مقال للشيخ العلامة الفقيه محمد أبو زهرة رحمه الله ( كتبه بمجلة الكاتب العربي التي كانت تصدر عن وزارة الثقلفة المصرية )، وهو يعرض فيه لكتاب " أبو هريرة راوية الإسلام " للأستاذمحمد عجاج الخطيب ، ليدافع فيه عن حافظ الصحابة على الإطلاق وراوية الإسلام أبي هريرة رضي الله عنه نقدمه للناعقين اليوم والجهلة والمرددين لكلام المرجفين .. * * * أبو هريرة راوية الإسلام بقلم : الشيخ محمد أبو زهرة -1- هذا عنوان كتاب بقلم ولدنا الأستاذ محمد عجاج الخطيب ، وقد جاء ذلك الكتاب في وقت الحاجة إليه ، فإن سلسلة الهدم للسنَة متصلة مستمرة ، وقد لَبِست في هذا الزمان لبوسَ الطعن في أبي هريرة ، والتشكيك في رواياته . ذلك أنه أكثر الصحابة رواية ، وإن لم يكن أعظمهم دراية . وأن كثيرًا من أحكام العبادات والمعاملات مروية على طريقه ، فالتشكيك في روايته تشكيك في كثير من الأحكام الإسلامية ، ثم يرتقى العابثون الهدامون من الطعن في أبى هريرة إلى الطعن في السنة كلها ، وإلى الطعن في الأحكام الشرعية المأخوذة منها ، ثم تجريد القرآن من السنة التي تبينه والهدى المحمدي الذي يوضحه . ولقد تجرأ أناس هنا وفي باكستان وغيرها من البلدان الإسلامية ، تدعو إلى ألا يُستعان على فَهْم القرآن إلا بالقرآن مُطرحين السنة أطراحا . حتى لقد ذهب بهم فرط غلوهم إلى أن ينكروا السنة المتواترة ، فأنكروا فرائض الصلاة ، وأدعو أن الصلاة الثابتة بالقرآن هي ركعتان ، وألَّفوا هنا وفي باكستان جماعة تلم شملهم ويرتكز فيها إثمهم ، وكانت جماعتهم هنا تؤلف الكتب الطوال ، وتسود الصفحات الكثيرة . ولكن نور الحق طمسهم . وظلام الباطل أخفاهم ، وأصبحنا لا نسمع له لاغية ، بعد أن أهلك الله تعالى كبيرهم . وأخذه إلى جهنم وبئس المصير . وأن هذه الفئة الآثمة كانت ممن يعاضد الطعن في السنة جملة وتفصيلا ، ويختارون أبا هريرة ذريعة للطعن يتقولون عليه الأقاويل ، ويُثيرون حوله الاتهام . - 2 – وأن الطعن في السنة هو السبيل الوحيد الذي ظن الكائدون للإسلام أنهم يستطيعون أن يأتوه من جانبه وأنها الثغرة التي يستطيعون أن ينفذوا منها إلى هدمه ، ولكن سهامهم ترتد دائما إلى نحورهم ، فما ظنوه سببًا للهدم قد التوى عليهم فهدمهم . إن الديانات السماوية التي سبقت الإسلام استطاع الهدامون أن يأتوها من كتبها التي بينتها ، ومن أصولها التي قامت عليها ، فحرَّفوا الكِلمَ عن مواضعه ، ونسوا حظًّا من هذه الكتب ، فلمَّا حاول الهدَّامون ذلك وجدوا القرآن الكريم كالعلم الشامخ تتحطم رُءُوسهم حوله ، ولا ينالون منه مأربًا ، ولا يصلون فيه إلى غاية ؛ لأن الله تعالى حفظه باقيًا خالدًا إلى يوم القيامة كما قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ولأن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه ، وأقرأه أصحابه ثم اقرءوه من بعدهم ، حتى صار متواترًا في هذا الوجود ، لا بألفاظه فقط ، بل بطريق النطق بحروفه ، فإنها هي الأخرى متواترة تواتر ألفاظه ، وهو في نسق بياني لا يحاكى ، ولا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله ، وأنه يعلو ، ولا يعلى عليه { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد [ ٍفصلت : 42 ] . - 3 – ومنذ أخذ الإسلام يدخلُ فيه الناس أفواجًا أفواجًا ، ويصل إلى القلوب بنوره وهدايته ، وأهل الزيغ يُريدون أن يهدموه ، ولم يجدوا إلا السنة موضعًا لهدمهم ، ليتجرد القرآن عن بيانه ، وبهذا الطريق يصلون إلى الإسلام ليهدموه ، وإلى القرآن ليجف ، ولا يكون هدى وشفاء للمؤمنين . ولقد ذكر لنا الشافعي