واقعة سمعناها في المجلس الأعلي للثقافة من الزميل د. علي رضوان وجدت صدي في نفسي عندما غزا بونابرت ألمانيا وسقطت هذه الأمة الكبيرة جاءوا بثلاثة من رجالات المانيا. أشهر عالم طبيعة ألماني ألكسندر فون هامبولت الذي سميت جماعة برلين علي اسمه, وشاعر ألمانيا العظيم جوتة والبارون فون بوستون الدبلوماسي المخضرم الذي كان سفيرا لألمانيا في إيطاليا ووضعوا الثلاثة في غرفة وطلبوا منهم روشتة علاج لإنقاذ الشعب الألماني من محنته, جاءت الروشتة في كلمات سبع: وعلي الشباب الألماني أن يعرف تاريخ بلاده تلك هي النصيحة التي قدمها رجال عظام لبناء المستقبل. حقا ان من يعرف تاريخ بلاده ويعتز به يحافظ علي وطنه, يسانده ويتمني الخير له ولكل من فيه يدعم تماسكه ويشجع كل ما يعود بالخير علي أهله في تعبير رائع واقعي عن المواطنة في معناها الحقيقي. ومن يقرأ مجلد وصف مصر وكتب زاهي حواس وأقوال أباطرة الرومان وأقوال الإسكندر عنها وما قاله عمرو بن العاص فيها, ومن يعرف ما جاء بالكتب المقدسة حولها, ومن يفهم كتابات رفاعة الطهطاوي وجمال حمدان ويونان لبيب وجابر عصفور وصبحي وحيده وحسين مؤنس....ويعرف تاريخها لايسعه إلا ان يزداد عشقه لمصر وحرصه عليها.لقد عانت مصر علي مر العصور وكانت مطمعا للغزاة والفاتحين دخلتها جحافل الفرس والإغريق والروم والعرب واحتلتها قوي فرنسية وانجليزية لكنها ظلت مصر خرجوا جميعا وظل شعبها مصريا, ومصر تعاني اليوم من مشكلات متعددة اقتصادية وسياسية سوف يتجاوزها شعبها الأصيل لكن أشد المشكلات خطرا عليها تكمن في ذلك المرض الذي يطلق عليه فتنة طائفية أو احتقان طائفي أو صدام عقائدي وأيا كان اسمه فهو وباء شديد الخطورة ينخر في بنيان المجتمع وعقول أبنائه ينتشر بسرعة مخيفة يصيب المجتمع بالضعف والوهن والانقسام. إن المتعصبين والمتطرفين والإرهابيين لايعرفون مصر ومجدها وحقائق تاريخها ووحدة شعبها ولو استوعبنا تاريخ مصر وتراثها سوف يقوي ارتباطنا بها وندرك ان ما يجمعنا أكثر صلابة من محاولات التفرقة. ومن بين كثير, كثير جدا من تاريخ مصر أتناول اليوم أحد جوانبه لارتباطه بما يجري حولنا من أحداث تؤلمنا جميعا. *** دخلت المسيحية مصر في أيامها الأولي جاء بها مرقص الرسول لم يكن معه جيش أو عتاد أو مال لكنه جاء يحمل رسالة نبيلة تدعو للمساواة والإخاء وتحرير الإنسان وعبادة الإله الواحد دخلت مصر والمصريون اقباطا استنادا إلي اسم مصر باليونانيةAEGYPTUS أي مصر لم يكن لكلمة قبطي مدلول ديني بل وطني.. دخل المصريون أوالأقباط إلي المسيحية وأصبحت الكنيسة المصرية الوطنية أول كنائس العالم سبقت بذلك كنيسة روما التي أسسها القديس بطرس, حافظت الكنيسة المصرية علي استقلالها ووطنيتها ورفضت ان تكون تابعا لأي كنيسة أخري وتحملت في سبيل ذلك اضطهاد البيزنطيين والرومان الذين ناصبوها العداء سواء قبل ان تتحول إمبراطوريتهم إلي المسيحية أو بعدها. الأقباط إذن