في أعقاب سقوط مبارك, وتشكيل حكومة الدكتور عصام شرف, وتولي الدكتور نبيل العربي وزارة الخارجية, سرت تحليلات كثيرة تتحدث عن حدوث تغير جوهري في سياسة مصر الخارجية, واستندت التحليلات إلي عبارات وردت علي لسان وزير الخارجية. من قبيل أن مصر سوف تستأنف علاقاتها الدبلوماسية مع إيران, ووجدت هذه التحليلات في تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو التي تحذر من تحولات في سياسة مصر الخارجية, ما اعتبرته مؤشرات علي هذا التحول. في نفس الوقت جري تركيب مشهد من عدة عناصر وجري الترويج له بأنه يؤكد عمق التحول في سياسة مصر الخارجية وبدا الأمر وكأن مصر قد انتقلت إلي محور الممانعة أو أنها علي طريقها كي تدخل خانة الدول المنبوذة أو المعادية للغرب علي غرار النظام الإيراني. ومن بين هذه العناصر طلب مصر مراجعة أسعار الغاز الطبيعي الذي تحصل عليه إسرائيل, ورعاية مصر للمصالحة بين حركتي فتح وحماس, وأيضا قرار مصر بفتح معبر رفح بشكل دائم اعتبارا من يوم السبت الموافق28 مايو.2011 وعند إمعان النظر في هذه الأقوال يبدو واضحا أنها أقوال مرسلة, تحاول تركيب عناصر قسرا للدلالة علي هذا التغير الحادث والمتوقع في سياسة مصر الخارجية, دعونا أولا نفكك هذه العناصر ونبدأ بالحديث عن السياسة الخارجية المصرية في عهد مبارك, وهنا نقول أن مبارك وظف سياسة مصر الخارجية في السنوات الخمس السابقة علي السقوط لخدمة مشروع توريث السلطة في مصر لنجله جمال, وفي سبيل هذا الهدف, استغل نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي جرت في يناير2006, والتي فازت فيها حركة حماس بالأغلبية, حيث بعث برسائل للغرب, الولاياتالمتحدة تحديدا, مؤداها أن أي انتخابات حرة نزيهة سوف تأتي بالأسلاميين إلي السلطة, فالشعب المصري غير ناضج بما فيه الكفاية ليتمتع بالديمقراطية, وأن تولي الإسلام السياسي للسلطة سوف يأتي علي حساب المصالح الغربية ويقدم علي إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل, وجاءت الحرب الإسرائيلية علي لبنان في يوليو2006, وقيام صحف مصرية خاصة بتوزيع صور حسن نصر الله لتقدم هدية إضافية لمبارك الذي استغلها لخدمة مخطط التوريث بالقول أن الرأي العام المصري متطرف ويمكن أن يأتي بشخصيات معادية للغرب وإسرائيل, ومن ثم فالأفضل عدم المطالبة بالديمقراطية أو حقوق الإنسان في مصر إلي أن ينضج الشعب, ووصل بعد ذلك إلي معادلة مع الولاياتالمتحدة مؤداها اتركوا لنا الشأن المصري الداخلي, فنحن أدري بشعبنا, ونعرف كيف نحكمه ونحافظ لكم علي مصالحكم وعلي معاهدة السلام مع إسرائيل, وسوف ننفذ لكم كل ما تريدون إقليميا, أي أن السياسة الخارجية لمصر سوف تتحرك وفق ما تريد واشنطن, ومن ثم إسرائيل. بسقوط مبارك, سقطت معه هذه المعادلة, ومن ثم تحررت السياسة الخارجية المصرية من أسر خدمة مشروع التوريث, وباتت تعبر عن سياسة دولة إقليمية رئيسية لها من الكرامة والاستقلالية ما يجب احترامه وتقديره, مصر بدأت تمارس سياسة خارجية تخدم المصالح المصرية لا مشروع التوريث, ومن ثم لم تعد أسيرة هذا المشروع. هذا هو التحول الحقيقي الذي حدث لسياسة مصر الخارجية أن باتت متحررة من صفقة بيع دور مصر الإقليمي لخدمة مشروع التوريث. وفيما يخص العلاقات مع إسرائيل, يمكن القول أنها لم تتعرض إلي تغيير جوهري علي المستوي الرسمي, التغير الرئيس هنا هو تطلع الشعب المصري لسياسة خارجية تتناسب ومصر الثورة, تعبر عن كرامة شعب عريق, قابل ذلك حملة عدائية إسرائيلية متوقعة بعد كل تغيير في رأس السلطة في مصر, حدث ذلك مع رحيل السادات, وهذه المرة كانت أكثر حدة لرحيل نظام وصف هناك بأنه رصيد إستراتيجي لإسرائيل, أما قضية الغاز المصري فهي قصة