تؤدي السياسات والممارسات المنحازة غير العادلة في أي مجتمع إلي جعل قلة من الناس تحصل علي الحصة الغالبة من موارده وخيراته, وحرمان الغالبية من ذلك أو علي الأقل يأتي دورها بعد الأقلية المحظوطة بمسافة كبيرة. وهذه الظاهرة لم تكن يوما حكرا علي عالم الاقتصاد والمال والسياسة في الواقع الفعلي, بل كانت موجودة في العالم الافتراضي عبر الإنترنت, وجعلت جانبا من خدمات وموارد الشبكة وخيراتها يتركز أحيانا في يد فئة قليلة علي حساب فئات أكبر, وبمرور الوقت استفحلت هذه الممارسات, وحذر الكثيرون من أن الشبكة بدأت تتجه لأن تصبح بيئة منحازة, وفي الآونة الأخيرة تصاعدت قضية حيادية الشبكة وصارت قضية سياسة مجتمعية تتصدر أهتمامات الحكومات والرؤساء بالعديد من الدول, مثلما هو الحال في الولاياتالمتحدة التي صدرت بها الأسبوع الماضي قواعد فيدرالية لضمان حيادية الشبكة ومنع تحولها إلي شبكة منحازة, وتقديري أن علينا التوقف عند ذلك كله, لأن مجتمع الإنترنت العالمي شديد الترابط ونحن جزء منه, ولا يصح أن يسعي العالم نحو الحياد والعدل عبر الشبكة بينما نحن بمعزل عما يجري وكأننا لا نسمع. والحديث عن الانحياز أو الحياد داخل الإنترنت يعني أن الشبكة بها موارد وإمكانات يمكن تسخيرها بصورة غير محايدة لصالح طرف علي حساب أطراف أخري, ومن الناحية العملية يمكن أن يحدث الانحياز في العديد من المجالات منها: سعات خطوط الاتصال بالشبكة التي يتم من خلالها الوصول إلي المحتوي والخدمات, وفي هذه الحالة يمكن أن يضيع الحياد في التعامل مع السعات الكبيرة عريضة النطاق التي تعمل من خلالها خطوط الاتصال عالية السرعة, والسعات الصغيرة ضيقة النطاق التي تعمل من خلالها خطوط الاتصال البطيئة او عادية السرعة. - المحتوي الموجود علي الويب, وهنا يمكن أن يحدث الانحياز من خلال تكتيكات الحجب والإتاحة, أي حجب محتوي وإتاحة آخر. - البنية التحتية ذات العلاقة بسهولة وسرعة ومرونة الوصول إلي المحتوي, وهي إمكانات يمكن أن تمنح أحد المواقع أفضلية في العرض علي المستخدمين قبل موقع آخر. الخدمات المتنوعة علي الشبكة والتي تتنافس علي السعات والبنية التحتية والمستخدمين معا, مثل خدمات بث الفيديو وخدمات نقل وتحميل وتنزيل الملفات كبيرة الحجم وخدمات نقل الصوت عبر الإنترنت وغيرها, والتي يمكن بسهولة الانحياز لخدمة منها علي حساب الأخري من حيث الإتاحة والسرعة والانتشار. تطبيقات الويب, ومنها تطبيقات الدفع الإلكتروني والبيع والشراء والحكومة الإلكترونية والتطبيقات القائمة علي التواصل مع الشبكات اللاسلكية, أو التطبيقات القائمة علي خدمات تحديد الموقع, وجميعها يسهل الانحياز لأحدها علي حساب الآخر سواء من حيث الدقة أو السرعة أو الكفاءة والاعتمادية والتأمين. - ساحات التواصل الاجتماعي والتعبير عن الرأي والتي تتبوأ فيها الشبكات الاجتماعية مركز الصدارة حاليا, وتتنافس فيها أطراف عديدة لا تجمعها مصالح واحدة, ومن ثم يوجد بينها مبررات قوية تدفع نحو الانحياز وعدم الحياد في التعامل معها ومع حرية التعبير عبر الشبكة. وتأسيسا علي ذلك, فإن حيادية الإنترنت يقصد بها ضمان وصول أي شخص يستخدم الإنترنت إلي جميع أنماط محتوي