اختلف الرجلان في الرأي, واتفقا في الذكري, بما يرمز إلي أنهما كانا وجهين متباينين لعملة واحدة, العلم الغزير والصلابة في الرأي والدفاع عنه, وإن وقفا في ذلك علي طرفي نقيض. ذينك هما طه حسين ومحمود شاكر, المتناقضان المتشابهان. . فمع انحياز طه حسين للعقل النقدي الغربي, وتمسك شاكر بالتراث العربي, كان كلاهما عاشقا لذلك التراث مفتونا لحد الوله بلغتنا الجميلة. أدب الاقتراب من عالم المحقق والعلامة اللغوي والباحث في التراث الأستاذ والكاتب الراحل محمود محمد شاكر1909 1997, لابد أن يكون محفوفا بأسئلة وهواجس, فالشيخ شاكر كما لقبه مريدوه ومحبوه وتلاميذه, تقديرا لمكانته المرموقة, وجهوده الكبيرة, واحتراما لمقامه العالي, كان بحر معرفة, ونهرا يتدفق, وعالمه متسع وعميق في آن واحد, والمضارب التي طرقها الرجل كانت كثيرة, منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي, عندما واجه طه حسين واختلف معه, وانتقده بشدة, هذا الانتقاد الذي لا يناسب طالبا من المفترض أن يرضي أستاذه, إن لم ينافقه ويحرق البخور حوله فالأستاذ محمود شاكر لم تعرفه هذه الصفات, بل كان ديدنه ورفيقه دوما سلاح الشجاعة, هذا السلاح الذي أنصفه في جميع معاركه الكثيرة, معاركه مع العقاد ومع لويس عوض ومع سيد قطب ومع طه حسين, لدرجة ألا تتخيل محمود شاكر إلا وفي كل مرحلة له معركة, وفي كل مجلة له موقعة, وكانت مقالاته تملأ مجلات الرسالة والمقتطف والبلاغ والمقطم, وغيرها من المجلات والصحف المرموقة, وكانت هذه المقالات تلفت النظر بقوة إليه, ليس لسلامة المنطق فقط, أو لصحة الحجج فحسب, بل لجمال الأسلوب الذي تتمتع به كتابته. وقد جمع الدكتور عادل سلمان مقالاته في مجلدين ضخمين, وطبعتهما مكتبة الخانجي, هذا بالإضافة إلي كتبه المهمة الأخري, مثل كتاب أباطيل وأسمار وهو سفر طويل يرد فيه علي الدكتور لويس عوض عندما كتب سلسلة مقالات في الأهرام عن رسالة الغفران لأبي العلاء المعري, وأظن أن الشيخ شاكر قد تجاوز هذا الغرض الضيق, وهو الرد علي د. لويس عوض, بل إنه توسع كثيرا ليتطرق إلي تفاصيل غاية في الأهمية. يكتب الشيخ شاكر مبينا في المقدمة خطته فيقول: لهذه الفصول غرض واحد, وإن تشعبت إليه الطرق, وهذا الغرض هو ما قلت للأخ الصديق الأستاذ محمد عودة: هو الدفاع عن أمة برمتها, هي أمتي العربية الإسلامية, وجعلت طريقي أن أهتك الأستار المسدلة التي عمل من ورائها رجال فيما خلا من الزمان, ورجال آخرون قد ورثوهم في زماننا, وهمهم جميعا كان: أن يحققوا للثقافة الغربية كل الغلبة علي عقولنا, وعلي مجتمعنا, وعلي حياتنا, وعلي ثقافتنا. إذن كانت قيامة العلامة محمود شاكر في معظم بل كل ما كتب هي الانتصار للثقافة العربية الإسلامية وللأمة العربية الإسلامية وكانت معاركه مع كل من واجههم تنطلق من هذا الجانب, وكانت كل ثورته علي طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي, أنه كما قال انتحله من المستشرق مرجليوث, دون أن يذكر المصدر, فيحتج شاكر لسببين, الأول هو الانتحال الذي وقع فيه طه حسين علي حد قوله, والثاني هو الاقتداء بالثقافة الغربية, وربما لم يناقش هذا الأمر أحد بتوسع بالقدر الذي سلكه الشيخ شاكر, وفي أعقاب هذا الصدام بين شاكر وطه, ترك شاكر كلية الآداب ليعمل ناظرا لمدرسة في المملكة العربية السعودية ويعود وبعد ذلك ليواصل معاركه مرة أخري. وأصدرت مجلة المقتطف في عدد ممتاز كتاب الشيخ شاكر عن المتنبي, ويفند فيه العلامة كل ترهات المستشرقين, وجعل مقدمة كتابه هذا عبارة عن: رسالة في الطريق إلي ثقافتنا ويستعرض الشيخ في هذه الرسالة دعاوي الاستشراق, أو بعض هذا الاستشراق, فيكتب في تضاعيف الكتاب قائلا: وبين لك الآن بلا خفاء أن كتب الاستشراق ومقالاته ودراساته كلها, مكتوبة أصلا للمثقف الأوروبي وحده لا لغيره, وأنها كتبت له لهدف معين, في زمان معين, وبأسلوب معين, لا يراد به الوصول إلي الحقيقة المجردة, بل الوصول الموفق إلي حماية عقل هذا الأوروبي المثقف من أن يتحرك في جهة مخالفة. بالطبع لا يخلو أسلوب الشيخ شاكر من عنف يصل إلي حدود قصوي, خاصة في مناقشته للدكتور لويس عوض, ولكن العزاء الأساسي لهذا العنف أنه يأتي في سياق منهجي, وليس سبابا مجانيا, وهو يأتي من غيرة علي العلم الذي أهدره الدكتور عوض كما يري شاكر في كتابته عن المعري. لا يستطيع المرء في هذه السطور القليلة استعراض حياة شامخة وزاخرة, استمرت لما يقترب من التسعين, لكن لابد من التعريج علي صالونه المهم الذي كان يقيمه كل جمعة في منزله, وكان يحج إليه كثيرون مثل يحيي حقي ومحمد عودة ويوسف الشريف وغيرهم من كبار المثقفين, بالإضافة إلي سفراء ووزراء, يعاملهم الشيخ شاكر كما يعامل الآخرين, فلا فرق بين أمير وغفير في طلب العلم عنده, ومن الطرائف أن نجيب محفوظ لم يستجب لدعوة يحيي حقي ليكون من رواد الصالون, وعندما سأله أحدهم لماذا يرفض الذهاب إلي الشيخ شاكر؟ قال له: أخاف علي لغتي منه, فمنذ أن ذهب يحيي حقي إليه, غزت أسلوبه المجازات والعبارات الفخمة, فأنا أحاول أن أحمي لغتي الخاصة من التأثر به, وعندما قابل الشيخ شاكر نجيب محفوظ, صافحه بحرارة, ولف يده في يده, وقال له: يا واد يا نجيب أنت اقتربت من الكتابة باللغة الفصحي. هناك أيضا ديوان شعر فريد من نوعه عنوانه اعصفي يا رياح بالإضافة إلي القوس العذراء.. وهناك ديوان مخطوط قد أوصي ألا ينشر لما فيه من فضفضات, أي كان يكتبه في حرية تامة, مما لا يناسب مقامه الوقور. مرت مئوية الشيخ محمود محمد شاكر دون أن ينتبه لها السادة في وزارة الثقافة, ودون أن يقيموا له حتي مأدبة, ذكري صغيرة كما يفعلون مع القاصي والداني, هل هذا هو تصفية حساب مع الماضي ؟ هل هو محاولة لمحو وإلغاء علم شامخ كالشيخ شاكر؟ ليتنا ننتبه لقيمة الرجل, فنقيم له ما يليق به, وسط هذه الكرنفالات المجانية.