وفد قطري يتوجه إلى القاهرة لاستئناف المفاوضات بشأن اتفاق هدنة في غزة    شبورة مائية وأمطار خفيفة.. الأرصاد تكشف أبرز الظواهر الجوية لحالة الطقس اليوم الثلاثاء 7 مايو 2024    ياسمين عبد العزيز تكشف عن سبب طلاقها من أحمد العوضي    3 شهداء في قصف إسرائيلي استهدف منزلًا لعائلة "الدربي" غرب مدينة رفح    ضابط شرطة.. ياسمين عبد العزيز تكشف حلم طفولتها وعلاقته بفيلم «أبو شنب»    صدقي صخر: تعرضت لصدمات في حياتي خلتني أروح لدكتور نفسي    ميلكا لوبيسكا دا سيلفا: بعد خسارة الدوري والكأس أصبح لدينا حماس أكبر للتتويج ببطولة إفريقيا    خبير لوائح: أخشي أن يكون لدى محامي فيتوريا أوراق رسمية بعدم أحقيته في الشرط الجزائي    شبانة ينتقد اتحاد الكرة بسبب استمرار الأزمات    سعر الحديد والأسمنت اليوم في مصر الثلاثاء 7-5-2024 بعد الانخفاض الأخير    مصر تستعد لتجميع سيارات هيونداي النترا AD الأسبوع المقبل    وصول بعض المصابين لمستشفى الكويت جراء استهداف الاحتلال حي التنور شرق رفح    وسائل إعلام أمريكية: القبض على جندي أمريكي في روسيا بتهمة السرقة    رامي صبري يحيي واحدة من أقوى حفلاته في العبور بمناسبة شم النسيم (صور)    كاسونجو يتقدم بشكوى ضد الزمالك.. ما حقيقة الأمر؟    العاهل الأردني: الهجوم الإسرائيلي على رفح يهدد بالتسبب في مجزرة جديدة    كريم شحاتة: كثرة النجوم وراء عدم التوفيق في البنك الأهلي    صدقي صخر يكشف مواصفات فتاة أحلامه: نفسي يبقى عندي عيلة    أمين البحوث الإسلامية: أهل الإيمان محصنون ضد أى دعوة    وكيل صحة قنا يجري جولة موسعة للتأكد من توافر الدم وأمصال التسمم    لا تصالح.. أسرة ضحية عصام صاصا: «عاوزين حقنا بالقانون» (فيديو)    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الثلاثاء 7 مايو بالصاغة    مصرع سائق «تروسكيل» في تصادم مع «تريلا» ب الصف    صندوق إعانات الطوارئ للعمال تعلن أهم ملفاتها في «الجمهورية الجديدة»    عملت عملية عشان أخلف من العوضي| ياسمين عبد العزيز تفجر مفاجأة.. شاهد    صليت استخارة.. ياسمين عبد العزيز تكشف عن نيتها في الرجوع للعوضي |شاهد    التصالح في البناء.. اليوم بدء استلام أوراق المواطنين    النيابة تصرح بدفن 3 جثامين طلاب توفوا غرقا في ترعة بالغربية    مصرع شخص وإصابة 10 آخرين في حادثين منفصلين بإدفو شمال أسوان    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    وفد قطري يتوجه للقاهرة لاستئناف المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وحماس اليوم    الدوري الإنجليزي، مانشستر يونايتد يحقق أكبر عدد هزائم في موسم واحد لأول مرة في تاريخه    مصر للطيران تعلن تخفيض 50% على تذاكر الرحلات الدولية (تفاصيل)    برلماني يطالب بإطلاق مبادرة لتعزيز وعي المصريين بالذكاء