مصريون والمسيحيون بها جزء أصيل منها ليسوا أقلية وافدة أو مجموعة من المهاجرين قصدوها واستقروا بها وطنيتهم غير مشكوك فيها, يعيشون علي أرضهم تحت مظلة تاريخهم لهم جميع حقوق المواطنة وعليهم التزاماتها ولا يجوز النظر إليهم علي أنهم دخلاء. أو مختلفون أي نجاح يتحقق لهم أو بهم يعتبر نجاحا لمصر. وأي مصري يتصور ان المسيحي متطفل عليه ان يدين له بالامتنان إذ منحه فرص النجاح والثراء لايعرف تاريخ بلاده ولا صحيح عقيدته. *** وجاء الإسلام مصر أيضا في أولي سنواته.. عندما خرج عمرو بن العاص في غزوته لمنطقة الشام وكان من اشد المعجبين بمصر عبر عن إعجابه بها في إطراء يملأ صفحات. طلب من عمر بن الخطاب أن يأذن له باستمرار مسيرته لدخول مصر لكن الخليفة لم يوافق خوفا علي الجيش من الإرهاق بعد إلحاح وافق ان يفكر في الأمر ويبعث إليه رسالة بقراره, تحرك عمرو بن العاص تجاه مصر وعندما وصلته رسالة الخليفة لم يفتحها خوفا من ان يكون بها ما يدعو للعودة, والتاريخ معروف بعد ست معارك آخرها معركة الاسكندرية استقر له المقام في مصر وألقي خطبته الشهيرة التي بها يطمئن أهل مصر علي نفوسهم وأموالهم ودينهم. عاد المقوقس زعيم القبط من مخبأه وسمح بن العاص ببناء الكنائس والأديرة ويذكر التاريخ ان المصريين الأقباط لم يساندوا الرومان في حربهم ضد العرب بل أن أقباط مصر رحبوا بدخول العرب لما سمعوا عما بعقيدتهم من رحمة وتسامح جاء عمرو بن العاص لمصر بالإسلام ومبادئه الكريمة لكن لم يأت معه بشعب مختلف كان معه اربعة الاف جندي انضم اليه اربعة آلاف اخري.. اعتنق اهل مصر الإسلام بعضهم عن اقتناع وبعضهم تحاشيا لدفع الجزية ظلوا جميعا مصريين يتكلمون لغة البلاد القبطية إلي أن أمر الخليفة ان تكون العربية لغة البلاد استغرق ذلك200 سنة اخري واقتصرت اللغة القبطية علي صلوات الكنائس. زحفت لمصر بعض القبائل العربية واستقرت قلة لم تغير في شكل وتركيبة الشعب ولم تمس مصريته هذا يعني ان المسلمين في مصر ليسوا مجموعة وافدة أو أغلبية دخيلة أو متطفلة ولا هم غزاة من جنس آخر والمصري الذي يتصوران المسلم مستعمر دخيل عليه ان يدين له بالامتنان إذ سمح له بدخول مصر لايعرف تاريخ بلاده ولا صحيح عقيدته. هذه الحقائق واستيعابها لابد ان تكون دائما في الإذهان والوجدان لتصبح درعا واقيا يحمي المصريين جميعا من محاولات التفرقة التي تسعي الي الانقسام والصراع.. صراع الكل ضحيته الكل فيه خاسر ولن يستفيد منه إلا أعداء مصر. هذا هو التاريخ والتاريخ لا يمكن تغييره أو تعديله والتاريخ بدأ في مصر وبمصر ومن مصر وأضاء منها نور المعرفة والعلم والإيمان قبل التاريخ ذلك التاريخ.. يؤكد ان المسيحي والمسلم كل منهما مصري أصيل له ان يعتز بمصريته لكن ليس له ان ينكرها علي غيره. كلهم مصريون علي قدم المساواة واستيعاب هذه الحقيقة هو بداية الطريق الصحيح للمواطنة قيمة وسلوكا. المزيد من مقالات د. ليلي تكلا