شيء طبيعي أن تصدر وزارة المالية, في أي دولة, أذون خزانة قصيرة الأجل لتمويل العجز الموسمي بين ايرادات الحكومة المحصلة وبين نفقاتها, والمفهوم أيضا أن تعرف الموازنة خلال السنة فترات فائض وأخري للعجز حيث تسوي هذه العجوزات عن طريق اصدار هذه الأذونات ولكن الحاجة لإصدار أذون الخزانة لاتقتصر علي تمويل العجز المؤقت في الموازنة العامة, بل إن وجود سوق للديون قصيرة الأجل الصادرة عن الدولة أمر ضروري لقيام سياسة نقدية فعالة فالسياسة النقدية, والتي ينفذها البنك المركزي, تعتمد علي قدرة البنك علي التأثير علي اسعار الفائدة وحجم السيولة السائدة في السوق, وبذلك يساعد علي تمكين البنك من دعم الرواج والانتعاش في فترات الانكماش, أو علي العكس بضبط الائتمان وتقييده في أوقات التضخم وبما يسمح بكبح جماح ارتفاع الأسعار. وهكذا فإن سياسات أسعار الفائدة وأحجام السيولة هي إحدي أهم الأدوات الرئيسية التي يستخدمها البنك المركزي في سياسته النقدية والبنك المركزي لايلجأ عادة الي رفع أسعار الفائدة بشكل مباشر, وإنما يعتمد علي مايعرف بعمليات السوق المفتوحة بيع أو شراء الأوراق المالية, وفي مقدمتها أذون الخزانة. وبهذا يستطيع البنك المركزي أن يؤثر في أسعار الفائدة وأحجام السيولة بشكل غير مباشر عن طريق زيادة مبيعاته أو مشترياته من هذه الأوراق المالية. الأمر الذي يتطلب وجود سوق مالية عميقة تتضمن العديد من الأوراق المالية المتنوعة. ولهذا فإن وجود أذون الخزانة في الأسواق يعتبر أمرا ضروريا لتمكين البنك المركزي من أداء وظيفته في تنفيذ السياسة النقدية بكفاءة, وفضلا عن ذلك فإن أسعار الفائدة علي السندات والأذون الحكومية تمثل بوجه عام نوعا من مؤشر أسعار الفائدة الرئيسي نظرا لأن الأوراق المالية الصادرة عن الدولة تمثل الديون الأقل مخاطر في الدولة. ولذلك فإن وجود سوق مستمرة لأذون الخزانة أمر لامناص منه لقيام سوق نقدية. كل هذا أمر مستقر لاخلاف عليه ولاجديد فيه. ولكن السؤال, هل يسمح للأجانب أيضا المشاركة في أذون الخزانة أم يقتصر الأمر علي المواطنين ؟ وما مخاطر مشاركة الأجانب في الاكتتاب في هذه الأذون؟ وترجع أهمية هذا التساؤل إلي أن مشاركة الأجانب في مثل هذا الاستثمار المالي هو أحد أوضح صور مايسمي برءوس الأموال الساخنةHotMoney فهذه الأموال الهائمة تبحث عن فرص للربح السريع, وهي تتجه بسرعة حيث توجد فرصة للربح, كما تهرب بنفس السرعة وأحيانا أكثر عندما تظهر بوادر في الأفق عن أي إشارة لاحتمالات المخاطر. وكثيرا ماكانت هذه الأموال سببا في الهزات المالية العميقة التي تتعرض لها الأسواق المالية. ومن هنا بدأت الدول تضع العديد من القيود علي مشاركة الأجانب في أذون الخزانة قصيرة الأجل. ولعل الأزمة المالية الآسيوية1997 قد ولدت ثم تفاقمت بسبب هذه الأموال الساخنة, التي اندفعت إلي دخول الأسواق الآسيوية خلال بداية التسعينيات للإفادة من فروق أسعار الفائدة مما أوجد شعورا بالوفرة الزائفة في العملات الأجنبية. وعندما بدت ملامح المخاطر مع بوادر نقص في العملات الأجنبية, فإن هذه الأموال هربت بسرعة شديدة, مما وضع البنوك والمشروعات الصناعية في أزمة مالية طاحنة. ولعل بداية هذه الأزمة قد بدأت في تايلاند حيث كانت تربط عملتها بسعر صرف ثابت مع الدولار, وكانت