الاصطناعي    عاجل - تبادل إطلاق نار بين حماس وإسرائيل قرب بوابة معبر رفح    القومية للأنفاق تبرز رحلة بالقطار الكهربائي إلى محطة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية (فيديو)    "يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 وأجمل عبارات التهنئة بالعيد    العمل العربيَّة: ملتزمون بحق العامل في بيئة عمل آمنة وصحية كحق من حقوق الإنسان    سؤالًا برلمانيًا بشأن عدم إنشاء فرع للنيابة الإدارية بمركز دار السلام    إبراهيم عيسى: لو 30 يونيو اتكرر 30 مرة الشعب هيختار نفس القرار    الأوقاف تعلن افتتاح 21 مسجدا الجمعة القادمة    ب800 جنيه بعد الزيادة.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي الجديدة وكيفية تجديدها من البيت    عملية جراحية في الوجه ل أسامة جلال    فيديوهات متركبة.. ياسمين عبد العزيز تكشف: مشوفتش العوضي في سحور وارحمونا.. فيديو    فرح حبايبك وأصحابك: أروع رسائل التهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك 2024    استبعادات بالجملة وحكم اللقاء.. كل ما تريد معرفته عن مباراة الأهلي والاتحاد السكندري    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل كل قضاء قضيته لنا خيرًا    يوسف الحسيني: إبراهيم العرجاني له دور وطني لا ينسى    في 7 خطوات.. حدد عدد المتصلين بالراوتر We وفودافون    رغم إنشاء مدينة السيسي والاحتفالات باتحاد القبائل… تجديد حبس أهالي سيناء المطالبين بحق العودة    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    بالأسماء، إصابة 16 شخصا في حادث الطريق الصحراوي الغربي بقنا    بعد الفسيخ والرنجة.. 7 مشروبات لتنظيف جسمك من السموم    للحفاظ عليها، نصائح هامة قبل تخزين الملابس الشتوية    كيفية صنع الأرز باللبن.. طريقة سهلة    أستاذ قانون جنائي: ما حدث مع الدكتور حسام موافي مشين    في 6 خطوات.. اعرف كيفية قضاء الصلوات الفائتة    عقوبة التدخل في حياة الآخرين وعدم احترام خصوصيتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات الفريق آول‏ محمد آحمد صادق(1)
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 08 - 2010

كثير هم الذين يكتبون مذكراتهم‏.‏ وكثيرة أيضا الأهداف التي يسعي إليها كل منهم‏.‏ كلهم يعتبرون شهودا علي أحداث شاركوا في صنعها أو اقتربوا منها‏.‏ ولكن شهاداتهم تختلف بتباين مواقعهم‏,‏ وربما أغراضهم‏.‏ ولذلك فإن مهمة قارئ المذكرات لا تقل أهمية عن دور كاتبها‏.‏ فعلي القارئ تقع مهمة التفكير والتأمل والمقارنة‏.‏ وتتيح مذكرات الفريق محمد أحمد صادق‏'‏ سنوات في قلب الصراع‏'‏ لنا أن نتأمل ما حدث في مرحلة كانت فارقة في تاريخ مصر الحديث‏,‏ اجتمعت فيها قضية انتقال السلطة بعد رحيل الرئيس عبدالناصر‏,‏ وقضية تحرير الأرض التي احتلتها إسرائيل عام‏1967,‏ ويؤمن مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع الذي ينشر هذه المذكرات بأن تعدد الشهادات هو الطريق إلي كشف الحقيقة‏,‏ لأن فهم ما حدث بالأمس القريب هو أكثر من ضروري للمستقبل غير البعيد‏.‏