الويب من معلومات وخدمات وتطبيقات وفيديو وغيرها بطريقة متساوية مع الآخرين, بدون الوقوع تحت تأثير أي ممارسات متعمدة من قبل مقدمي الخدمة أو الحكومات, من شأنها التأثير علي سرعة وسهولة وتكلفة الوصول إلي أي محتوي أو خدمات أو تطبيقات واستخدامها. ويقودنا هذا التعريف إلي القول إن الطرف الأساسي الذي يمكنه تنفيذ ممارسات منحازة وغير محايدة هو مقدم خدمة الإنترنت, سواء كان في الحلقة الأخيرة التي تتماس مباشرة مع المستخدمين النهائيين, أو كان في الحلقات الأعلي التي تباشر إدارة وتشغيل البنية التحتية الكبري والعميقة للشبكة, لأن مقدم الخدمة أيا كان موقعه بإمكانه تخصيص كل أو بعض ما لديه من موارد خاصة بالشبكة بصورة تنحاز إلي طرف علي حساب أطراف اخري, وللتوضيح أسوق الأمثلة التالية: 1 في عام2007 أقدمت شركة كوم كاست إحدي أكبر شركات تقديم الخدمة بالولاياتالمتحدة علي إغلاق خدمة شبكات الند للند أو نظير لنظير علي شبكتها, وهذه الخدمة تتيح لمستخدمي الإنترنت استخدام الشبكة في إنشاء قنوات أو خطوط اتصال مباشرة بين حاسباتهم الشخصية وبعضها البعض, ثم تستخدم هذه القنوات في تبادل الملفات وتحميلها وتنزيلها بأحجام ضخمة, ورأت الشركة أن ذلك يؤثر علي السعات والسرعات التي تقدم بها خدمات أخري لأطراف أخري, مثل مواقع بث الفيديو, فقررت توفير السعات التي تستهلكها شبكات الند للند وإتاحتها لمواقع الفيديو, واعتبر هذا انحياز من جانب الشركة لخدمة ضد أخري. 2- يجمع الكثير من مقدمي خدمة الإنترنت بين تقديم خدمات الوصول للشبكة عبر امتلاك شبكات خطوط الدي إس إل وغيرها, وبين خدمات تقديم المحتوي علي الشبكة, عبر مواقع يستضيفونها أو يمتلكونها, وفي هذه الحالة يعمدون تلقائيا إلي منح المحتوي الذي يقدمونه تسهيلات ومعاملة تفضيلية علي شبكات تقديم الخدمة التابعة لهم, من حيث السرعة وسهولة الوصول ودوام الإتاحة, علي حساب باقي المواقع والخدمات التي يقدمها المنافسون, وهنا يحظي المحتوي الذي يملكونه أو يستضيفونه والذي يمثل الأقلية, بالنصيب الأكبر من الموارد والثروة التي يملكها موفر الخدمة. وأبرز مثال علي ذلك مثلا مواقع وبوابات الأخبار التابعة لشركات تقديم الخدمة, ومواقع بث الفيديو والإنتاج السينمائي والتليفزيوني والوسائط المتعددة التي تبثها شركات تقديم الخدمة عبر مواقع مملوكه لها وتمنحها أفضلية داخل شبكاتها, عما سواها من مواقع منافسة, سواء كانت مملوكة لمقدم خدمة آخر أو كانت لجهات من خارج مقدمي الخدمات. 3- يدخل الكثير من مقدمي الخدمة في علاقات عمل واتفاقيات استراتيجية مع العديد من شركات المحتوي وشركات تقديم الخدمات المتنوعة عبر الشبكة, وبالتبعية يحظي هؤلاء الشركاء بمعاملة تفضيلية علي شبكة مقدم الخدمة علي حساب شركات المحتوي وشركات تقديم الخدمات الأخري. 4 كشفت ملابسات بعض القضايا الشهيرة علي الشبكة مثل تسريبات ويكيليكس أن مقدمي الخدمات ليسوا بمنأي عما يجري في عالم السياسة, وأن البعض منهم يتدخل أحيانا بصورة أو بأخري لصالح هذا الطرف أو ذاك بإجراءات يري الكثيرون حول العالم أنها تحد من حرية التعبير, ومن الممارسات الشهيرة في ذلك إجراءات إيقاف عمل العناوين الرقمية ونطاقات الأسماء والتأثير علي المحتوي بالحجب والإتاحة. والضحية الأولي لأي ممارسات منحازة وتمييزية هو المستخدم العادي للشبكة مثلي ومثلك, الذي يتعين عليه أن يدفع ثمن الحجب أو الإبطاء أو المنع أو تخفيض الكفاءة الذي يصيب أي محتوي أو خدمة أو تطبيق موجود علي الشبكة بسبب انحياز مقدم الخدمة لمحتوي آخر منافس, وقد يتمثل هذا الثمن في حرمانه من شيء يحتاجه فلا يجده لدي الطرف الذي حظي بالمعاملة التفضيلية, أو في تكبيده تكلفة مادية إضافية أو وقت إضافي لكي يحصل علي ما يريد. أما الضحية الثانية فهي الجهة أو الطرف الذي يقدم خدمة أو تطبيق منافسا ثم يواجه هذا النوع من المعاملة المنحازة بصورة تؤثر علي عدالة المنافسة بينه وبين مقدم الخدمة. وتعد الولاياتالمتحدة هي الدولة الأبرز التي تشهد هذه الأيام جدلا واسعا حول قضية حيادية الشبكة, وأحدث حلقة في هذا الجدل أن لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية أصدرت الأسبوع الماضي مجموعة من القواعد التنظيمية التي تستهدف الحفاظ علي حيادية الشبكة, وبات من المتعين علي مقدمي الخدمة الالتزام بها, ومن أبرزها القواعد الثلاث التالية: الشفافية: يجب علي الشخص المسئول عن تقديم خدمة الاتصال الثابت عالي السرعة بالإنترنت أن يكشف للجمهور عن المعلومات الدقيقة حول ممارسات إدارة الشبكة وأدائها والبنود التجارية لخدمات الاتصال عالي السرعة بالإنترنت وذلك بدرجة كافية للمستهلكين حتي يتخذوا القرارات عن علم بشأن استخدام مثل هذه الخدمات وبدرجة لمزودي المحتوي والتطبيقات والخدمات والأجهزة حتي يستطيعوا تقديم وتجهيز عروض لخدمات الإنترنت وتسويقها والحفاظ عليها. - حظر الحجب: يجب علي المسئول عن تقديم خدمة الاتصال الثابت عالي السرعة بالإنترنت, وبقدر ما تسمح به مسئولياته وحدود اختصاصاته, ألا يحجب عن المستهلكين مواقع الويب التي يسمح بها القانون في إطار الإدارة المعقولة للشبكة, كما يجب عليه ألا يحجب التطبيقات التي تنافس الخدمات الهاتفية الصوتية والمرئية في إطار الشبكة المعقولة. حظر أي تمييز غير منطقي: يجب علي المسئول عن تقديم خدمة الاتصال الثابت عالي السرعة بالإنترنت, بقدر ما تسمح به مسئوليات هذا الشخص واختصاصاته, ألا يميز بصورة غير معقولة, أو غير منطقية ليس بث حركة بيانات الشبكة المشروعة عبر خدمة من خدمات الإنترنت عالية السرعة, فالإدارة المعقولة للشبكة لن تكون مسوغا للتمييز اللا مجاني. يبقي القول إن ساحات الانحياز وعدم الحياد في استخدام موارد الشبكة قائمة في مجتمع الإنترنت بمصر, بل إن العديد من الممارسات التي ينطبق عليها وصف التمييز وعدم الحياد, ويشيع استخدامها من قبل مقدمي الخدمة عالميا, تطبق في الكثير من الأحيان من قبل المتنافسين علي تقديم خدمات الإنترنت في مصر, وضحاياها هم المستخدمين الغلابة مقارنة بالمستخدمين الأمريكيين, وتقديري أن المستخدم المصري يستحق من الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات أن ينظر إلي هذه القضية, ويعالجها بما يليق من قواعد وإجراءات تكفل أكبر قدر ممكن من الحياد للشبكة بالبلاد, ويكفي المستخدم المصري أنه ضحية لممارسات أخري عديدة لا داعي للخوض فيها.