منذ دولة محمد علي ومصر تعاني ضعف الدولة وانعدام قدرتها علي الصمود في وجه تحديات الداخل أو الخارج أو هما معا. كانت الدولة المصرية علي الدوام تكتسب مظهرها القوي الخادع من أبهة الحكام وهيبتهم وقوة السوط يلهبون به ظهور المصريين. والحقيقة هي أن الدولة المصرية كانت في واقع الأمر هشة خائرة القوي ينخر السوس في أركانها. تعددت الثورات في مصر إلا أنها جميعا لم تحررنا مما كنا نعانيه ولا هي ألهمتنا الحرية طريقا إلي ما نريد. انتهي أمر الثورات في مصر إلي قيادات تاهت أو خانت ضاعت دولة محمد علي في طموحاته فانكمشت ثم غرقت في ديون إسماعيل فرحل منفيا. وجاء العرابيون بالانجليز بمسلسل من خيانات الداخل والخارج ولم تستطع الدولة أن تقاوم فسقطت في براثن الاحتلال. وانتهت ثورة19 إلي نجاحات قليلة تاهت في خلافات السياسة ومؤامرات السياسيين.. وحينما جاءت حركة1952 سقط كل شيء كان قبلها ولم تجد الديمقراطية وحرية الفكر وتعدد الاحزاب والاقتصاد الحر من يدافع عنها فسقطت في سهولة شديدة دولة الليبيرالية المصرية. وتحول الانقلاب إلي ثورة اسلمت أمرها لتجارب ومغامرات سياسية فشلت حينا ونجحت أحيانا لكنها عجزت عن أن تقيم دولة فأضاعت النجاح والفشل في يونيو.1967 ولم تصمد دولة الثورة سوي بضعة أيام لينهار كل شيء وفي عام1981 قتل رأس الدولة المصرية بسهولة ويسر بين ضباط وجنود يحتفلون بذكري النصر, وفي25 يناير2011 سقطت الدولة المصرية سقوطا مروعا. لم تحتمل جحافلها الصمود بضعة أيام في مواجهة حشور أكثر ما تسلحت به هو الغضب. كان أغلب تلك الحشود شبابا ولد في عهد تلك الدولة. لم ير في حياته سوي قياداتها. تعلم في معاهدها ودرس مناهجها وتغذي علي فيض مؤسساتها الإعلامية وخشي هيبتها حتي إذا فاجأها وجدها هشة ضعيفة تنهار تحت صيحات الغضب. الضعف الذي ميز الدولة المصرية الحديثة بكل أشكالها هو أنها تنكرت كثيرا لشعوبها التي لم تعرف من نمط القيادة سوي الكبير الملهم بخبر السماء أو الأرض أو هما معا. لم يكن المصريون إلا حشودا في كل الدول التي نشأت في مصر الحديثة تصطف علي جانبي مواكب الكبار تعطي الدولة شكلها المرغوب وتدفع بالقليل مما في أيديها حتي تمتلئ خزائنهم. وعلي طول سنوات الدول التي تتابعت في أرض مصر كان المصريون هم القوة الوحيدة التي تختزن هذا البلد ليوم قد تأتي فيه الدولة المفقودة. ربما كان هذا الوقت بالذات هو الأهم في تاريخ مصر الحديثة علي الأقل. فهو يتيح فرصة فريدة لأن يبني المصريون وللمرة الأولي دولتهم بأنفسهم بعد أن عاشوا سنوات طويلة في دول لم يكن لهم من خيار سوي الحياة في ظلالها والرضا بما تقدره لهم. وطريق بناء الدولة الحقيقية شاق ومرير لكنه طريق يأخذ بالمصريين إلي آفاق رحبة من الحياة لهم ولاجيالهم القادمة طريق يستحق العناء والجهد والتضحية. فلم يعد في مصر اليوم من يريد العيش في دولة شبيهة بما عاش فيها هو وآباؤه وأجداده أو أن يورث أبناءه العيش في مثل تلك الدولة وبناء الدولة القوية يتطلب أحرارا يؤمنون بالحرية ويمارسونها غير أن للحرية تبعاتها وأعباءها. في بداية الطريق إلي الدولة المصرية الحقيقية تواجهنا بعض المشكلات المرتبطة بالحرية عقيدة وممارسة. المشكلة الأولي: هي الإرث التاريخي للدول التي قامت ثم بادت في مصر. هذا الإرث يدفع البعض منا إلي الحنين إلي ما كان. فكثير من المصريين اليوم متعلمين وأنصاف متعلمين يتطلعون برغم التحرر إلي اسطورة المستبد الذي يصفونه بالعادل. ينهي حالة الاضطراب التي نعانيها وهي لم تستغرق بعد سوي أيام قليلة هؤلاء لا يعلمون أننا في فوضي حقيقية منذ زمن طويل يتعرضون كثيرا في ساعات المساء إلي برامج تليفزيونية تتساءل عن المستقبل الغامض للثورة دون أن تجد إجابات شافية وهي