تحكي صفحات التاريخ القديم ان مصر عرفت التخطيط العلمي السليم قبل آلاف السنين, وأنها وظفته لإيجاد حلول لمشكلاتها وأزماتها. وعندما كانت البشرية غارقة في الجهل والتخلف كانت مصر علي دراية بوضع الاهداف وحصر الموارد وتحديد الفترة الزمنية اللازمة لتحقيق الاهداف وهي عناصر ثلاثة تحتويها فكرة التخطيط. علي ارض مصر قدم يوسف الصديق عليه السلام بيانا عمليا علي ذلك عندما وضع خطة متكاملة الابعاد لتقي الناس شبح المجاعة. تعاقبت السنون ومرت الايام واذا بنا نعتمد علي غيرنا في سد احتياجاتنا من السلع الغذائية واهمها القمح دون النظر إلي انه سلعة استراتيجية ويتوجب انتاجها وتحقيق الاكتفاء الذاتي منها حتي ولو كانت تكلفة الانتاج اعلي بكثير من تكلفة الاستيراد. وبفعل اسباب كثيرة واجهنا ظواهر سلبية متعددة ادت الي هذا الوضع الذي اصبحنا فيه نعتمد علي غيرنا في سد احتياجاتنا من الغذاء ومن اهم هذه الظواهر هجرة الفلاح المصري الذي كان اوثق الناس بارضه لهذه الارض وتخليه عنها وعلي انقاض زروعها وثمارها قامت أبراج شاهقة وبنايات عالية. و تجريف التربة الزراعية طمعا في ثراء سريع علي حساب خصوبتها وقدرتها علي الانتاج فأصبحت الارض عاجزة عن الوفاء باحتياجاتنا ان قدر لها ان تستخدم في الزراعة. والاتجاه الي انتاج محاصيل رغم أهميتها الا انها ليست محاصيل استراتيجية كالفواكه( الفراولة والموالح) علي حساب الحبوب. فضلا عن تحول القرية المصرية مع مرور الوقت الي قرية مستهلكة وليست منتجة وتحول ابنائها الي سائقي سيارات وموظفين, واصبح من المألوف الآن ان نجد في الطوابير التي تقف امام اكشاك بيع الخبز المدعوم قرويين ينتظرون الحصول علي رغيف الخبز مع انه من المفترض انهم منتجوه! وتراجع الدور الحكومي الذي كانت تقوم به وزارة الزراعة في تحديد المساحات المزروعة قمحا وإرشاد المزارعين وتوجيههم الي انسب الاوقات للزراعة والحصاد وافضل البذور وكيفية مقاومة الآفات الزراعية. ومع بداية عصر الانفتاح الاقتصادي سادت مفاهيم سلبية كالفهلوة والشطارة والاثراء السريع وهي مفاهيم لاتستقيم معها المفاهيم المتعلقة بعالم الزراعة كالجد والاجتهاد وإتقان العمل والحفاظ علي الوقت بل وتتعارض معها وهو ما انعكس سلبا علي المجتمع الريفي الذي تأثر بهذه المفاهيم وبدأت تظهر سلوكيات تتماشي مع المفاهيم السلبية الجديدة. ولعل إلقاء نظرة علي السياسة الحكومية المصرية لمواجهة هذا الوضع يؤكد لنا ان المواجهة مازالت في اتجاه الاستيراد وطبقا لمعطيات الوضع الحالي اضيفت عبارة تنويع مصادر الاستيراد من فرنسا والولايات المتحدةالامريكية واستراليا وغيرها وكأن مصر بنيلها وخصوبة ارضها ووفرة العمالة الزراعية بها عاجزة عن توفير الاكتفاء الذاتي من القمح واطرح هنا مقترحات عملية وآليات أراها فاعلة وكفيلة بتجنيب مصر التعرض لأزمات في مجال توفير القمح: أولا: أصبح التدخل الحكومي امرا ضروريا بحيث تحدد وزارة الزراعة مساحة الاراضي التي تزرع قمحا سنويا علي ان يؤخذ في الاعتبار زيادتها سنة بعد اخري لمواكبة الزيادة في احتياجات المواطنين, بحيث تسير في اتجاه مواز للاستيراد حتي نصل يوما ما ولابد وان يكون قريبا الي تقليص حجم الاستيراد حتي يتحقق الاكتفاء الذاتي. ثانيا: ان تقوم مراكز البحوث الزراعية بدورها في البحث العلمي, وينبغي ان ترصد لها الميزانيات الملائمة بحيث يعكف الباحثون علي بحوثهم في مجالات استنباط اجود الانواع للزراعة, وتحديد أنسب طرق الري, وانسب طرق مكافحة الآفات وهكذا. اتباع سياسة منح الحوافز للمزارعين, فبنوك التسليف الزراعي يجب دعمها والجوائز يجب توزيعها علي المزارعين الذين يحققون الانتاج الاعلي للفدان والذي يلتقي مع المواصفات العلمية المطلوبة. ثالثا: حفاظا علي ثروة مصر المائية ينبغي علي وزارة الزراعة توجيه المزارعين الي ضرورة تجنب اسلوب الري بالغمر الذي يهدر كميات كثيرة من المياه واستخدام اساليب الري التي تحفظ المياه وتصونها من العبث والتبديد كالري بالتنقيط كما ينبغي ان تساعد وزارة الزراعة الفلاحين علي امتلاك تكنولوجيا اساليب الري الحديثة والمساهمة معهم بجزء من التكاليف. رابعا: ان يعود للارشاد الزراعي دوره الذي كان سائدا في ستينيات القرن الماضي بحيث يكون بيت خبرة للمجتمع الزراعي فيقوم بالاجابة علي تساؤلات الفلاحين واستفساراتهم والتعامل علميا مع المشكلات الزراعية. لما كان للدين دوره في تحديد استجابات الناس للقضايا والموضوعات المختلفة فينبغي ان تقوم المؤسسات الدينية بدورها في هذا الصدد من خلال قنوات الاتصال الجماهيري والمباشر لاسيما ان القيم الدينية تدعو إلي اعمار الكون والاهتمام بألوان النشاط البشري كلها من زراعة وصناعة وتجارة, وتدعو كذلك الي احياء الارض الموات واستغلالها وإلي اتقان العمل واجادته والاعتماد علي الذات وتحقيق الاكتفاء الذاتي. خامسا: لما كانت قضية توفير الغذاء قضية المجتمع كله فلابد ان يكون للاعلام دوره في هذا الصدد واري ان التليفزيون الذي تعددت قنواته وعرف التخصص الطريق الي مضامينه مرشح للقيام بدور في هذا المجال, واري ان الدراما بحكم انها اكثر المضامين مشاهدة مؤهلة لخدمة هذا الاتجاه من حيث تسليط الاضواء من جديد علي حياة المجتمع الزراعي وقيمه الداعية الي الاجادة والاتقان وبث روح التحدي وقوة الارادة.