادثاته مع نظيره الروسى فلاديمير بوتين فى قمة العشرين فى هامبورج على اتفاق مناطق «خفض التوتر» وبدأ تنفيذه فى المناطق الجنوبية على الحدود السورية مع الأردن وإسرائيل. ومع أن تفاصيل الاتفاق لم يتم التوافق حولها، إلا أن الإطار العام واضح. فأمريكاوروسيا وتركيا وإيران يريدون تطبيق نظام «خفض التوتر» فى أربعة مناطق تجسد مصالحهم الحيوية وهى: أولا: منطقة خفض توتر فى ريف دمشق. وهذا مطلب سورى -إيرانى. فالتهدئة تعنى استكمال دمشقوطهران السيطرة على وسط وشرق سوريا وفتح طريق طهران-دمشق. ثانيا: فى درعا والسويداء والقنيطرة. وهذا مطلب أمريكى -اسرائيلي. فكلاهما يريد إبعاد القوات الإيرانية وحزب الله من الحدود الإسرائيلية. وبالفعل شهدت الأيام القليلة الماضية تراجعا لإيران وحلفائها من المناطق الحدودية مع الأردن وإسرائيل، مقابل تمددهم فى البادية السورية نحو تدمر ودير الزور شرقا. ثالثا: فى حمص. وهذا مطلب روسى-إيرانى، فموسكو تريد ضمان حماية مصالحها الاستراتيجية فى سوريا، خاصة قواعدها العسكرية على السواحل الغربية السورية ومواصلة الزخم الذى تم تحقيقه على جبهات القتال. رابعا: فى الشمال السورى. وهذا مطلب تركى، فأنقرة تريد الهدنة فى ريف حلب الشمالى وإدلب لإقامة منطقة عازلة لمنع إقامة أكراد سوريا مناطق حكم ذاتى على حدودها. لكن هذا السيناريو ترفضه سورياوإيران وتتحفظ عليه روسياوأمريكا «لأنه سيأتي على حساب اللاعب الأقرب لواشنطن حاليا فى الساحة السورية وهم الأكراد»، كما يقول المسئول الأوروبى ل«الأهرام». وعلى الرغم من أن الروس والأمريكيين والأممالمتحدة يكررون إلتزامهم بوحدة الأراضي السورية، إلا أن خطة «مناطق التهدئة» يمكن أن تؤدى عملياً إلى شىء شبيه بما حدث فى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. فبعد الحرب قسمت ألمانيا إلى أربع مناطق إدارية تتبع أمريكا وبريطانيا وفرنسا والإتحاد السوفيتى السابق. وخلال خمس سنوات وضعت تلك الدول بصمات نفوذها بعيد المدى فى المناطق الخاضعة لسيطرتها عبر الدستور ونظام الحكم والقوانين. ومع مطلع الخمسينيات قسمت ألمانيا فعلياً إلى دولتين ألمانياالغربية (مناطق سيطرة أمريكا وفرنسا وبريطانيا) وألمانياالشرقية. (مناطق سيطرة الإتحاد السوفيتى السابق) وظلت مقسمة لنحو خمسة عقود. وأخذا في الاعتبار التاريخ الطويل بين أمريكاوروسيا فى تقاسم النفوذ وتجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فإن تحفظ البعض على غياب أى تفاصيل معلنة حتى الأن بخصوص «مناطق التهدئة»، مفهوم تماما. فغياب التفاصيل المعلنة قد يكون مؤشرا على خلافات عميقة حول مفهوم مناطق التهدئة والمستهدف منه. وحتى فى ردود الفعل المرحبة من الأممالمتحدة، كان خلف كلمات الترحيب تحذير ضمنى من المساس بوحدة الأراضى السورية. فمناطق «خفض التوتر» قد تكون عمليا بداية «التقسيم الناعم» لسوريا، حيث يكون خفض التوتر تعبيرا «ملطفا» ل«المناطق العازلة» أو مناطق «نفوذ خاصة». وقف العنف والقتال بات إذا أولوية دولية واقليمية، لكن هذا لا يعنى بالضرورة إنتهاء «السيناريو الأسوأ» فى سوريا.