ليس هذا المقال بهذا العنوان, وليد شحنة عاطفية مشبوبة, بل يرتكز علي حقائق, يزكيها التاريخ, وواقع علمي نادر, كانت تزخر به أروقة الأزهر, العامرة, والمليئة بأفضل العلماء وأخلص طلاب العلم. وأثر طيب في العالم كله, يؤكده قوله تعالي: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون( سورة التوبة: آية122). إن الروح العامة التي كانت تسود أروقة الأزهر, كانت تقوم أولا علي سمو التربية الروحية قبل العملية التعليمية, فكانت بهذا تشكل روح الأمة الإسلامية ووجدانها, وتنصهر في تلك العملية العظيمة أرواح الأساتذة مع أرواح أبنائهم من الطلاب لتنتج مخرجات تربوية قل أن يوجد ما يناظرها في كل المؤسسات التعليمية, المحلية والإقليمية والدولية, ولتشد من عزم فتيان كرام, جاهدوا في سبيل الله وهل كان موقف سليمان الحلبي من كليبر إلا إحدي صور الجهاد, في وجه كل ظالم يعتدي علي حريات الإسلام ومقدساته؟ وهل كان الأزهر حين كانت تتجاوب أروقته شيوخا وطلابا مع مطالب الأمة المشروعة في وجه كل طاغية من الداخل أو من الخارج علي السواء سوي مصنع للأبطال المغاوير الذين جمعوا بين شرف الكلمة التي تعلموها من أساتذتهم وسمو الروح الذي أدركوه من خلال ما يحفظون من آيات العزة, لرهط الصادقين من عباد الله المؤمنين وأنبيائه المرسلين, في مثل ما جاء في قوله تعالي: ولله العزة ورسوله وللمؤمنين..( سورة المنافقون: من آية8). * وإذا كان الأزهر علي الوجه الذي ذكرنا يمثل روح الأمة, فإنه من جانب آخر يمثل عقلها الرائد وإدراكها المستنير, القائم علي قواعد منهجية علمية, تؤكد كل ما هو حقيقي وتنفي كل ما هو مزيف مبتذل, مما تفرزه عقول ضلت الطريق, فكانت الخرافات والأباطيل حصيلتها في دنيا العلم والمعرفة. إن الذي يقرأ التاريخ العلمي للأزهر في أغلب مراحله يلاحظ أنه قد جمع بين علوم الدين والدنيا في نسيج عقلي أخاذ قام علي أساس منهجي سليم, أفرزته عبقرية عقليات أبنائه في كل عصر, حتي صار المنهج المتكامل الذي تترابط أنواعه وتثمر أهدافه, هذا بالإضافة إلي الدور العظيم, الذي اضطلع به هذا المعهد العتيد من حفظ لتراث الأمة, حين كان يعتدي عليها الآثمون, ممن لم تهذبهم روح الإسلام, ولا مدنيته السامية, من أمثال المغول والتتار, الذين كانوا يشكلون معاول هدامة, لصرح الإسلام, وما يتردد في مدارسه من علم شريف, وكان الأزهر هو صانع هذه المدارس وحاميها, حيث كانت تمثل الجداول التي تنساب بالعلم الأصيل, الذي ترفده ينابيعه القوية في الأزهر الأم. * وأما أن هذا المعهد العتيد هو ضمير هذه الأمة, فإن هذا مما لا تخطئه عين ناظر إلي تاريخه القديم والوسيط والحديث, وحسبنا أن نلقي نظرة علي الدور الذي قام به الأزهر الشريف حين كان يستشعر الأثر السييء لتلك الهجمات الاستعمارية, التي أحدثتها بعض دول الغرب, ضد بعض الدول الإسلامية, بدءا من الحروب الصليبية حتي يوم الناس هذا, ليدرك رد الفعل القوي الذي كان يضطلع به أبناء الأزهر حتي إن بعض رموز هذا الاستعمار, لم يجد أمامه سوي وسيلة تدل علي ضيق في الأفق وضحالة في التفكير, فدخل بجنوده وخيوله الأزهر, لعله بذلك يثنيهم عن مواقفهم الجادة في وجهه ومن شايعه من ضعاف النفوس من أبناء هذه الأمة, ولكن أني لهم ذلك وقد تعلموا من قرآنهم وفي أزهرهم أن الجهاد والمقاومة فرض عين, حين تنتهك المقدسات ولا تصان الحرمات؟ ثم من جانب آخر كيف يحيون حياة الذل والمسكنة, وقد تعلموا أن غاية الجهاد إحدي ثمرتين يانعتين: فإما النصر علي الأعداء وإما الشهادة في سبيل الله.. وهل هناك أحسن من إحدي هاتين الحسنيين؟ * إن الأزهر كان ولا يزال واقفا علي كل ثغر من ثغور الإسلام, يخشي كل فريق فيه أن يؤتي الإسلام من قبله, وتزيده هذه الخشية بصيرة نافذة وحياة ضمير, يراقب كل تصرفات من حوله في الداخل والخارج ويزنها بمعيار الإسلام الصحيح ليحق منها ما هو حق, ويبطل منها ما هو باطل, وهذه هي رسالته علي مدي تاريخه الممتد. * إن تاريخ الأزهر اليوم هو حلقة من تاريخ الإسلام العظيم, وعليه أن يتجاوز تلك المواقف التي جعلته يري في صورة جامدة أحيانا, ومتراجعة أحيانا أخري, لأسباب لا يحتملها هذا المقال. وإذا كان قد أراد الله له خيرا بفضل ما هيأ له من شيخ كريم يمسك بكلتا يديه راية الإسلام ليعيد له مجده الخالد, وتاريخه المنير, فإن مشاركة الأسوياء من أبناء هذه الأمة في هذا الركب الميمون, كل علي قدر مواهبه هو المطلوب من كل مسلم غيور علي دينه وعلي أزهره. * ولا نبالغ إذا قلنا في ختام هذا المقال: إن إصلاح الأمة الإسلامية علي مستوي العالم كله ينبغي أن يبدأ من الأزهر, ففي نهضته نهضة لها, وفي إصلاحه إصلاح لها كذلك, لأنه قائد مسيرة التنوير الروحي والعقلي والأخلاقي, ولا نتعجب كثيرا مما شبه به أمير الشعراء أحمد شوقي أعلام الأزهر وشيوخه بأنهم الكواكب المنيرة حين يكثر الظلام.