عدت من دولة المغرب الشقيق فجر يوم الأربعاء الماضي لأجد كل من أعرف غاضبا علي قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة, يوم الإثنين الماضي, برفض تعيين المرأة قاضية, وكان الغضب قرين الاستياء القائم علي أشده بين المنظمات الحقوقية المعنية بقضايا المرأة. فضلا عن خريجات كليات الحقوق اللائي يمكن لهذا القرار أن يعيقهن عن التعيين في مجلس الدولة. وكان من الطبيعي أن يصدر عدد من المنظمات الحقوقية بيانا يدين القرار ويصفه بمخالفة القانون والدستور, وأن ينظم عدد من الخريجات والحقوقيين وقفة احتجاجية يوم الخميس الماضي, أمام مجلس الدولة, احتجاجا علي قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة, ووصفت رئيسة المركز لحقوق المرأة القرار بأنه قرار كارثي, فيما نقلته صحيفة الدستور, وأكدت أن يوم القرار يوم أسود في تاريخ قضية المرأة في مصر, وأعلنت أن القرار يخالف نص المادتين:40,2. وكان مفتي الجمهورية قد أعلن من قبل أنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية مايمنع تعيين المرأة قاضية, وكان من الطبيعي أن تتحدث المستشارة تهاني الجبالي, رافضة الأمر, مذكرة الجميع بالقرار القديم الصادر من المجلس الأعلي للهيئات القضائية, قبل تعيينها قاضية بالمحكمة الدستورية العليا, وبعدها بثلاث سنوات تم تعيين اثنتين وأربعين قاضية بالقضاء العادي, وهو أمر يترتب عليه أنه لا يجوز لأية هيئة من الهيئات القضائية أن تتراجع في مناقشة قرار اتفقت عليه جميع الهيئات القضائية فيما يخص تعيين المرأة في القضاء. وكان إرهاق السفر الي المغرب والعودة منها قد حال بيني وحضور اجتماع طارئ للمجلس القومي للمرأة لمناقشة القرار, وكم كنت أرغب في الذهاب, ولكن إرهاق عدم النوم في رحلة استمرت طوال الليل, قد نال مني وعاقني عن الذهاب الي الاجتماع الطارئ, ومشاركة غيري من العضوات والأعضاء في الاحتجاج الواجب علي هذا القرار الذي هو تمييز قضائي غير عادل في حق المرأة, وما كان ينبغي صدوره بالمخالفة لقرارات هيئات قضائية عليا, وما أصبح واقعا فعلا من وجود قاضيات في القضاء العادي. وللأسف, كنت قادما من المغرب التي أصبحت فيها المرأة قاضية, وهي قريبة من تونس التي سمحت بوجود المرأة قاضية, ناهيك عن دول عربية أخري, سبقناها الي التقدم والاستنارة وتحرير المرأة, وسبقتنا في تعيين المرأة قاضية, ويحدث هذا الذي حدث في الجمعية العمومية لمجلس الدولة الذي يقع في مصر, بلد هدي شعراوي وسيزا نبراوي ونبوية موسي اللائي اشتركن باسم مصر في اجتماع النساء العالمي في روما, معلنات تأسيس الاتحاد النسائي المصري سنة1923, وكان هذا الاتحاد أول اتحاد للمرأة العربية, وذلك بعد أن خلعت هذه المرأة النقاب في روما, وأسفرت عن وجهها, بعد أن فعلت ذلك في أولي مظاهرات المرأة المصرية سنة1919, وكان ذلك بعد عشرين عاما من صدور كتاب قاسم أمين عن تحرير المرأة, وبعد ثمانية عشر عاما من صدور كتابه الثاني عن المرأة الجديدة والحق أن المرأة الجديدة أثبتت حضورها مع صعود النهضة المصرية النسائية, فأصبحت وزيرة في زمن عبدالناصر, ثم في زمن السادات, وزاد عدد الوزيرات في عهد مبارك, فضلا عن آلاف الاستاذات الجامعيات, والطبيبات, والمديرات خصوصا بعد ان اصبحت المرأة عالمة ذرة, ووصلت الي منصب رئيسة جامعة ونائبة رئيس جامعة وعميدة, وأثبتت حضورها الناجح في كل مجال, وكان هذا الحضور