مضطرة إلي رفع أسعار الفائدة المحلية حماية لسعر الصرف مع محاولة لجذب رءوس الأموال الأجنبية. ومع ثبات أسعار الصرف بين الدولار والعملة المحلية وارتفاع أسعار الفائدة المحلية, فإن البنوك الأجنبية وجدت من المناسب التوظيف المالي في أذون الخزانة التايلاندية للإفادة من أسعار الفائدة المحلية المرتفعة. وفي نفس الوقت فإن العديد من المستثمرين المحليين وجدوا أنه افضل لهم الاقتراض من الخارج بالدولار بأسعار فائدة منخفضة لتمويل مشروعاتهم المحلية. وهكذا تفاقمت الديون الخارجية قصيرة الأجل لتايلاند, سواء بالتوظيف المالي المكثف للأجانب في أذون الخزانة قصيرة الأجل أو باقتراض المشروعات الخاصة بالعملات الأجنبية ذات أسعار الفائدة المنخفضة, وعندما تبين أن حماية اسعار الصرف غير ممكنة وأن هناك ضرورة لتخفيض العملة المحلية إزاء الدولار, سارعت البنوك الأجنبية الي تصفية توظيفاتها من أذون الخزانة وتحويل مبالغها الي دولار. وقد سبق أن أشرت في مقال سابق, كيف أن بداية الأزمة قد دفعت عددا من المضاربين وخصوصا سورس إلي المضاربة ضد العملة الوطنية مما زاد الطين بلة. وهكذا عرفت تايلاند ضغطا شديدا علي عملتها المحلية, كما واجه المستثمرون المحليون والعديد من المشروعات صعوبات جمة في تسديد ديونهم بالدولار. ووقعت الأزمة وانتقلت من تايلاند إلي بقية دول جنوب شرق آسيا في كوريا وماليزيا. وكان السبب الرئيسي لهذه الأزمة هو الاعتماد المبالغ فيه علي رءوس الأموال الساخنة, فهي أموال تأتي في أوقات الوفرة عندما تقل أو تنعدم الحاجة إليها, وتفر هربا في أوقات الأزمة عندما تزيد الحاجة الي مثل هذه الأموال. ولذلك عمد الكثير من الدول إلي وضع قيود علي دخول هذه الأموال الساخنة, إما بفرض فترة زمنية لايجوز لهذه الأموال الخروج فيها. أو بفرض ضرائب خاصة عليها. فالأموال الساخنة خطر علي الاستقرار النقدي والمالي وإذا نظرنا إلي أوضاعنا المالية في السنوات الأخيرة, فإننا نلاحظ تزايدا كبيرا في الاعتماد علي رءوس الأموال الأجنبية قصيرة الأجل خاصة في تمويل أذون الخزانة, بل إننا مررنا بلحظات حرجة عندما ظهرت بوادر الأزمة المالية العالمية في2008, حيث خرجت بشكل سريع ومكثف, ثم بدأت تعود من جديد في السنة الأخيرة وقد جاء في البيان الصحفي الصادر عن البنك المركزي بشأن أداء ميزان المدفوعات خلال الفترة يوليو/ سبتمبر2010 أظهرت المعاملات الرأسمالية والمالية خلال الفترة يوليو/ سبتمبر من السنة المالية2010/ 2011تحقيق الاستثمارات في محفظة الأوراق المالية في مصر صافي تدفق للداخل بلغ نحو5،9مليار دولار( مقابل1,2 مليار دولار خلال فترة المقارنة) تتضمن نحو4,7 مليار دولار صافي تعاملات الأجانب في أذون الخزانة المصرية( تدفقات للداخل) وعلينا أن نتذكر أنه خلال السنة المالية السابقة2008/ 2009, وهي سنة الأزمة المالية العالمية, قد خرج من مصر, وفقا لبيانات البنك المركزي تحت بند استثمار الحافظة في مصر, مبلغ9,2 مليار دولار منها7,1 مليار دولار استثمارات الأجانب في أذون الخزانة المصرية. والسؤال هو لماذا كان هذا الخروج المفاجيء لهذه الأموال؟ لم تحدث أي أزمة في مصر في ذلك الوقت, ولكن الأزمة العالمية فرضت علي معظم البنوك الأجنبية في العالم تقليص استثماراتها المالية في الخارج, ولذلك خرجت هذه الاستثمارات المالية قصيرة الأجل من مصر كما خرجت من دول أخري كثيرة. ولحسن الحظ لم يترتب علي هذا الهروب المفاجيء أي زعزعة في الاقتصاد المصري أو حتي اضعاف للقطاع المالي بشكل عام. وهو أمر يحمد عليه القائمون علي الإدارة الاقتصادية وربما يرجع ذلك إلي قيام السلطات النقدية بتعقيم الدولارات الداخلة من الأجانب عند التوظيف في أذون الخزانة بوضعها في ودائع للبنوك في الخارج لمقابلة احتمال خروجها والمطالبة بالعملة الصعبة المقابلة. وأغلب الظن أن هذا هو ماحدث فعلا, بدليل زيادة أرصدة الأصول الأجنبية للبنوك مع زيادة دخول الاستثمارات المالية للأجانب في أذون الخزانة, وتراجعها مع خروج هذه الاستثمارات المالية. ولكن لماذا السماح لأجانب بالاكتتاب في أذون الخزانة؟ وماهي حاجة وزارة المالية لأموال الأجانب الدولارية لتمويل أذون الخزانة؟ فنفقات وزارة المالية هي بالجنيه المصري, ويكفي الاعتماد علي السوق المحلية لتغطية أي عروض لهذه الأذون. وعلي العكس فان الاستمرار في إتاحة الفرصة للأجانب للاكتتاب في أذون الخزانة المصرية بدون أي قيود, يمكن أن يعرض الاستقرار المالي والنقدي للنظام المصرفي للاهتزاز إذا حدث خروج مفاجيء في اوقات غير مناسبة, فيما لو لم تكن الدولارات المقابلة معقمة بالمعني السابق. وحتي في حالة التحوط بتعقيم الدولارات, فإن الاقتصاد المصري يخسر فروق اسعار الفائدة بين العائد المرتفع المدفوع علي الأذون المصرية والعائد المنخفض المتحصل علي الودائع الدولارية في الخارج. هذه خسارة سنوية تقدر بملايين الدولارات, وإذا كانت الأزمة السابقة قد مرت بسلام, فليس هناك مايحول دون أن تحدث أزمة أخري أشد قسوة.. إن الاستمرار في هذا النمط من التمويل من شأنه أن يعطي دلالات غير صحيحة عن حقيقة حجم الدين العام الخارجي للاقتصاد المصري فعندما خرجت الأموال الاجنبية الموظفة في أذون الخزانة في عام 2008/ 2009 بلغ ما خرج من هذه السنة من أموال الاستثمار في أذون الخزانة مايزيد علي سبعة مليارات من الدولارات), فإن تسديد هذه الديون القصيرة لم يؤد الي انخفاض مقابل في حجم المديونية الخارجية لمصر, مما قد يفيد بأن هذه الديون( أذون الخزانة) المستحقة للأجانب لاتدخل في حساب حجم الدين العام الخارجي, الأمر الذي يعطي انطباعا غير دقيق عن حجم هذه المديونية الخارجية. ولكل هذا, فإنه من المصلحة التوافق مع المعايير الدولية التي تقضي بضرورة رصد الديون قصيرة الأجل والمستمرة للأجانب ضمن الدين العام الخارجي. وهو ماينصح به صندوق النقد الدولي دائما. لقد حققت الحكومة انجازا مهما بالانضمام إلي النظام الخاص بمعايير نشر البيانات,SDDS لصندوق النقد الدولي, وبما جعل ماينشر من بيانات مالية متفقا بدرجة أكبر مع المعايير الدولية ومع ذلك فإن هناك حاجة إلي المزيد من الضبط وخاصة فيما يتعلق بقيد أذون الخزانة المتزايدة المكتتب فيها من الأجانب ضمن الدين العام. ومن الضروري أن يعكس رقم الدين العام الخارجي كل التزامات مصر الخارجية قصيرة الأجل, بما فيها اكتتابات الاجانب في أذون الخزانة حيث زادت احجام الاستثمارات المالية للأجانب في هذه الأذون بشكل كبير. وفي نهاية الأمر, فإن مشاركة الأجانب في أذون الخزانة أمر مشكوك في فائدته وهو ذو تكلفة لسنا في حاجة إلي تحملها. والله اعلم.