شبكة علاقات مع الألمان
قبل أن يصدر المشير عامر قرارا بإيفاد صادق إلي ألمانيا‏,‏ ملحقا حربيا‏,‏ استفسر ما إذا كان المشير قد اتفق علي هذه الخطوة مع عبد الناصر‏.‏ وهل هي عملية إبعاد له‏.‏ ولما اطمأن‏,‏ يقول صادق‏:'‏ بدأت أستعد للسفر إلي ألمانيا‏,‏ وقررت أن أسافر بالبحر‏,‏ لتتاح لي فرصة قراءة عدد من الكتب في قواعد العمل الدبلوماسي والتاريخ الألماني والنظام السياسي والاقتصادي بعد انهيار الرايخ الثالث وتقسيم ألمانيا إلي دولتين‏.‏
وبدأت في ممارسة مسئولياتي بالعاصمة الألمانية بون عام‏1963,‏ ولم تكن العاصمة أكثر من قرية صغيرة علي شاطئ نهر الراين‏,‏ تقرر اختيارها عاصمة لألمانيا بعد هزيمة النازي‏,‏ لمجرد أنها المدينة التي ولد ونشأ بها مستشار ألمانيا القوي كونراد أديناور‏.‏
وبدأت دورة التعارف التقليدية‏,‏ مع المسئولين العسكريين‏,‏ ومع نظرائي من الملحقين العسكريين الأجانب‏.‏ وبهدوء عملت علي تكوين شبكة من العلاقات مع العسكريين الحاليين والسابقين‏,‏ ومن مختلف الأسلحة‏.‏ ولم أنس الطلبة المصريين‏,‏ وباقي أعضاء الجالية المصرية الذين كانت شكوك السلطات المصرية تحاصرهم تماما‏,‏ وتصنفهم علي أنهم أعداء النظام‏,‏ فلم أبال بنصائح البعض في القاهرة‏,‏ وبنيت جسورا معهم وقررت أن أكتشف مواقفهم بنفسي لا استنادا إلي التقارير والشائعات‏.‏
وكان المصريون في الخارج يبحثون عن الحقائق والمعلومات التي تنقصهم عن أحداث كبيرة‏,‏ مثل الوحدة المصرية السورية والانفصال السوري والتدخل المصري في اليمن وقرارات يوليو الاشتراكية وغيرها من الأحداث الكبري التي تعيشها مصر‏.‏
وقد حرصت علي أن أطلعهم علي الحقائق كما أعرفها‏,‏ لا كما يذكرها ويرددها الإعلام‏,‏ وكان ذلك‏,‏ كما عرفت فيما بعد‏,‏ واحدا من أهم عوامل الثقة التي ربطت بيننا‏.‏ ونهجت نفس النهج مع الألمان‏,‏ ما إن أواجه بسؤال حتي أجيب بما أعرفه من حقائق‏,‏ ولما كنت أعرف ما يجب أن يقال وما لا يجب أن يقال‏,‏ كانت إجاباتي مقنعة للسائل‏.‏ وكان هذا أسلوبي أيضا مع الملحقين العسكريين‏,‏ وكنا جميعا‏,‏ نسعي وراء المعلومات‏..‏ الملحقون العسكريون‏,‏ والقادة‏,‏ وضباط المخابرات الألمان‏,‏ ورجال الأحزاب‏,‏ والصحفيون‏,‏ الكل كان يسعي وراء المعلومات‏.‏
ووجدت طريقي إلي البوند ستاج‏(‏ البرلمان الألماني‏),‏ وكانت جلساته وتقارير لجانه مفيدة جدا‏,‏ وغنية بالمعلومات‏.‏ ولم أتأخر في التعرف علي رجال الصناعة‏,‏ وهم دائما العمود الفقري لألمانيا‏'.‏ ثم تبدأ‏,‏ والرواية لصادق‏,'‏ خيوط اكتشاف صفقة الأسلحة الألمانية لإسرائيل‏,‏ وأنا أقضي أول أجازه قصيرة لي بمصر‏,‏ فقد فوجئت باتصال تليفوني من الفريق سليمان عزت قائد القوات البحرية‏,‏ وخلال المكالمة طلب مني أن نلتقي إما في الاسكندرية أو بالقاهرة‏,‏ فقلت له‏:‏ سأحضر إليك بالاسكندرية‏.‏ وفي مكتبه أخبرني انهم يبنون غواصة جيب‏,‏ ولكن ينقصهم جهاز حدده لي‏,‏ وطلب أن أبحث عن مهندس ألماني متخصص‏,‏ وقال لي إن الألمان يبنون مثل هذا النوع من الغواصات في المنطقة المطلة علي بحر البلطيق‏.‏ وكانت مصر قد انغمست بقوة‏,‏ منذ نهاية الخمسينيات وطوال النصف الأول من الستينيات‏,‏ في مجال الصناعات الحربية‏,‏ مستفيدة من المصانع التي بناها رجل الصناعة المصري أحمد باشا عبود‏,‏ واتجه المسئولون عن هذا النشاط إلي ألمانيا للاستفادة من خبرة العلماء ورجال الصناعة الألمان‏.‏ فعلي سبيل المثال استعانت مصر بقائد المظلات الألماني الشهير سكورزوني‏,‏ صاحب خطة الاستيلاء علي جزيرة كريت خلال الحرب العالمية الثانية بواسطة الطائرات الشراعية‏,‏ وهو الرجل الذي تمكن مع رجاله من اختطاف الزعيم الايطالي موسوليني من القلعة المعزولة الشديدة التحصين التي اعتقلوه بها‏.‏ وقد وضع الرجل خبرته الكبيرة أمام الرجال الذين تحملوا مسئولية إنشاء سلاح المظليين بمصر‏.‏
وبعد عودتي لألمانيا في النصف الثاني من عام‏1963‏ بدأت أسعي لتلبية طلب الفريق سليمان عزت في العثور علي خبير ألماني يمكنه أن يقود فريق العمل المصري لبناء غواصة الجيب‏.‏ هذا النوع صغير الحجم من الغواصات كان يتناسب وخطط القوات البحرية وأهدافها‏.‏ وكانت القوات البحرية قد بدأت في إنشائها سرا‏,‏ منذ فترة ليست بالقصيرة دون أن تحقق النتائج المرجوة‏.‏
ومنذ أن توليت مهام الملحق الحربي في ألمانيا سعيت لتوثيق علاقاتي بالقادة والضباط الألمان خاصة هؤلاء الذين لم يخفوا كراهيتهم لليهود والدولة اليهودية‏.‏ ولحسن الحظ كان من بين هذا الفريق عدد كبير يشغل مقاعد في الصفوف الأولي‏.‏
الحظ يلعب دوره
وتذكرت أن النقيب إيرهارد‏,‏ صديق يعمل بالبحرية الألمانية‏.‏ عندما رأيته‏,‏ للمرة الأولي‏,‏ اكتشفت أنه فقد عينا من عينيه‏,‏ ومع ذلك ما زال يعمل بالقوات البحرية الألمانية‏,‏ ولم تؤثر إصابته علي عمله أو مستقبله‏'.‏
ويوجه صادق دعوة عشاء لصديقه إيرهارد وزوجته‏,‏ مستثمرا فرصة سانحة‏,‏ بعد أن أفرط الضابط في احتساء مشروبه المفضل‏'‏ شنابس‏',‏ وما يقال في النشوة قد سبق التفكير فيه‏,‏ كما يتردد في المثل‏.‏ أي أن إيرهارد كان علي استعداد مسبق للبوح بما عنده لأول عابر سبيل‏.‏ وقد استدرج صادق لسان إيرهارد‏,‏ وعندما وصل‏'‏ إلي مرحلة السكر ظهر وجهه النازي‏,‏ وأفاض في الحديث عن أودلف هتلر والمرحلة النازية‏,‏ وأعلن عن ولائه للنازية‏,‏ مجد ألمانيا والألمان‏,‏ وتركته يتحدث دون مقاطعة ورأيت‏,‏ وهو يواصل الشرب‏,‏ أن أمهد للحديث للوصول إلي الهدف‏,‏ فطلبت منه أن يحدثني عن عالم الغوص والغواصات بصفته خبيرا في هذا المجال‏.‏ فإذا بالقائد الألماني ينتفض غاضبا ويخاطبني بأسلوب حاد قائلا‏:'‏ جنرال صادق يجب أن تعلم أنني عارضت‏,‏ حتي النهاية‏,‏ تزويد إسرائيل بغواصات أو دبابات أو أي أسلحة ألمانية‏,‏ وطرحت حججي أمام القيادة الألمانية‏,‏ وكان أن نجحت في عدم تزويد إسرائيل بالغواصات‏.‏ أما بالنسبة للدبابات والمدافع والسيارات فلم أوفق‏'.‏ وقال إن القوات البحرية ستقوم بتسليم إسرائيل زوارق بحرية سريعة‏,‏ أما عن تسليم باقي الأسلحة الخاصة بالقوات البرية فهو لا يعلم عنها شيئا‏,‏ فمعلوماته مقصورة علي القوات البحرية‏.‏ وقال إنه أبلغ قياداته أن هذه الصفقة العسكرية لإسرائيل صفقة خاسرة وأنه إذا تم تنفيذها وعلم العرب بها فسنخسر العرب جميعا‏.‏
وحتي هذه اللحظة لم أكن أعلم شيئا عن تلك الصفقة‏,‏ وكانت الفرصة متاحة لاستثمارها لمعرفة حقيقة هذه الصفقة التي تحدث عنها‏.‏ ولأن القائد الألماني تصور أنني علي علم سابق بالصفقة أو ببعض تفاصيلها‏,‏ نتيجة للسؤال الذي طرحته عليه كمدخل للحديث فلم يجد ما يمنعه من مواصلة الحديث معي عن التفاصيل‏,‏ وعن أسرار العلاقة بين ألمانيا وإسرائيل‏,‏ والضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة لتزويد إسرائيل بهذه الصفقة‏.‏ وكذلك الضغوط التي تمارسها إسرائيل لابتزاز ألمانيا عسكريا‏,‏ كما تبتزها ماليا واقتصاديا‏,‏ بحجه التكفير عن الهولوكوست‏!‏ ولم ينس القائد الألماني أن يخبرني أن هذه الغواصات يتم بناؤها في هانوفر‏.‏ وحافظت علي نفس الخط‏,‏ وأخبرته أن مصر علي علم تام بالصفقة‏,‏ فأعترف إيرهارد أن ذلك خطأ فادح‏,‏ وقعت فيه الحكومة الألمانية‏.‏
وبعد انصراف الضابط الألماني‏,‏ بدأت أرتب أفكاري والأسلوب الأمثل الذي يجب أن أسلكه في ضوء المعلومات المهمة التي سقطت في يدي الليلة‏.‏ ومبكرا طلبت مدير المخابرات الألمانية لتحديد موعد عاجل‏,‏ لمعلومات هامة وصلتني في رسالة عاجلة من القاهرة‏.‏ فأخبرني بأن لديه موعدا في التاسعة والنصف صباحا‏,‏ فقلت له‏,‏ إنني أريد موعدا قبل ذلك‏.‏ وتحدد الموعد فعلا قبل التاسعة والنصف‏.‏
واستقبلني الرجل في مكتبه‏,‏ فأخبرته أنني تسلمت رسالة من القاهرة تستفسر عن صفقة الأسلحة الألمانية الإسرائيلية التي تضم دبابات ومدافع وسيارات وغواصات وزوارق‏.‏ وصعق مدير المخابرات الألماني من هذه المعلومات‏,‏ وطلب مني محاولة تهدئة الموقف‏,‏ وحاول شرح أبعاد وحقائق هذه القضية الطويلة والمعقدة‏.‏
وفي خطوة تالية طلبت موعدا مع وزير الدفاع الألماني‏.‏ وقلت له‏,‏ إن الرئيس عبد الناصر مستاء للغاية من الموقف الألماني‏,‏ وهو يريد توضيحا‏.‏ بعد أن نقلت له المعلومات التي سبق أن قلتها لمدير المخابرات مضافا إليها المعلومات التي وردت في رد مدير المخابرات ونحن نتحدث معا‏.‏