في رسالة الأصول ، ورسالة جماع العلم أنه التقي بالبصرة – عش الفرق المنحرفة – من ينكر السنة كلها ولا يعترف إلا بالقرآن مصدرًا مبينًا ، وقد جادلهم بالتي هي أحسن حتى أفهمهم بظاهر الحال ، وإن كانوا في طوية أنفسهم لم ينخلعوا عن تفكيرهم ، لأنهم لم يكونوا طلاب حق ، فيقنعهم الدليل ، أو يسكتوا عند العجز عن الحاجة . بل إنهم طلاب الباطل ، وللباطل لجَاجَة ، ولما أفحمهم الشافعي في ادّعائهم أنه لا حجة إلا القرآن جاءوا من ناحية أخرى ، وهي إنكار الحديث غير المتواتر ، أو ما يسميه الشافعي حديث الخاصة ، أو خبر الخاصة والنتيجة من الإنكار الثاني هي عين النتيجة من الإنكار الأول ؛ لأن الأحاديث التي ثبت تواترها عددها محدود فيما عدا أصول الفرائض ، والكثرة الكاثرة من الأحاديث النبوية أخبار آحاد ، فإذا أنكروها فقد وصلوا إلى ما ابتغوا من الهدم مستترين بستار الاستيثاق من النقلِ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أن الناقلين ثقات ، لا تأتي الريبة إليهم ، ولا يشكَ في نَقْلِهم ، وقد جادلهم الشافعي في هذا الإنكار ، كما جادلهم في الأول ، وأفهمهم فيه كما أفهمهم في الأول ، فسكتوا ولكن على نية الهجوم من جانب آخر ، فهم خصوم متربصون ، وليسوا طلاب حق مهتدين ، ولنذرهم في ريبهم يترددون ، ومهما يكن حالهم بعد مجادلة الشافعي لهم ، فإنهم قد طووا في لجة التاريخ ، وأخذتهم غمراته . وصاروا نسيا منسيا . -4 – ولقد كان ينتأ في التاريخ من وقت بعد آخر ، رءوس كرءوس الشيطان تقول مثل ذلك الإفك ، ولكن كانت صيحاتهم تذهب في واد ، فلا يحس بها أحد ؛ لأنهم لم يكونوا في لجاجة الأولين ، وكانت السنة النبوية قد دُونت في صحاحها ونقحت رواياتها ، ودرست دراية ورواية ، ونقدت كما ينقد الصيرفي دراهمه ، ولا تعلم الإنسانية عناية بدراسة المأثور من القول كما عنى بدراسة السنة . ولكن قوى الهدم لا تزال متربصة مترقبة لا تألو إلا خبالا ، وقد تجمعت تلك القوى في طائفتين : إحداهما : طائفة إسلامية تؤمن بالله على حرف تخالف في منهاجها طريقة جمهور المسلمين ، أو كما تسميهم العامة ، تنكر السنة التي يعرفها الجمهور إلا ما يتفق مع ما عندهم ، وهؤلاء أخذوا يهاجمون السنة المروية رواية صحيحة عند جمهور المسلمين ، واتخذوا من أبي هريرة والطعن فيه سبيلاً لهدم غيرهم حتى إن بعضهم ليقول في أحد كتبه ، حسبنا أبو هريرة لترد السنة كلها . والطائفة الثانية : طائفة لا تؤمن بالله ولا برسوله ، وهم الذين يسمون في الدراسات العلمية المستشرقين ، وأولئك يدرسون الإسلام ليثيروا الشك حول حقائقه وينقلوا إلى أقوامهم ما يضعف شأن الإسلام ويوهنه ويطمس نورَه ، ويطفئ ما ينير السبيل أمام معرفته . وقد التقت الطائفتان على تخير بعض شخصيات الرواة ، وتجعلها موضع هجومهم ، وهدفهم المنشود لإطفاء نور الإسلام ، فنالوا من الشخصيات البارزة من علماء المسلمين . وتناولوا نتائج تفكيرهم بالتوهين ، وإنكار مزاياها ، ولم يسلم منهم عالم ، ولا تكاد تجدهم يثنون على عالم إسلامي ثناءً مطلقاً ، ولنترك الطائفة المسلمة ولنتجه إلى الأخرى . فنقول : لقد أراد الأوربيون نقض الإسلام من قواعده ، فاختصوا السنة بالنقض والإنكار ، فمنهم قومٌ أشاعوا القالةَ على السنة مطلقًا ، وأنكروها إنكارًا مطلقًا ، حتى لقد قال طاغوت منهم يوليه أمثالَه من المفسدين ثقةً مطلقةً ؛ لأنه يأتيهم بما يَشتهُونَ ، ويَبتغون ، ولا يبغون إلا فسادًا ، قال : إن السنة قد اصطنعت في القرن الثالث الهجري ، وتلك فرية افتروها ، فالسنة كانت معلومة يتلقاها العلماء . ولما أخذت