تساؤلات تنال من الثقة فيما هو قادم ودونما قصد تستثير الحنين إلي زمن الحكام الملهمين الذين أورثوهم الفقر والعوز والحاجة والتخلف ومن المحتمل ان يصبح هؤلاء كتلة تتلاعب بها الاشباح التي سوف تظهر في أفنية المقابر تدعو إلي نظام شبيه بما ساد مصر سنوات طويلة وما لم ننتبه إلي هؤلاء تثقيفا وتنويرا فانهم وعن غير قصد يمكن أن يعيدوا تاريخ الاستبداد المصري إلي مجراه القديم. كان الفريق أحمد شفيق قد أسرف في خطابه وجاء الدكتور عصام شرف قليل الحديث إلي المصريين في زمن يحتاجون فيه إلي من يبعث الطمأنينة في نفوسهم ويشركهم فيما يفكر ويعمل ويدفعهم إلي استشراف الأمل مع الحرية التي يخشونها ويعرفون كيف يمارسونها. المشكلة الثانية: هي أن الكثيرين ايضا لا يدركون أن للحرية ثمنا فالخروج من دوائر القهر إلي فضاء الحرية لن يكون انتقالا سلسا وأنه يتطلب الكثير من التضحيات فالتضحيات من أجل الحرية ليست فقط تلك التي تبذل في ساحات المعارك لكنها تبذل ايضا في كل موقع من مواقع بناء السلوك الإنساني الحر ووضع الحرية في مكانتها التي تستحقها في قمة منظومة القيم المصرية وبسبب غياب الحريات زمنا طويلا عن حياتنا فان الكثيرين لم يعتادوا الحياة بلا إكراه ولا يجدون في أنفسهم القدرة علي تحمل تبعات الحرية وأعباء الاختيار يبحثون عمن يسلبهم الحرية ويتولي عنهم حق الاختيار وهذا هو الخطر الذي يتهدد مسيرتنا الراهنة يحتاج هؤلاء إلي الكثير من الثقة في الحرية التي جاءت وفي قدرتهم علي ممارستها. المشكلة الثالثة التي نواجهها الآن في طريق بناء الدولة هي أننا افتقدنا ذلك النمط من المفكرين أو الفلاسفة الذين يساعدوننا علي اختصار الزمن واكتشاف شيء من ملامح الطريق الذي نريد السير فيه ويدفعوننا إلي التفكير صوب حوار حقيقي نحو الهوية السياسية والاجتماعية للدولة التي نريدها. وفي غيبة هؤلاء المفكرين والفلاسفة اعتلي السياسيون والمغامرون المنابر ومن تعارض المصالح تعارضت الآراء واصبح اكتشاف الطريق الصحيح أكثر صعوبة ولن نستطيع مواجهة تلك المشكلة إلا بشيء من الصبر علي الحوار بين القوي السياسية المختلفة والمشاركة فيه وان نتحمل تبعات التجربة نجاحا واخفاقا دون أن نفقد الأمل في أننا ماضون إلي الطريق الصحيح في النهاية حتي ولو طالت بنا الأيام قليلا. وفي هذا الوقت نحتاج وبشدة إلي ان نفهم الفرق بين التحرر والحرية. فما نراه في مصر ثورة حققت شيئا من التحرر من القيود والإكراه لكننا لم ننطلق بعد إلي حرية بغير إكراه تصل بنا إلي ما نريد وهي فلسفة حياة تستغرق شيئا من الوقت وكثيرا من التعليم والتدريب. قد يساعدنا الآن استعادة تراث نخبة من مفكرينا السابقين الذي اسهموا في نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في طرح الكثير من الأفكار التي تثري معارفنا حول الحرية والاختيارات المختلفة للدولة التي نريدها. فهذا هو الوقت الذي نحتاج فيه مثل ذلك التراث الذي أضاء الحياة المصرية سنوات من قبل وأدعو السيد وزير الثقافة إلي اثراء الفكر المصري الراهن بالكثير من هذه الأعمال وأعلم أن كثيرا منها قد طبع من قبل بجهود الدكتور صابر عرب في دار الكتب لكننا الان احوج ما نكون إلي إعادة طبعها في طبعات منخفضة التكلفة إلي أدني حد ووضع خطط توزيع مختلفة تضمن وصولها إلي غالبية المصريين وربما كانت هذه هي أولي المهام الوطنية التي نتوقعها من وزارة الثقافة بعد ثورة25 يناير. نحتاج جميعا إلي كل صوت وقلم يبث الثقة في مستقبل مصر برغم كثرة المرجفين بيننا فقد حفظ الشعب المصري بلاده في مواجهة كل اشكال المحن والازمات حتي إذا كانت ثورته الأخيرة من صنعه فهو أولي بها وأقدر علي الحفاظ عليها. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين