بين مصطلح) السلف( ومصطلح) السلفية(: التباس وإيهام!! فحين يطرق سمع المسلم مصطلح) السلف( يتبادر إلي وعيه مشهد أولئك الصحابة الأجلاء, والتابعين وتابعيهم ممن عاش القرون الثلاثة الأولي. فيحس إحساسا عميقا بشعور جارف من المحبة والمهابة, والإجلال والاحترام. أليس أولئك السلف هم الذين حملوا علي عواتقهم لواء الدعوة في عهدها الباكر, ثم احتضنوها غضة طرية, وصافية نقية؟ في ضوء هذا المعني يصبح الانتساب إلي السلف شرفا وحقا لجميع المسلمين, دون أن يدعي فريق أنه هو وحده الجدير بالانتساب إليهم منفردا دون سواه. أما حين يذكر مصطلح) السلفية( فإن المتأمل اليقظ يدرك أنه بإزاء مصطلح قد استحدث لكي يقتصر علي طائفة معينة, ادعت لنفسها حق الانفراد بوراثة السلف, وأقصت كل من يخالفها رأيها من إطار هذه الوراثة, أيا كان نصيب رأيها هذا من القوة أو الضعف أو الصحة أو البطلان! فماذا إذن عن السلف أنفسهم؟ هل كانت لهم) جوامع فكرية( يمكن تتبعها رغم تنوع آرائهم حيال المواقف المختلفة, والأحداث المستجدة التي اكتظت بها حياة المسلمين الواسعة؟ يمكن القول في هذا الصدد بعدة أطراف جامعة لمنهج السلف: (1) إنهم كانوا لا يجدون في اختلاف الآراء بأسا, بل كان بعضهم يتعقب آراء بعض, ويصحح آراء بعض, فتتعدد آراؤهم في المسألة الواحدة, دون أن تؤدي تلك التعددية السمحة إلي التنابذ والتنافر. (2) إن مبعث هذا الاختلاف هو التوسعة علي الناس, ولقد كان عمر بن عبدالعزيز يقول) ما أحب أن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يختلفوا, لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق(. كما وصفهم آخر بقوله) ما رأيت قوما أيسر سيرة, ولا أقل تشديدا منهم(. (3) إن السلف مع شدة تمسكهم بالكتاب والسنة: لم يكونوا يرون في العقل خصيما مبينا, بل كانوا يرون فيه سندا للشرع, ولم يكونوا ينفرون من الرأي بل يعدونه معوانا علي فهم النص. وفي هذا المناخ كان لابد أن تنشأ مدرسة الرأي علي يدي الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان)80 150) ولم يكن الرأي في تلك المدرسة الرفيعة مجرد نظرات متناثرة, بل كان منهجا متسقا قائما علي أسس رصينة من القطعيات المعلومة من الدين بالضرورة. ثم أقول بعدئذ: (1) لو أن منهج السلف بأطرافه تلك قد ظل ماثلا في وعي الأمة دون أن يعكر صفوه تيار وافد, ويحمل بصمات فكرية مغايرة مدعيا أنه وحده وارث السلف: لما طغت علي حياتنا أمواج من المظاهر والأشكال الجوفاء, دون اعتبار للجوهر والمضمون, وللمعاني الكامنة وراء تلك المظاهر, ولما سيطرت علي فهمنا للنصوص الشرعية أغلال ثقال من الظاهرية الجافة, دون إعمال لمقاصد الشرع ومراميه, ولأساليب اللغة وطرائقها في التعبير. (2) لو أن منهج السلف بأطرافه تلك قد ظل حاضرا في وعي الأمة, لما أصبح الشغل الشاغل لنا هو اللهاث وراء الأقوال الضعيفة والآراء الشاردة, والمذاهب المرجوحة, ولما تحولت المندوبات إلي مفروضات, والمكروهات إلي محرمات, ولما شاع فكر التكفير والتبديع علي غير وجهه الشرعي المنضبط الرصين. (3) لو أن منهج السلف بأطرافه تلك قد ظل يقظا في وعي الأمة لما انبعثت الخلافات الاعتقادية من رقدتها في بطون المتون وتضاعيف الحواشي, ولما أصبحت مثارا للجدال العقيم في ساحات المساجد, وعلي قنوات الفضاء, ولانشغلنا عنها بمواجهة الفساد والظلم وضياع الحقوق, وبمجابهة الطغيان والاستبداد وسائر الآفات التي تقف عائقا في وجه بلوغ الأمة مرتبة الخيرية التي أناطمها القرآن الكريم بها, فما كان السلف يسكتون علي ظلم, ولا يجبنون علي ضيم, ولا يتخاذلون حين يدعو الداعي إلي دفع مفسدة أو رفع مظلمة! بيد أن غبش الرؤية واختلال المفاهيم قد أصاب, فيما أصاب, مفهوم السلف! (1) فلقد أضحي مفهوم السلف عند بعض حملة الأقلام: رمزا للتقهقر إلي الوراء, ونقيضا لفكرة التقدم, فكأنما كان شيوع مفهوم السلف عندهم حجر عثرة في طريق ما يزعمونه تنويرا, وما يظنونه تقدما, وكأن السبق الزمني هو معيار التقدم والتأخر, جهلا أو تجاهلا بما كان عليه موقف السلف من حيوية وفعالية في مقاومة انحراف المجتمعات, وطغيان الطغاة, واستبداد المستبدين, دون خنوع أو خضوع. (2) كما أضحي مفهوم السلف لدي السلفية التي تدعي احتكار وراثة السلف: معادلا موضوعيا لحرفية الفهم, وإنكار التأويل, وإقصاء لدور العقل, وتوسيعا لدائرة البدعة, وحثا علي التمسك بالأشكال والمظاهر, واقحاما للجماهير في مشكلات نظرية عقدية لا قبل لهم بها, وكأن الأمة قد نفضت يديها عن مهمتها العظمي في حمل مشاعر الهداية والرشاد إلي البشرية الحائرة, ونشر الأمل في غد ينتشر فيه عبق العدل, ونور الحق, وسكينة الإيمان.