ذات مساء, دخلت سيدة في السابعة والعشرين من عمرها مكتب رئيس المباحث. وكانت رابطة الجأش, وفاجأته باعتراف مذهل: لقد قتلت صحفيا رميا بالرصاص. وهو مدرج بدمائه الآن في شقتي. وتحققت الشرطة من صدق رواية كاترينا. وبررت قتلها للصحفي بانه تسبب في موت أمها المريضة. فقد تنكر في ملابس عمال الطلاب الذين كانوا يعملون في المستشفي. وتسلل الي حجرة أمها ليجري معها حديثا. ونشر علي لسانها كلاما مشوها لا يمت للحقيقة بصلة. ووافقت كاترينا علي أن يجري حديثا معها, وماأن استقبلته في شقتها حتي أطلقت الرصاص عليه. ذلك أن كاترينا كانت تحقق معها الشرطة للاشتباه في تسترها علي شاب يساري تلاحقه أجهزة الأمن. قد حولت الصحيفة التي كان يعمل بها الصحفي القتيل حياتها الي جحيم. فهي صحيفة تنزع الي الاثارة. وتنتهك الحياة الخاصة للمواطنين سعيا وراء نشر أخبار مثيرة, حتي لو اختلقتها اختلاقا. هذه هي الفكرة الجوهرية لرواية شرف كاترينا الضائع, التي اتكأ عليها هايريش بل الروائي الألماني الفائز بجائزة نوبل للأدب عام4791, في كشف الدهاليز المعتمة لصحيفة صفراء اسمها بيلد. وهي صحيفة أطلقها عام2591 امبراطور الصحافة الألماني شبرنجر. وتصرخ عناوين صفحتها الأولي بآباء الجرائم والاغتصاب. وتختلق قصصا اخبارية مثيرة, كان من أبرزها أن تلميذا ألمانيا يشرب دماء الفتيات. واقتحم صحفيو الجريدة شقته, وعاثوا فسادا في مقتنياته. واقتادته الشرطة للسجن. غير أن المحكمة برأت ساحته. فقد ثبت أنه كان يجري في شقته تجارب كيماوية. صحيفة الاثارة الألمانية بيلد, صارت أكثر الصحف توزيعا في أوروبا بأسرها. فهي توزع أكثر من أربعة ملايين نسخة. ويشهر شبرنجر أسنة أعمدتها في قلب خصومه السياسيين, لتشويه مواقفهم, ولا بأس من تلويث سمعتهم. فهو يميني يناصب اليسار والاشتراكية الديمقراطية العداء. ولم يفلت من مخالبه الغليظة هاينريش بل أعظم أدباء ألمانيا, فيما بعد الحرب العالمية الثانية. فقد استاء من دفاعه عن ثورة الطلبة التي أجتاحت ألمانياالغربية عام.8691 وتفاقم حنقه عندما طالب بل بمحاكمة عادلة لأعضاء جماعة بادر ماينهوف المتطرفة, بقصد التوصل الي الدوافع الحقيقية التي دفعتهم لارتكاب ماارتكبوه من عنف دموي. ولذلك هاجمته صحيفة بيلد بشراسة, واتهمته بانه إرهابي أحمر. وتصدي هاينريش بل لهذه الهجمة الضارية وتضافر معه أبرز المثقفين وأكدوا مقاطعتهم للصحيفة. وأسس كاتب ألماني هو جونتر فالراف رابطة مناهضة لصحيفة بيلد. وهو ماأرغم الصحيفة علي تخفيف الاثارة والثرثرة. ويقول العالمون ببواطن الصحافة, أن صحف امبراطور الاعلام روبرت ميردوخ تماثل تماما صحف امبراطورية شبرنجر. ولعل الفارق أن بيلد كانت أكثر نزقا. وقد زجت جريمة تنصت صحف امبراطورية ميردوخ علي تليفونات المشاهير والمواطنين بمستقبل امبراطوريته في النفق المظلم. ويقول كاتب مرموق ان ميردوخ كان ينتزع ضمير الصحفيين الذين يعملون في امبراطوريته. ماذا يبقي للصحفي اذا انتزع الامبراطور أو الطاغية ضميره ؟.. لا شيء مجرد مسخ شائه.. ينثر الاثارة والثرثرة في أعمدة الصحف الصفراء.. ان الصحفي يتألق بالافكار الخلاقة, ويؤسس مشروعه بالاشتباك الواعي والمستنير مع قضايا وطنه.. بحثا عن تجليات الشعب واشراقات الغد.. وتلك هي مهمة الصحافة ورسالتها النبيلة. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي