سوف تحسده حتما بمجرد أن تراه يعيش في قصر كان يعيش فيه هاملت بطل مسرحية شكسبير الخالدة في ضواحي كوبنهاجن عاصمة الدنمارك. وكيف لا تحسده وهو موفور الصحة جميل المحيا يعيش وسط أسرته الصغيرة وأطفاله الذين لا تعرف بمجرد رؤيتهم هل هم زهور في حديقة أم أطفال مثل أطفالنا خرجوا من نسل سيدنا آدم وجدهم اسمه عبدالمعطي وجد جدهم اسمه عبدالمتجلي؟ ولكي ندخل في الموضوع.. ولكيلا تأخذكم الظنون بعيدا وتتساءلون: ما الذي يعنينا بإنسان مصري يعيش في الغربة وأعطاه الله عن سعة وأصبح واحدا من أثرياء أوروبا بعرفه وكفاحه أم بحظه وفلاحه لا يهم؟ صبرا أيهاد الحساد الذين لا تريدون إلا جنازة تشبعون فيها لطما وليس فرحا تشبعون فيه رقصا وزمرا وطبلا.. فصديقي هذا تعرفت عليه في رحلة إلي أوروبا.. وقابلته عند السفير المصري هناك.. وكانت زوجته صديقة زوجتي في المدرسة أيام الصبا والجمال.. ثم تباعدت بهما الأيام. المهم بعد عشاء دسم مصري النكهة والصنعة تفننت الزوجتان في إعداده وطهيه علي أكمل صورة.. جلسنا هو وأنا في خلوة رجالية مع فناجين القهوة المصرية المحوجة.. وبدا هو أمامي حزينا مطويا يخفي سرا كئيبا في صدره ظهرت خطوطه علي وجهه وفي نظرات عينيه. فاجأني هو بقوله: تصور الناس كلها تحسدني علي نجاحي الأوروبي.. والعز والفخفخة التي أعيشها مع أسرتي وزوجتي الدنماركية وأولادي حبات قلبي وعيني.. ولكنني في الحقيقة أتعس إنسان في الوجود! فاجأني كلامه.. نظرت إليه بدهشة وقلت له: إزاي يا راجل أنت تكفر بنعمة الله عليك! قال: اسمع وتروي ثم أحكم؟ قلت: تكلم.. أنت تقلقني كثيرا.. قال: قبل عشرة أيام جاءتني مكالمة من أمي في القاهرة.. قالت لي: أنا عاوزة أشوفك يا مختار وليس هذا اسمه قبل أن أودع الدنيا.. وسافرت وجلست إلي أمي حيث تعيش في عزبة تركها لنا الوالد رحمة الله عليه. قالت لي أمي: تأكد أولا أن أحدا لا يسمعنا إلا أنا وأنت.. تأكدت من غلق باب الحجرة وإسدال ستائر النافذة.. وقلت لها: تكلمي يا أمي.. قالت لي فيما يشبه إسقاط قنبلة هيروشيما فوق رأسي: أنا لست أمك يا بني! قلت لها: يا أمي لا تحاسبيني علي طول غيابي عنك.. فتنكرين أنك أمي زعلا مني؟ قالت: لا يا ابني.. أنا لست أمك حقيقة.. أنا ربيتك فقط! قلت لها ملتاعا وأنا غير مصدق ما تقول: أمال أنا ابن مين بس.. إياكم لقتوني علي باب الجامع ساعة آذان الفجر.. زي أفلام السيما الأبيض والأسود؟ قالت: موش بالضبط كده.. لكن حاجة زي كده! قلت لها: يا أمي.. لازم تقوليلي الحقيقة كلها زي ما حصلت بالضبط؟ قالت لي: عشان كده جبتك من بلاد برة قبل ما أقابل رب كريم.. أنا وأبوك اتجوزنا وعشنا في بلدنا دي.. وكنا أسعد زوجين.. وكانت عندنا خدامة حلوة كده زي القمر.. اسمها قمر وهي قمر سبحان الخالق.. ما أعرفش قعدت عندنا كده كام شهر.. واختفت.. أبوك الله يرحمه.. قاللي البنت قمر اتجوزت في بلدها.. وبعدين بصينا لقينا قمر جت وهي حامل في آخر شهر.. وفي ليلة جالها طلق الولادة.. وولدت ولد زي القمر.. لكن ربنا افتكرها وقابلت رب كريم.. الولد ده اللي ولدته قمر هو أنت يا حبيبي! قلت لها صارخا: يعني أنا يا أمي.. أمي قمر الخدامة؟ قالت: أيوه.. قلت لها صارخا: وأبويا مين ياتري؟ قالت: أبوك.. هو أبوك اللي اعترف لي.. إن أنت ابنة من قمر دي وكتبك علي اسمه في شهادة الميلاد.. قلت لها: لكن انت أمي في شهادة ميلادي؟ قالت: أيوه أبوك كتب اسمي علي أني أمك منعا للفضايح أيامها في البلد. قالت قولتها ثم ودعت الدنيا! قلت: ماتت؟ قال: أيوه.. أرأيت أن من حقي أن أحمل لقب: أتعس إنسان في الوجود.. بعد هذه السن وبعد أن اشتعل الرأس شيبا! قلت له: يا شيخ أمك اللي ربت وعملتك راجل.. أنت ابن الست العظيمة دي اللي حفظت السر نصف قرن بحاله.. أما قمر هذه فلم تفعل شيئا سوي أنها حملتك تسعة أشهر ثم ولدتك! قال: سأذهب إلي بلدنا لأبحث عن قبر أمي التي حملتني وولدتني! قلت: بل اذهب إلي بلدتك وضع باقة من الزهور البيضاء فوق قبر أمك التي أرضعتك وربتك وهننتك وجعلت منك رجلا ملء السمع والبصر.. إنها أمك الحقيقية التي حفظت سرك نصف قرن بحاله.. إنها تستحق وساما وأن تبكي علي قبرها بالدموع.. أما أمك التي ولدتك.. فلها الله{!