وأخبرت المسئول أن مصر ستتخذ موقفا تجاه ألمانيا‏,‏ وسيكون ذلك الموقف نتيجة للمعلومات الخاصة بهذه الصفقة وموقف ألمانيا منها‏.‏ وفي مساء نفس اليوم أرسل إلي لودفيج إيرهارد مستشار ألمانيا زوج أخته‏,‏ في محاولة لمساومتي علي تهدئة الموقف ومنع مصر من اتخاذ موقف متشدد‏.‏ ووصل الأمر إلي أن عرض الرجل دفع‏70‏ مليون مارك لمصر‏,‏ مقابل ألا يعلن عبد الناصر قطع العلاقات مع ألمانيا الغربية‏.‏ ومن مكتبي الذي توجهت إليه فورا أرسلت صورة من التقرير الذي كتبته إلي كل من الرئيس عبد الناصر والمشير عامر ووزير الخارجية‏.‏ ولأن التقرير تضمن معلومات دقيقة عن أول صفقة سلاح ألمانية لإسرائيل‏.‏ فقد استخدمت مصر هذه المعلومات للهجوم علي ألمانيا ودورها في مساندة إسرائيل عسكريا‏.‏ وعلي ضوء هذه الحملة الإعلامية والسياسية واسعة النطاق تم تجميد الصفقة‏.‏
صيد ثمين‏:‏
والمهمة الثانية التي أنجزها صادق في ألمانيا كانت‏,‏ علي حد تعبيره‏'‏ الابن الشرعي لعملية إلقاء القبض علي قائد نازي كبير حيث أودعته السلطات الألمانية السجن رهن المحاكمة‏,‏ ومن خلال المحنة التي كان يعيشها‏,‏ قرر أن يرسل صديقته لي‏,‏ لتعقد معي صفقة‏,‏ ففي مقابل تهريبه من السجن‏,‏ سأحصل علي حقائب من الوثائق عن اليهود والصهيونية وإسرائيل‏.‏
ودرست الأمر من كل أبعاده‏,‏ بعد أن تيقنت من صدق الرجل وأن الأمر ليس كمينا للملحق الحربي المصري‏.‏ ورأيت أن الصفقة متكافئة‏,‏ قررت تعيين صديقة القائد سكرتيره بمكتب الملحق الحربي المصري‏,‏ لسهولة الاتصال ونقل المعلومات والتعليمات‏.‏
ووضعت خطة لتهريب القائد وحارسه معا‏,‏ بعد أن وافق الحارس علي الهرب وتهريب القائد‏,‏ وفي مزرعة استأجرتها من أجل خطة التهريب كانت تنتظرهما طائرة صغيرة‏'‏ بروبيلر‏',‏ لتنقلهما إلي مزرعة خيول بالقرب من الحدود السويسرية‏.‏ وفي المزرعة كان في انتظار الجميع جوازات سفر جديدة وبطاقات سفر إلي القاهرة‏,‏ وهناك كانت في انتظارهما مجموعة خاصة من المخابرات العامة‏.‏ وبعد سفرهما نظمت سفر أطفالهما والمربية الخاصة‏,‏ ليقيم الجميع معا بالقاهرة‏.‏ وسلم الرجل الوثائق للقاهرة‏,‏ وكانت قيمتها عالية‏.‏
وللقصة في مصر بقية‏'‏ فالقائد الألماني بعد أن استقرت أوضاعه بالقاهرة‏,‏ اكتشف الجميع أنه زئر نساء‏,‏ وأنه كان علي علاقة بكل من صديقته والمربية‏,‏ واكتشفت صديقته ما يجري فما كان منها إلا أن أخبرت صحفيا ألمانيا‏,‏ يقيم بالقاهرة ويعمل بها‏,‏ عن وجود القائد النازي الهارب بالقاهرة‏.‏ وخططت مع الصحفي لتصويره بما يؤكد صدق قصته الصحفية‏,‏ وفعلا تمكن الصحفي من التقاط صورة له بفندق مينا هاوس‏.‏
وذاع الخبر وفوجئت سلطات الأمن الألمانية بوجود القائد الهارب في القاهرة‏,‏ وكانت الشكوك قد اتجهت إلي الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية‏.‏
