إن هذه التغييرات تمثل تحولا تاريخيا, كما أنها أهم قرار بشأن نظام الحوكمة في صندوق النقد الدولي منذ إنشائه عام1944 كان هذا هو التعليق الذي أدلي به مدير عام صندوق النقد الدولي علي قرار وزراء مالية مجموعة العشرين عند اجتماعهم في كوريا الجنوبية يوم24 أكتوبر الماضي بتعديل الحصص التي تساهم بها الدول الأعضاء في الصندوق وهي الحصص التي يتم علي أساسها حساب القوة التصويتية لكل دولة. وينص قرار وزراء مالية مجموعة العشرين علي مضاعفة حصص البلدان الأعضاء في صندوق النقد الدولي لتبلغ نحو476.8 مليار وحدة حقوق سحب خاصة حوالي755.7 مليار دولار بدلا من الحصص الحالية التي تبلغ قيمتها238.4 مليار وحدة حقوق سحب خاصة, مع حدوث زيادة في الحصص النسبية وبالتالي في القوة التصويتية لصالح بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية الديناميكية. ونتيجة لهذا فسوف تنتقل بلدان الأسواق الصاعدة الكبري خاصة دول البريك البرازيل وروسيا والهند والصين لتصبح بين البلدان العشرة صاحبة أكبر الحصص في صندوق النقد الدولي, ولتحتل الصين المرتبة الثالثة بعد الولاياتالمتحدةواليابان. ووفقا للقرار فإنه سيتم نقل نحو6% من الحصص إلي البلدان الصاعدة, وسوف يتم نحو نصف هذا التعديل من خفض حصص البلدان الصناعية المتقدمة خاصة الأوروبية, والثلث من بعض الدول البترولية والباقي من الدول النامية. وقد اتفق الوزراء كذلك علي تعديل تشكيل المجلس التنفيذي لصندوق النقد وهو المسئول عن إدارة المؤسسة بما يعزز تمثيل بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية, حيث ستتخلي الدول الأوروبية المتقدمة عن مقعدين في هذا المجلس, إضافة إلي أن أعضاء المجلس التنفيذي الأربعة والعشرين سيتم انتخابهم كلهم, إذن وفقا للنظام الحالي تقوم خمسة بلدان صاحبة الحصة الأكبر في الصندوق هي الولاياتالمتحدةواليابانوألمانياوفرنسا وبريطانيا بتعيين ممثل لها في المجلس بينما يتم انتخاب الأعضاء التسعة عشر الآخرين. أسباب ظاهرية وأخري جوهرية خلف التغيير السؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا تمت الموافقة علي هذا القرار بسرعة نسبيا وبمستوي في تحويل الحصص يبلغ نحو6%, بينما كان المعروض من قبل الدول الصناعية المتقدمة لا يزيد علي5% فقط منذ نحو عام واحد؟ والإجابة المباشرة تقول إن عدم الانسجام بين المكانة الاقتصادية لبعض الدول خاصة دول البريك الأربع وواقع حصصهم وقوتهم التصويتية في الصندوق هي ما يكمن خلف هذا القرار, ولكن هذه المفارقة بين المكانة وواقع الحصة قائمة منذ فترة طويلة, وهو ما كان مصدرا للتشكيك في شرعية الصندوق علي نحو ما أشار مدير عام الصندوق, هذا إلي جانب أسباب أخري لنقص الشرعية. ومن الناحية العملية يمكن القول إن واقع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية هو الظرف الذي سهل صدور القرار, لأن الصندوق في ظل الأزمة بات في حاجة إلي المزيد من السيولة للتدخل لإنقاذ الاقتصادات التي تعاني مشكلات مالية. ومن الطبيعي أن يتجه العالم إلي الدول التي تحقق فوائض كبيرة في موازين مدفوعاتها من أجل تحقيق هدفه, وليس هناك من هو أكثر تحقيقا لهذه الفوائض الآن من دول البريك خاصة الصين وروسيا, وكان الصندوق يلجأ دائما إلي مثل هذا الأسلوب بغض النظر عن طبيعة الاقتصاد أو حتي المكانة, إذ قام الصندوق في بداية ومنتصف الثمانينيات بزيادة حصص بعض الدول النفطية باعتبارها بلدان كانت لديها فوائض ضخمة من أجل العمل علي مواجهة أزمة ديون العالم الثالث التي تفجرت في هذا الوقت. والأمر الآخر المهم في هذا الصدد هو أن البلدان المتقدمة خاصة الأوروبية أعضاء منطقة اليورو هي الآن التي بحاجة لخطط إنقاذ مالي وبتقديرات تصل إلي مئات المليارات من الدولارات. فقد تدخل الصندوق لإنقاذ اليونان وربما يتدخل قريبا لإنقاذ أيرلندا, وبعدها ربما البرتغال وأسبانيا. أسباب أخري لنقص الشرعية السبب الثاني المهم وراء القرار هو المتعلق بتطورات ما بعد الأزمة العالمية وخاصة مشكلات الاختلال في موازين المدفوعات الدولية لبعض الدول, وزيادة الميل نحو التوجه لما أسمي بحرب العملات, حيث يقوم كل بلد بخفض سعر صرف عملته من أجل زيادة قدرته التنافسية في حلبة التجارة الدولية وإضعاف قدرة الآخرين. وكان العالم قد شهد موقفا مشابها في عقدي العشرينيات والثلاثينيات والمفارقة العجيبة أن هذا نفسه كان هو الدافع وراء إنشاء مؤسسات كصندوق النقدالدولي. فالاتفاقية المؤسسة للصندوق تنص في مادتها الأولي وتحت عنوان أهداف الصندوق علي تشجيع التعاون الدولي في المجال النقدي بواسطة هيئة دائمة تهيئ سبل التشاور والتآزر فيما يتعلق بالمشكلات النقدية الدولية. وتيسير التوسع والنمو المتوازن في التجارة الدولية, والعمل علي تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف والمحافظة علي ترتيبات صرف منتظمة بين البلدان الأعضاء, وتجنب التخفيض التنافسي في قيم العملات. والمساعدة علي إقامة نظام مدفوعات متعدد الأطراف فيما يتعلق بالمعاملات الجارية بين البلدان الأعضاء, وإلغاء القيود المفروضة علي عمليات الصرف والمعرقلة لنمو التجارة الدولية, وأخيرا تدعيم الثقة لدي البلدان الأعضاء بأن يتاح لها استخدام موارد الصندوق العامة بشكل مؤقت وبضمانات كافية, كي تتمكن من تصحيح الاختلالات في موازين مدفوعاتها دون اللجوء إلي إجراءات مضرة بالرخاء القومي أو الدولي. وفي حقيقة الأمر فإن فقدان شرعية الصندوق يأتي من أنه لم يكن في ظل الهيمنة الغربية قادرا علي تحقيق أي من أهدافه المذكورة منذ تم التحول من نظام أسعار الصرف شبه الثابتة نحو نظام أسعار الصرف المعومة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي. فالدول التي كان بمقدور صندوق النقد فرض ما يراه من إصلاحات ضرورية عليها ظلت هي البلدان المحتاجة لقروضه وهي في الغالب الدول النامية, كما أن الدول الكبري ارتأت تصفية مشكلاتها سواء في التجارة أو أسعار الصرف بعيدا عن الصندوق, فقد كان هذا هو الحال مثلا في اجتماع الدول الخمس الكبار الولاياتالمتحدة, بريطانيا, فرنسا, ألمانيا, اليابان من أجل رفع قيمة كل من الين الياباني والمارك الألماني أمام الدولار فيما عرف باتفاقية بلازا عام1985, ثم في اتفاقية اللوفر التي تم التوصل إليها لتحقيق العكس في عام1987 حينما انخفض سعر صرف الدولار إلي أبعد مما كان مطلوبا. ويزداد الوضع تعقيدا الآن لأن الخلل التجاري الأمريكي المستمر منذ عقود ينظر إليه علي أنه مصدر المشكلة الاقتصادية الأكبر في الولاياتالمتحدة ألا وهي البطالة مع وصول هذا المعدل إلي نحو6.9% أي أعلي معدل منذ26 عاما, وهو ما كان وراء خسارة الديموقراطيين للأغلبية في مجلس النواب في انتخابات4 نوفمبر الماضي. ولذا تضغط الولاياتالمتحدة من أجل رفع سعر صرف عملات بعض البلدان الأخري لاسيما الصين, وفي نفس الوقت تطالب بوضع حد أقصي للفائض بحيث لا يزيد علي4% من قيمة الناتج والطريف أن الصين وجهت اللوم للإدارة الأمريكية لأن ما تدعو إليه من تدخل يتعارض مع آليات السوق الحرة!! كما لامتها علي تدخلها بخطة إنقاذ جديدة تبلغ قيمتها600 بليون دولار إذ إن هذه الخطة ستعمل علي خفض قيمة الدولار. أما ألمانيا فقد وجهت بدورها النقد لخطة الإنقاذ الأمريكية, ورأت أن ما تدعو إليه إدارة أوباما من تدخل مباشر لمعالجة الخلل هو بمثابة فرض عقاب علي النجاح. تغييرات ما قبل التاريخية بقليل التغيير الذي سيتم في نظام الحصص تمليه الحاجة إلي التمويل وهو ما يتوافر لدي بلدان الفوائض, كما تأمل بعض الدول المتقدمة أنه عبر المزيد من إدماج دول كبيرة مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا بإعطائها وزن أكبر في القرار الاقتصادي الدولي سيجعلها حريصة علي النظام وعلي أسس عمله. فهذا هو مغزي ما ذكره مدير صندوق النقد الدولي من أن البلدان العشرة صاحبة أكبر الحصص في الصندوق ستكون هي التي تستحق أن تكون في هذه المرتبة لأنها الأكثر تأثيرا في النظام الاقتصادي العالمي. وبشأن تحول المجلس التنفيذي إلي مجلس أكثر ديموقراطية مع انتخاب كل أعضائه, فرغم صحة ذلك وهو تقدم مهم, إلا أن استمرار احتفاظ الولاياتالمتحدة بنحو61% من جملة القوة التصويتية يعطيها حق الفيتو في القرارات المهمة التي تتطلب نسبة تصويت تبلغ58% تشمل تلك القرارات تعديل الحصص. وفي النهاية فإن التغييرات التي ستتم في الحصص والقوة التصويتية لا تعد تاريخية حقا, بل هي ما قبل التاريخية بخطوة واحدة, فالتغيير التاريخي بالفعل هو حدوث انقلاب في أسس عمل المؤسسات الدولية بنفي هيمنة البعض عليها أي عبر حرمان أي دولة من حق الفيتو, وهو ما يرجح حدوثه في المراجعة الخامسة عشرة للحصص عام2014, هذا في حال استمرت الاتجاهات العالمية الراهنة في النمو والتطور.