نعمة علي المجتمع, وإسهاما حقيقيا في تطويره. ولكن مصر قد ابتليت للأسف ببلاء جماعات التأسلم السياسي التي ساعدتها علي التأثير الضار في المجتمع عوامل عديدة, داخلية وخارجية, ولذلك تمكنت هذه الجامعات من اختراق المؤسسات التضامنية للمجتمع المدني, وبعض مؤسسات الدولة, صانعة نوعا خطرا من الردة عن مسار التقدم, ولا تزال تعمل علي تدمير كل أوجه التقدم التي أنجزتها المسيرة الطويلة للمرأة, والغرض الأساسي هو القضاء علي الدولة المدنية وبناء الدولة الدينية علي أنقاضها, وقد عملت هذه الجماعات علي تديين المجتمع, أي المبالغة في إقحام الدين في شئون الدنيا, تجاهلا لما تعلمناه عن ديننا الحنيف من أننا أدري بشئون دنيانا, وأنه من حقنا الاجتهاد في شئون حياتنا التي نعيشها, وقد سبقتنا دول مسلمة في هذا الاجتهاد, فأصبحت المرأة رئيسة دولة, وقاضية, بينما نحن الذين سبقنا في ميراثنا الي وجود حاكمة( شجرة الدر) أكملت دور زوجها في محاربة الغزو الصليبي وانتصرت عليه, وقامت حفيداتها بمحاربة المحتل الانجليزي في مصر والفرنسي في الجزائر والمغرب, وإذا بحالنا ينقلب منذ الحقبة الساداتية, خصوصا بعد ان تحالف السادات مع الإخوان المسلمين, وأطلق العنان لجماعات التأسلم السياسي لإضفاء نزعة التديين علي كل شيء, وعندما أدرك فداحة الخطأ الذي ارتكبه في حق بلده رائد التقدم العربي, كان الوقت قد فات, وأردته رصاصات الذين تحالف معهم, وتحولت هذه الرصاصات الي تيار أصولي, لا يتردد في إرهاب المخالفين بالقتل, كما حدث مع اغتيال فرج فودة وغيره, ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ وأمثاله, وأضف الي ذلك محاولة اغتيال العقل المصري كله وقمعه بدعاوي دينية متطرفة لا أصل لها من الدين. وكان من الطبيعي أن تنال رصاصات القمع المعنوي من المرأة علي وجه الخصوص, ويتم تحريم ما أحله الله لها, كما لو كان هناك عداء فطري بين هذه الجماعات المتأسلمة والمرأة, فسره البعض, تطرفا, بأنه نوع من الكبت الجنسي, وهو تفسير لا أميل إليه, ولكن اللافت أن المرأة علي وجه الخصوص تنهال عليها دعوات التحريم, وتمارس ضدها أشكال التمييز, فبعد المطالبة بالحجاب وشيوعه( مع أن الايمان ما وقر في القلب ولا يختزل في قطعة ثوب) جاءت الدعوة الي النقاب الذي انتشر بما يؤكد موقفا رمزيا, لا يخلو من طابع أصولي سياسي وديني في آن, ورغم تجريم وتحريم منع حقوق المرأة في الميراث, فلا يزال هناك من يبارك سلب المرأة ميراثها في الصعيد, ومن يصر علي الزعم بأن المرأة ناقصة عقل ودين, وأن كل مافيها عورة, وأن عملها حرام, وأنها تأخذ حق العمل من الرجل, وقد كنت, ولا أزال, أظن أن مجلس الدولة بعيد عن ذلك كله, وأنه بمنأي من التطرف, وأنه مع حق المرأة العادل, ويرفض أي شكل من أشكال التمييز ضدها, لكنه بهذا القرار الأخير من الجمعية العمومية, أخلف ظن الكثيرين وحرم ما أباحه المفتي وكبار الدين, وماجرت عليه دول إسلامية كثيرة, وأخذ قرارا لابد من رفضه علي كل مستوي, وبالكلمة وبالفعل, فمنع المرأة حقها الدستوري في اعتلاء منصة مجلس الدولة قرار يرفضه كل مواطن يؤمن بالمعني الحقيقي الأصيل للمواطنة في الدولة المدنية لا الدولة الدينية التي يسعي اليها البعض, ولابد من مواجهة هذا القرار دفاعا عن الدولة المدنية, ودفاعا عن حق المرأة في المواطنة, ودفاعا عن جوهر الإسلام السمح الذي تريد الأصولية الدينية تشويهه.