فساد وإهدار لموارد مصر, فوزارة البترول المصرية كانت تبيع الغاز المصري لشركة شرق المتوسط المملوكة ل حسين سالم الذي يدير أموال مبارك- ولا نعلم بأي سعر تحصل علي الغاز, ولا بأي سعر تبيع هذا الغاز لإسرائيل, ومطالبة مصر بمراجعة أسعار تصدير الغاز مطالبة مشروعة, ولا تنطوي علي عداء لإسرائيل, ولا اعتقد أن مصر ترفض بيع الغاز الطبيعي لإسرائيل بالأسعار العالمية. و فيما يخص قصة المصالحة الوطنية الفلسطينية, يمكن القول أن التغير طال جميع الأطراف, طال مصر التي تحررت من أسر معادلة بيع دور مصر الإقليمي لقاء خدمة مشروع التوريث, وطال حماس وفتح بعد أن وصلت رياح ميدان التحرير إلي غزة ورام الله وخرجت مظاهرات ومسيرات تقول الشعب يريد إنهاء الإنقسام وهي شعارات ميدان التحرير التي تحمل تهديدا مبطنا للحكام هناك وأكدت تطلع الفلسطينيين إلي الحرية والديمقراطية والخروج من أسر الإنقسام. طال حماس التي رفض رئيس مكتبها السياسي طلب الرئيس السوري بشار الأسد بإدانه المظاهرات ضده, والتي تقف خلفها جماعة الإخوان المسلمين هناك, رفض مشعل إدانة الحركة الأم, ومن ثم كان عليه أن يبحث عن مقر آخر للمكتب السياسي للحركة, غير دمشق التي سوف ترفع حمايتها عن المكتب ورجاله, طال أيضا حركة فتح والرئيس الفلسطيني محمود عباس التي ظلت يده ممدودة بالسلام لإسرائيل سنوات طوال ولم يجن سوي الإهانة والاستهتار باعتباره رئيس ضعيف لا يسيطر علي القطاع. تغير الجميع, فكانت معادلة التوقيع علي ورقة المصالحة المصرية كما هي, جري التوافق علي التوقيع مع ترحيل الكثير من المشاكل لمرحلة انتقالية لا ضمانة حتي الآن لحلها, وإنما قرار بالتعايش معها وربما إدارتها. وطبيعي أن يأتي محصلة ذلك فتح معبر رفح علي نحو دائم, فالمعبر كان مفتوحا من عام2005 حتي سيطرة حركة حماس علي القطاع في يونيو من عام2007, وفي الفترة التالية كان يفتح يومان في الأسبوع للسماح بمرور الفلسطينيين, فهو معبر أفراد لا شاحنات, كما أن أبو مازن لم يعد يمانع في إعادة فتح المعبر كجزء من عملية المصالحة وثمن مدفوع مقدما لحركة حماس لقاء هذه المصالحة التي قبلت فيها الحركة بأن تطلع دائرة المفاوضات في منظمة التحرير بإدارة المفاوضات مع إسرائيل وصولا إلي تسوية سياسية وفق قرارات الشرعية الدولية, علي أن تعرض التسوية إما علي المجلس التشريعي أو علي الشعب الفلسطيني في استفتاء عام. وقد فهمت عدد من الدول الأوروبية حقيقة ما جري مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا, ومن ثم رحبت باتفاق المصالحة, كما أن واشنطن لم تعارض بحدة, فقط أعطت لنفسها فسحة من الوقت للدراسة قبل التعقيب, وهو مؤشر إيجابي. أما بالنسبة للعلاقات المصرية الإيرانية, فالواقع يقول أنها أكثر تعقيدا من أن تعود في مدي قصير لأن استمرار القطيعة لا يعود إلي قرار مصري فقط, بل إلي تعقيدات في علاقات البلدين منذ ثورة إيران عام1979, وهناك عشرات الملفات العالقة التي تستغرق وقتا طويلا وغالبتها تتعلق بتعامل قوتين إقليميتين, وما قرار مصر الثورة بطرد الدبلوماسي الإيراني إلا مؤشرا علي عمق التعقيد في علاقات البلدين. لكل ذلك نقول أن هناك تغير جوهري في سياسة مصر الخارجية يتمثل في سقوط معادلة بيع دور مصر الإقليمي لصالح مشروع التوريث, والنتيجة المترتبة علي ذلك تبلور ملامح سياسة خارجية تعبر عن دولة إقليمية رئيسية تريد استعادة دور يوازي ثقلها بمفهوم القدرات الشاملة بكل ما سوف يترتب علي ذلك من تداعيات, من سيفهم هذا التغير سيحافظ علي علاقاته مع مصر, ومن لم يلتقط الرسالة أو يصر علي فهم مغلوط سوف يواصل الحديث عن تحولات جذرية في سياسة مصر الخارجية, ومن ثم يمكن أن تتدهور علاقاته الثنائية مع مصر الثورة.