تدونُ كانت مذكرات ، فدونت السنة في أول القرن الثاني الهجري في موسوعات ، وكانت من قبل تدون في مذكرات كانت المذكرات بها ، في عصر الصحابة ، ثم كثرت في عصر التابعين ، ثم دونت في موسوعات في عصر الأئمة المجتهدين ومع هذا التاريخ الثابت ، والحقَ الناصع ، والبرهان الساطع لجوا في افترائِهم ، فلتذرهم في طغيانهم يعمهون . وجُلّهم قد اتخذوا أبا هريرة قنيصة لهم لينالوا الإسلام من جانبه ، فرموه بأنه كذب على رسول الله تعالى وافترى ، وأنه قال ما لم يسمع ، ولم يهمهم أن يبقوا في تناقض ، كيف يدعون اصطناع السنة في القرن الثالث وينسبون الاصطناع إلى صحابي كان في القرن الأول ، ولكن التناقض لا يضيرهم مادام هدفهم الهدم والتشكيك ، وإنارة الغبار ، وتعكير الجو العلمي ، فيخطبون باليمين وبالشمال مادام الهدم مقصدهم والتشكيك غايتهم ، وطمس معالم الحق مبتغاهم ، ومادام الذين يستمعون إليهم من أقوامهم يتبعون أهداءهم . وليس العجب من أن يقولوا ، ويعظموا الافتراء ، وإنما العجب أن يسموا ذلك منهاجًا علميا . وتدقيقًا في البحث والأعجب من كل هذا أن يجيء كتاب مسلمون ، فيتبعوهم على غير علم ، ويحسبوا أنهم يختارون منهاجًا أقوم ، وسبيلا أهدى ، وما يتبعون إلا الضلال : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } [ الأنعام : 116 ] و إن أكثرهم لا يعقلون . - 5 – وماذا قالوا عن أبي هريرة الذي نَصَبوا له أدوات الهدم ، وصوَّبوا إليه السهام ؟ قالوا :كيف يروي تلك المجموعات الكبرى من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو لم يصاحبه إلا أربع سنوات ؟ ! وكيف يؤخذ بها مع هذا الريبة ونقول لهم : إن مصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم أربع سنوات ليست زمنا قصيرا ، بل هي زمن طويل يكفي لرواية هذه المجموعات وأكثر منها ، وبين أيدينا رواية كتب فقه الشافعي ، لقد رواها الزعفراني عنه في بغداد في مدة دون هذه المدة ، ورواها عنه في مصر الربيع بن سليمان المرادي في مدة تقارب هذه المدة ، وهي مجموعات ضخمة ، تتناولها مجلدات ضخام . ولو علم أولئك الذين لا يتكلمون عن علم أن هذه السنوات الأربع التي استغرقت الجزء الأخير من حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت فيها الأحكام التكليفية العملية ، ففيها نظمت العلاقات في المعاملات الدولية ، والعلاقات الاجتماعية ، والنظم المالية ، وتقررت كل مبادئ الإسلام ، فمن بعد غزوة خيبر استقرت الدولة الإسلامية ، واتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيان النظم الإسلامية في الأسرة ، والمجتمعات صغيرها وكبيرها ، ببيان ما اشتمل عليه كتاب الله تعالى منها ، وتبليغ رسالة ربه فيها من غير وهن ولا تقصير ، فهذه السنوات الأربع هي خير سنوات الإسلام في بناء الدولة الإسلامية بالأحكام والقوانين . وأن أبا هريرة رضي الله عنه ، قد اختص من بين الصحابة بدوام الصحبة والملازمة ، فقد كان كبراؤهم مع قيامهم بحق الجهاد ، وعلمهم الكامل بحقائق الإسلام التي تلقوها عن الرسول : كان لهم أموال تشغلهم وأسر يرعونها ، أما هو فقد كان من أهل الصفة الذين التزموا المسجد ليلهم ونهارهم ، واختص هو من بينهم بأنه كان في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن ثمة ما يسوغ الشك في تلقيه أحاديث الأحكام كلها أو جلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان له ملازمًا وفيه ذكاء ، وكانت الملازمة في وقتها ، إذ نزلت في هذه السنين الأربع أحكام المعاملات والأسرة كما نوهنا . 6 – وإذا كان المغرضون والمفسدون والعابثون والمُزورون ، والمستأجرون قد نالوا من أبي هريرة ، فقد تصدى لهم كتاب ( أبو هريرة راوية الإسلام ) وتتبع ما أثاروه من شبهات حول شخصه وعلمه فأزالها وجلى صفحة أبي هريرة نقية ظاهرة بعيدة عن كل ريب . لقد تتبع حياته فقدم صفحة طيبة من سيرة رجل أمتاز بالطيبة والتقوى ، أسلم عندما بلغه نبأ الدعوة المحمدية والنبي صلى الله عليه وسلم لم يهاجر ، ولكنه لم يتمكن من الصحبة إلا قبل وفاة النبي عليه السلام بأربع سنين ، ثم بين الكتاب حياته مع النبي وقربه منه . ثم بين أمرًا جديرًا بالاعتبار والنظر ، وهو أنه كان حريصًا على أن يستحفظ على كل كلمة يقولها النبي عليه السلام ، ويراجعها بعد أن يغادر مجلسه ، فما كان أبو هريرة يكتفي بالسماع ، بل كان يراجع حديثه عليه الصلاة والسلام ويكرره في المسجد وفي الطريق وفي بيته ليلا ونهارًا ... قال أبو هريرة (( جزأت الليل ثلاثة : ثلثًا أُصلي ، وثلثًا أنامُ ، وثلثًا أذْكُرُ فيه حديثَ رسول الله )) [ ص 58 من الكتاب نقلا عن ابن سعد ] . ولقد قالوا : إن عمر نهاه عن كثرة التحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك دليل اتهامه ، وهذا كلام لا يدلُّ على ما يريدون ، إنه لا تلازم بين النهي والشك ، وذلك لأن عمر رضي الله عنه كان يدَخر دائمًا أحاديث رسول الله ليؤخذ بها فيما يعرض للناس ، ولا تُروى لذاتها ، بل تُروَى لأنها علاجٌ لحالِ قائمةٍ ثابتة ، فإذا وجدوا علاجها في الكتاب أخذوا به ، وإلا التمسوا سنة تعالج الأمر ، وأبو هريرة كان يروي الحديث ، وكأنه يتعبد بروايته ، ولقد قام الدليل على أنه لم يكن متهما عند أمير المؤمنين عمر ، بدليل أنه وَلَّاه ولاية المال في بعض النواحي ، ولما عزله وحاسبه تبينت نزاهته ، فأراد أن يوليه للمرة الثانية فأبى . وقال : إني أخشى الله مقلبَ القلوبِ . ولقد بيَّن الكتاب الذي تقدمه قبولَ الصحابة لأحاديثه عن رسول الله ، ولم يَرد عمر حديثًا له ، ولقد سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : أتنكرين مما أقولُ شيئًا ، فلم تُنْكِر ما رواه . لكن قالت لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث سردكم [ الكتاب ص 142 ] . هذا هو الأمر الذي أنكره الإمام عمر رضي الله عنه ، وهو سرد الأحاديث سردًا ، بأن يجلس وحوله ناس ، فيقول : قال الرسول ويتبع ذلك بروايات أحاديث مختلفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد يقولُ عدةَ أحاديث قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع مختلفة الأزمان ، فيقولها هو في وقت واحد ، وقد كان يتعبد بذلك ، وعمر ما كان يروي الرواية إلا عند الحاجة إليها ، وهدفه هو الفتوى والعمل ، أما أبو هريرة فهو يريد الرواية لذات الرواية ، مجتهدًا في أنه يتلقى الأخلاف عنه أكثر ما يحفظ ، وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على نقل مقاله ينقله السامع كما وعى ، فرب حامل فقه لا فقه له ، ورب حامل فقه إلى أفقه منه ، كما روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولحرص أبي هريرة على أن ينقل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأخلاف ، أملى حمل ما في وعائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تلميذه همام بن منبه ، فجمع ذلك التلميذ الوفي ما أملاه عليه أستاذه في صحيفة سماها (( الصحيفة الصحيحة )) . ولقد وصلتنا هذه الصحيفة كاملةُ كما رواها ودونها همام عن أبي هريرة رضي الله عنه ، فقد عثر على هذه الصحيفة الدكتور المحقق محمد حميد الله في مخطوطتين متماثلتين في دمشق وبرلين ، ووجدت لهذه الصحيفة نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية . [ الكتاب ص 142 ] وقد أخذ الإمام أحمد عددًا كبيرًا من هذه الصحيفة ووضعها في كتابه (( في مسند أبي هريرة )) . -7- ولو اتجهنا إلى ما رواه الصحابيُّ الجليل أبو هريرة ، ودرسناه دراسة ذاتية لوجدناه صادقًا كل الصدق في نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يدفع كل ريبة يثيرها أعداء الحق والصدق . وذلك أننا لا نكادُ نجدُ حديثًا يشذُّ عن الحقائقِ الإسلامية ، بل هو يؤيدها ويزكيها ، وأنَّ أبا هريرة لا ينفردُ برواية حديث ويكون فيه ما يخالفُ القرآن الكريم ، وأن الروايات الأخرى عن طريق بعض الصحابة الآخرين كعبد الله بن عمرو بن العاص تتلاقى في الصدق مع رواية أبي هريرة . وحسبك أن تعلم أنه روى حديثًا أجمع الرواة من الصحابة على صدقه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (( من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعدهُ من النار )) حتى لقد قال علماءُ الحديث : (( إن هذا الحديث متواترٌ )) ، ولكن مَنْ لا دين لهم ولا خُلق يتَّهمون رَاوي هذا الحديث بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان ينوى أن يكذب على الرسول الكريم ما روى هذا الحديث الشريف . - 8- لقد اتهم المفترون أبا هريرة بالجهل ، ولو قرءوا ما رواه لرأوا أن ما يدعونه عليه من جهل يأتي على دعواهم بالنقض ، أو ينقض اقتراءهم ، ويرد عليهم كذبهم ، فإن المرويات التي رواها فيها من دقائق الفكر ، ما لا يمكن أن يخترعه جاهل ، وهي فوق على العالم ، إلا أن يُوْحَى إليه . ومن ذلك مثلاً . ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( سَبعةٌ يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عدل ، وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضَت عيناه )) . وما رواه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال : (( من نفس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على مُعسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلمًا سترهُ الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقا إلى الجنة ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه )) . ومن ذلك أيضًا : ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال : (( قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، أي الصدقة أفضل ؟ قال : (( أن تصدق وأنت صحيح حريصٌ تأمل البقاء وتخشى الفقر ، ولا تمهل ، حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت لفلان كذا ، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان ... )) [ هذه الأحاديث أوردها صاحب الكتاب في صفحات 178 وما يليها وروى الكثير منها ]. هذه أحاديث رواها ذلك الصحابي المفترى عليه ، وافتح أي كتاب من صحيح السنة فستجد من رواية أبي هريرة الشيء الكثير الذي تشم منه العبقة النبوية ، والحكمة المحمدية مما لا يمكن أن يكون من أقوال رجل لا يُوحى إليه مهما يكن علمه . فإن كان أبو هريرة جاهلاً كما يدعون فكيف يتصور أنه اخترع ذلك ؟ إنها دعوى باطلةٌ ، وهي دعواه الافتراء على رسول ، وإن ادعاء الجهل على أبي هريرة يؤدي إلى عكس ما يريدون ، وينقض ما يفترون ولكن الله تعالى ينصر الحق ، ويأتي بدليله من أقوالِ المبطلين . وبعد : فإن أبا هريرة قد حمل لنا مع صحب كرام سُنة رسول الله ، وتبليغَ الرسول لرسالة ربه ، أثابهم الله تعالى عنا وعن الإسلام خيرًا ، ونفعنا بعلم النبوة . * * *