من يحكم ايطاليا بعد بيرلسكوني؟ ربما يكون هذا السؤال طبيعيا عندما يتعلق بقادة الدول النامية التي يختفي بها زعماء الصف الثاني نظرا لظروفها.. لكن ايطاليا الدولة الأوروبية تعيش هذه الأزمة الآن!! الاقتراع بحجب الثقة عن الحكومة الايطالية برئاسة سيلفيوبيرلسكوني(74 عاما) أزال الستار عن الافتقار الي زعيم سياسي آخر ذي امكانات تؤهله لقيادة الدولة وتوحيد الصف ولم الشمل. فالساحة السياسية في ايطاليا منقسمة الي: أحزاب يسارية معارضة تعاني حالة من التشرذم.. خطابها يحلق بعيدا عن الواقع مما أفقدها الاتصال بالشارع الايطالي وهوما كان جليا في الانتخابات المحلية التي جرت في مارس2010 حيث فقد اليسار- وأكبر أحزابه الحزب الديمقراطي- سيطرته علي4 اقاليم لصالح ائتلاف اليمين الحاكم.. وعجز قادة اليسار عن تحقيق أي نصر سياسي في وقت تلاحق فيه الفضائح رئيس وزراء البلاد.. وهوما فسره بعض الايطاليين بعجز اليسار عن توحيد صفه ورغبة كل زعيم حزب يساري في أن يكون هوالرجل الأول في ايطاليا. وفي المعسكر المقابل يقف ائتلاف اليمين الحاكم المكون من حزب شعب الحرية( يمين وسط) بزعامة بيرلسكوني ويشاركه في ادارة دفة البلاد حزب رابطة الشمال اليميني المتطرف بزعامة امبرتوبوسي. وربما يبدو حزب شعب الحرية هو البديل الوحيد الذي يتقبله الايطاليون لتولي زمام السلطة بالنظر للحالة التي يعانيها اليسار وغياب تيار وسطي قادر علي المنافسة والخوف من السيناريوالمظلم الذي يحمله للبلاد حزب رابطة الشمال اليميني المتطرف. وقد ترجع بداية الوضع الراهن الي عام1993 عندما قرر بيرلسكوني خوض العمل السياسي للمرة الأولي بتأسيسه حزب' فورتسا ايطاليا'. ففي ذلك الوقت كانت البلاد تعيش' زلزالا سياسيا' اثر سلسلة فضائح فساد أطاحت بالنخبة السياسية في اطار حملة تحقيقات قضائية أطلق عليها اسم' اليد النظيفة' او'مانوبوليته'. وأسفرت حملة' اليد النظيفة' التي استمرت ما بين عامي1992 و1994 عن الزج بقادة الحزب الديمقراطي المسيحي المسيطر علي زمام السلطة قرابة50 عاما داخل السجون. ومع انهيار الحزب الذي كان يضم تحت لوائه تيارات اليمين واليسار نشأ فراغ في المسرح السياسي استبقه بيرلسكوني رجل الأعمال الذي يمتلك4 محطات تليفزيونية ايطالية- بانشاء حزبه وتكوين ما عرف ب' قطب الحريات' ليكون مظلة تضم كافة الأحزاب اليمنية الصغيرة الناشئة في ذلك الوقت ولكن تحت قيادة حزبه' فورتسا ايطاليا'.. وكان هدف ائتلاف' قطب الحريات' هو اجتذاب أصوات المعتدلين في البلاد الذين أصبحوا بمثابة' أيتام' علي حد وصف بيرلسكوني- اثر انهيار الحزب الحاكم وقد يؤدي فقد اصواتهم الي وصول الحزب الديمقراطي اليساري( وريث الحزب الشيوعي) الي السلطة للمرة الأولي منذ عام1947. هكذا تمكن بيرلسكوني من قراءة المشهد والانقضاض علي السلطة ليؤدي اليمين كرئيس للوزراء قبل ان يمر عام علي تأسيس حزبه. وخلال مسيرة سياسية استمرت17 عاما فقط تمكن بيرلسكوني من رئاسة4 حكومات من بينها الحكومة التي امتدت بين عامي2001 و2005 والتي تعد أطول حكومة في تاريخ ايطاليا منذ توحيدها واعلان الملكية عام1861. وربما لكاريزما يمتلكها الرجل فضلا عن المال الوفير وقدرته علي الاتصال مع جميع الفئات حتي زعماء المافيا( حيث تردد اتصاله بالمافيا عند خوضه انتخابات1994) تمكن بيرلسكوني من بناء امبراطوريته السياسية حيث لا يوجد من باستطاعته أن يحل محله. فقد شهد المسرح السياسي في ايطاليا منذ أحداث' اليد النظيفة' صعود واختفاء لاعبين سياسيين بارزين مثل رومانوبرودي الذي تمكن من تأسيس تحالف' شجرة الزيتون'( يساروسط) ليكون أقوي منافس لقطب الحريات بزعامة بيرلسكوني ويتمكن من الوصول للسلطة عام1996 ومرة أخري عام2006. ولكن التقلبات المستمرة في الحياة السياسية الايطالية هزمت جميع منافسيه حتي صار الحال الي ما هو عليه.. وربما قد بدا جيانفرانكوفيني(58 عاما) رئيس مجلس النواب غريم بيرلسكوني وحليفه السابق منذ16 عاما في بعض الأوقات خليفة المستقبل. لكن الصدام الأخير الذي وقع بين الصديقين القديمين أظهر ضعف فيني وعدم قدرته علي التعامل مع قواعد اللعبة التي يجيدها بيرلسكوني. فقد كان فيني زعيم حزب التحالف الوطني( الذي أسسه عام1995) حليفا لبيرلسكوني تحت مظلة اليمين' قطب الحريات' التي حملت بعد ذاك اسم' بيت الحريات' ليفضي الأمر الي اندماج' التحالف الوطني' و'فورتسا ايطاليا' ليؤسسا حزب شعب الحرية عام2008 بزعامة بيرلسكوني. وبعد الانتصار الذي حققه الحزب في الانتخابات العامة في العام ذاته أصبح فيني الرجل الثاني في الحزب. وفي الوقت الذي صرفت فيه الأنظار باتجاه فيني كرجل دولة نشب صراع خفي بينه وبين بيرلسكوني ما لبث أن ظهر للعلن. وكانت البداية في تصريحات أدلي بها فيني مع نهاية عام2009 تعبر عن امتعاضه من طريقة بيرلسكوني في ادارة البلاد وتزامن هذا الاستياء مع صدور قانون' الفانو' الذي يعطي رئيس الوزراء وكبار المسئولين بالدولة حصانة من المحاكمة خلال فترة توليهم منصبهم وهوما حكمت المحكمة العليا في ايطاليا بعد ذاك بعدم دستوريته. ومع اشتداد الصدام بين بيرلسكوني وبين السلطة القضائية بالبلاد( اثر ذلك الحكم الذي كان يهدف لايجاد مخرج لبيرلسكوني من قضايا الفساد التي تلاحقه بالمحاكم) زاد الخلاف بينه وبين فيني. ولكن الأمر لم يتحول الي شقاق علني سوي مع ظهور نتائج الانتخابات المحلية التي جرت في مارس الماضي وأظهرت الشعبية المتزايدة التي يحظي بها حزب رابطة الشمال المشارك في الائتلاف الحاكم مقارنة بأي حزب آخر حتي الحزب الحاكم ذاته. ولم يتردد بيرلسكوني حينذاك في توطيد نفوذ حزب رابطة الشمال داخل حكومته ليعلن صراحة تبني حكومته برنامج رابطة الشمال السياسي ويشرع في اعداد الخطة التشريعية اللازمة لتغيير طبيعة الدولة الي دولة فيدرالية تفصل الشمال الغني بامكانته وموارده عن الجنوب الفقير النامي, فضلا عن تحويل نظام الحكم الي نظام رئاسي يمنح صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية( الذي يتوقع بالطبع أن يكون بيرلسكوني) الي جانب ذلك' اصلاح' السلطة القضائية في البلاد بالطريقة التي يراها بيرلسكوني. وانفجر شجار علني بين بيرلسكوني وفيني أمام عدسات المصورين للمرة الأولي خلال مؤتمر لحزب شعب الحرية في ابريل الماضي تطور الأمر بعده الي انفصال فيني ومجموعة من البرلمانيين الموالين له عن الحزب(44 نائبا) ليضع الأغلبية التي تتمتع بها الحكومة في البرلمان في هامش حرج. ويبدو أن الآفة التي طالما مني بها معسكر اليمين الذي أسسه بيرلسكوني عام1994 هي الصراع الداخلي بين حليفيه فيني ورابطة الشمال. فالبرغم من نجاح بيرلسكوني في أول انتخابات يخوضها عام1994 لم تدم حكومته أكثر من9 أشهر حيث انسحب رابطة الشمال من الائتلاف الحاكم اثر خلاف مع التحالف الوطني بزعامة فيني انهارت علي اثره الحكومة. وظن فيني هذه المرة أنه بامكانه كبح جماح حكومة بيرلسكوني والوقف أمام رئيس الوزراء التي تلقبه وسائل الاعلام الايطالية ب الفارس' من خلال كتلته البرلمانية الوليدة' المستقبل والحرية لايطاليا'. فأكد فيني في بداية الأمر في يوليو الماضي عند الاعلان عن هذه الكتلة أنه لا يسعي الي الخروج من حزب شعب الحرية أواسقاط الحكومة أوالانتقال الي المعارضة وانما يهدف الي الحفاظ علي المبادئ التي خاض بها حزب شعب الحرية الانتخابات وحماية الصالح العام للبلاد. لكن الأمر تطور الي انتقاله الي المعارضة ومحاولته تأسيس تيار يمين وسط منافس لائتلاف بيرلسكوني بالتحالف مع' اتحاد الوسط' اليساري الا أن زمام الصراع فلت من يد فيني أمام وسائل بيرلسكوني المذهلة!! وتمكن بيرلسكوني من استعادة بعض النواب الموالين لفيني الي صفوفه مجددا فضلا عن مجموعة أخري ممن أسماهم بيرلسكوني ب النواب المحبطين من أحزابهم. وبينما تنظر نيابة روما العامة في فضيحة دفع رشي لشراء أصوات نواب البرلمان أصبح فيني مهددا بالاقالة من منصبه كرئيس لمجلس النواب بعدما غدر به أعوانه. ورغم نجاح بيرلسكوني في انقاذ حكومته وتأكيده أنها ستستمر حتي انتهاء الدورة التشريعية في2013 أثبتت الأزمة الأخيرة أن البلاد تسير في نفق مظلم. ففي الوقت الذي سقطت فيه ورقة التوت عن ضعف زعماء سائر الأحزاب الايطالية وعجزهم عن الاحتفاظ بنوابهم كشف جياني آلمانوعمد روما( والقيادي بحزب شعب الحرية) عن أن الحزب الحاكم سيواجه أزمة قيادة في مرحلة ما بعد بيرلسكوني ورجح آلمانو- في يونيوالماضي- أن تصبح قيادة الحزب بعد بيرلسكوني جماعية يتولاها نحو20 سياسيا مؤكدا أن في تلك المرحلة من الصعب أن يدير الحزب شخص واحد يخلف بيرلسكوني!! وبامعان النظر في الساحة السياسية تظهر عدة اسماء يحتمل أن يكون لها دور في مستقبل البلاد:- جوليوتريمونتي وزير الاقتصاد الايطالي(63 عاما).. قيادي بحزب شعب الحرية وهومهندس خطة التقشف التي تبنتها ايطاليا منذ يونيوالماضي. ذو رؤية ثاقبة مما جعل بيرلسكوني لايتخلي عنه في أي من حكوماته الأربع.. تمكن من الافلات بايطاليا من أسوأ آثار الأزمة المالية العالمية وقد اقترح فيني اسمه كرئيس لحكومة تكنوقراط للخروج بالبلاد من أزمتها السياسية في خضم الصراع الأخير. امبرتوبوسي: زعيم حزب رابطة الشمال اليميني المتطرف يحظي حزبه بشعبية كاسحة في مناطق شمال ايطاليا تزايدت وامتدت الي وسط البلاد كما أظهرت الانتخابات المحلية في مارس2010, بالرغم من ذلك فان برنامجه' العنصري الانفصالي' يضعف من فرصه لقيادة البلاد. وكثيرا ما نقلت وسائل الاعلام تصريحات له يهزأ فيها من مواطني جنوب ايطاليا حتي انه وصف سكان روما ب' الخنازير'. فيني: تاريخه واحترام الشارع الايطالي له قد يساعده علي بناء حزبه من جديد. لكنه بحاجة الي مال وفير لتحقيق مآربه وبدء حملة اعلامية واسعة قد يكون عاجزا عنها في الوقت الراهن. وبين هذا وذاك يظل أمل الايطاليين في ظهور وجه جديد علي غرار ظاهرة أوباما الأمريكية.. ولكن ذو مستقبل أفضل!