إن ما يتطور فى الضفة الغربية فى هذه الأيام ليس مجرد «جولة احتكاكاتٍ» جديدة، إنه ليس حدثا موسميا مرتبطا بموسم قطاف الزيتون فى الخريف، وليس انفجارا موضعيا للعنف يمكن احتواؤه، أو تأطيره فى أنه مشكلة محلية؛ نحن أمام واقعٍ مختلف، أخطر كثيرا، نابع من سياسة واضحة؛ هذه السياسة مستمرة ومنهجية، هدفها فرض وقائع على الأرض، بحيث لا يبقى ضم الضفة الغربية تصريحا سياسيا مؤجلا، بل يصبح ممارسة يومية فى الحاضر. إن الحجة القديمة التى تطرحها المنظومة الأمنية فى إسرائيل، والقائلة إن كل موجة عنف من هذا النوع هى مسألة مؤقتة تظهر أساسا فى فترات «حساسة»، مثل موسم قطاف الزيتون، فقدت كل مضمونها؛ فموسم القطاف انتهى منذ زمن، والعنف ازداد حدّةً بعده؛ والاعتداءات على رعاة الأغنام الفلسطينيين والمزارعين والعائلات فى القرى والمدنيين العزّل لا تتوقف. المعتدون لا يستخدمون الحجارة والعصى فقط، بل أيضا السلاح النارى وغاز الفلفل وأدوات تخريب الأملاك والحرق؛ يُصاب الناس، وتُذبح الأغنام، وتُقتلع الأشجار، وكل ما هو فلسطينى أصبح مباحا للاعتداء. إن أحداث الأيام الأخيرة تجسّد خطورة العنف بوضوح: فى ليلة الإثنين – الثلاثاء الماضيين، اقتحم خمسة إسرائيليين منزل عائلة فى قرية السموع، جنوبى جبل الخليل، فأصابوا الأم وثلاثة من أطفالها، واعتدوا أيضا على أغنام العائلة. لم يعُد إيذاء الحيوانات التى يملكها فلسطينيون استثناءً منذ زمن، بل أصبح نمطا متكررا، كذلك إطلاق مستوطن النار على فلسطينيين بالقرب من مستوطنة عناتوت مساء الإثنين الماضى، والذى انتهى بإصابات خطِرة، يعكس واقعا أوسع: استخدام السلاح العسكرى ضد المدنيين الفلسطينيين باستخفاف، أحيانا بأيدى المستوطنين، وليس الجنود، لكن الرواية الإسرائيلية الرسمية ستؤطر ذلك دائما فى أنه «اشتباك» و«رشق بالحجارة» لتبرير النتيجة. وهنا تكمن المشكلة بالضبط: المحاولة المستمرة فى المنظومة الأمنية والقيادة السياسية لتأطير العنف، باعتباره أفعال «قلّة صغيرة»، أو «شبان التلال»، أو «شبان متطرفين» لا يمثلون المستوطنين، هى تضليل، ليس لأن المتطرفين غير موجودين، بل لأن هذا التطرف يعمل من داخل غلاف من السياسة الرسمية؛ إنه يحظى بتغاضٍ منهجى من المؤسسة السياسية - الأمنية، وأحيانا بدعمٍ ضمنى. إذا كان هناك ردع فى الضفة الغربية، فهو يُمارَس ضد الفلسطينيين فقط، ولا يشعر المستوطنون العنيفون بأنه تهديد حقيقى؛ فالجيش والشرطة وأجهزة الأمن موجودون فى الميدان، لكن وجودهم لا يحمى الفلسطينيين، بل بالعكس، فى حالات كثيرة، يولّد هذا الوجود شعورا بالحصانة لدى المعتدين، وعندما يحمل الفلسطينى سلاحا، يصبح هدفا فوريا، وعندما يعتدى مستوطن مسلح على فلسطينيين، تُميَّع الحادثة، أو يُفتَح تحقيق ببطء شديد، أو تُغلَق القضية من دون تقديم لائحة اتهام؛ هذه ليست فوضى، بل هى تمييز واضح بين مَن تحميه المنظومة، وبين مَن يُترك مكشوفا بالكامل. وفى ظلّ هذا الواقع، تحولت السلطة الفلسطينية إلى جهةٍ غير ذات صلة، إذ لا تستطيع عناصر شرطتها وأجهزتها الأمنية الاقتراب من مناطق الاحتكاك، وأحيانا يخافون من ذلك؛ وتفشل المحاولات المحلية لتشكيل لجان حراسة فى القرى بسبب الاعتقالات، وبسبب عنف الجيش، وفى الأساس لأنه لا توجد وسيلة حقيقية لمواجهة مستوطنين مسلحين يتمتعون بالحصانة؛ فالرسالة للفلسطينيين واضحة: لا أحد يحميكم. إلى جانب العنف، تتقدم أيضا السياسة الحكومية الرسمية؛ فمصادقة الكابينت على تسوية 19 بؤرة استيطانية جديدة - بعد تسوية عشرات البؤر فى الأعوام الأخيرة - واستثمار عشرات المليارات من الشواكل فى البنية التحتية فى الضفة، ليست خطوات تقنية، إنها جوانب أُخرى من الخطوة نفسها. هكذا يُنفَّذ الضم فعليا، من دون إعلانٍ رسمى، وبحجةٍ دائمة تصعب مجابهتها: «الأمن». وهنا يدخل أيضا البُعد الدولى، إذ كان يُعتقد فى الماضى أنه سيفيد ويوفر الحماية للفلسطينيين، لكنه فشل فى اختبار الواقع؛ لا الأممالمتحدة (ومؤسساتها) تساعد سكان الضفة الغربية، ولا المحكمة الجنائية الدولية، ولا أوروبا «المستنيرة»، ولا حتى الصين القوية، ولا جدوى من الاعتماد على الدول العربية، وإذا كنتم لا تصدقون؟ فاسألوا الفلسطينيين فى غزة. يبقى رئيس الولاياتالمتحدة دونالد ترامب؛ فإذا كان لا يزال يحاول إقناع نفسه بأنه لا يوجد ضمّ فى الضفة، وبأنه حقّق سلاما فى الشرق الأوسط لم يشهد مثيلا له منذ 3000 عام، فعليه أن يشاهد ما يجرى على الأرض، الأفعال، وليس التصريحات. ربما تكون الحرب فى غزة توقفت، على الرغم من أن سكانها سيواجهون آثارها المدمرة أعواما طويلة، لكن فى الضفة الغربية، تتطور حرب أُخرى، أكثر هدوءا، لكنها لا تقلّ تدميرا، فمن يبحث عن السلام، لا يمكنه تجاهُل هذا الواقع، ولا يمكنه وصف الضفة بأنها منطقة مستقرة. إن السلام لا يُبنى على أساس عنفٍ يومى، وتهجيرٍ تدريجى، وحرمانٍ جماعى من الحماية؛ هذه هى الحقيقة، وفى الضفة الغربية، لم يعُد فى الإمكان إخفاء ذلك منذ زمن طويل. جاكى خورى هآارتس مؤسسة الدراسات الفلسطينية