وحضر إلي القاهرة أكثر من‏70‏ صحفيا ومصورا ألمانيا وبصحبتهم عدد من المسئولين بالمخابرات الألمانية‏,‏ وروت لهم السكرتيرة كل ما عرفته‏,‏ وكان ما تعرفه قليلا جدا‏,‏ ولكن أهم ما اكتشفته السلطات الألمانية أنني طرف في هذه القضية‏.‏ وفي مقابل اعترافها‏,‏ حصلت من السلطات الألمانية علي قرار يعفيها من كل المسئولية‏,‏ كما سبق أن تعهدوا لها‏.‏ وبعدها سعي الصحفيون ورائي دون جدوي‏.‏ وانتهت القصة بأن وافق القائد الألماني علي تسليم نفسه لألمانيا الغربية لاستكمال فترة سجنه‏,‏ ولم تعترض القاهرة علي قرار القائد الألماني‏'.‏
لم الشمل
وفي موضوع آخر‏,‏ حاول صادق‏,‏ قبل سفره إلي ألمانيا‏,‏ جمع المعلومات المتاحة وقراءة التقارير السياسية والأمنية الخاصة بالجالية المصرية‏,‏ ومن بين ما سمع‏'‏ وفقا لروايته اتهام الطلبة المصريين الموجودين بألمانيا‏,‏ بالانتماء للإخوان المسلمين‏,‏ أو‏,‏ علي الأقل‏,‏ العمل علي نصرة قضية الإخوان‏,‏ نتيجة نشاط سعيد رمضان ورجاله الموجودين بألمانيا‏,‏ بل رأيت أن هذا الاتهام قد تحول إلي اقتناع لدي المسئولين‏.‏ وأدي هذا الاقتناع إلي التوقف عن بحث واستقصاء الموقف‏,‏ أو محاولة معرفة الأسباب التي أدت إلي ذلك‏,‏ هذا فيما إذا كان هذا الاتهام يمثل الحقيقة‏.‏ ورفضت هذا الاتهام وهذه الصورة‏.‏ وبعد أن وصلت ألمانيا‏,‏ وحتي قبل أن أستقر‏,‏ بدأت أتصل بهم وأدعوهم وأحاورهم وأناقشهم وأجيب علي أسئلتهم‏.‏ كانوا في حاجة للرعاية‏,‏ فالبعثة التعليمية والمكتب الثقافي والسفارة‏,‏ ككل‏,‏ تنأي عنهم ولا يقوم أي من هؤلاء المسئولين بدوره تجاههم‏.‏ وكان الطلبة‏,‏ من جانبهم‏,‏ ساخطين متبرمين من هذا الموقف السلبي للمسئولين المصريين‏.‏ بل كانت لديهم شكوك عميقة في أن معظم الموجودين تابعون لأجهزة الأمن ومن كتبة التقارير‏.‏ وحاولت تصحيح هذه الأوضاع بقدر ما أستطيع‏,‏ وتدخلت وضغطت واتصلت بالقاهرة من أجل هذا الهدف‏.‏ وكانت الغالبية منهم قد ابتعدت كثيرا عن الوطن‏,‏ وافتقدوا بذلك أسرهم التي غابوا عنها طويلا‏.‏ وكان معظمهم يرفض العودة للقاهرة خشية عدم الخروج منها مرة أخري‏,‏ لأي سبب من الأسباب‏.‏ ومن لم يسافر للقاهرة استفاد من درس البعض الذي سافر للزيارة ولم يتمكنوا من الخروج‏.‏
وساهم البعد عن الوطن في الانقطاع عن الأخبار‏,‏ وكان مصدر معلوماتهم أجهزة ووسائل الإعلام الأجنبية‏,‏ بكل ما هو معروف عن موقفها السلبي من مصر ومن جمال عبد الناصر‏.‏ ولم أخف عنهم الحقيقة‏,‏ أجبت عن أسئلتهم‏,‏ وأرضيت فضولهم وشوقهم للمعلومات وبحثهم عن حقيقة ما يجري في الوطن‏.‏ وحاولت أن أزيل الشبهات التي رأوا أنها تحيط بمستقبلهم‏.‏ وبالاتصال المباشر والحوار تولدت علاقة صداقة واحترام بيننا‏.‏ ولم أحاول‏,‏ من قريب أو بعيد‏,‏ أن أشير إلي الصورة المرسومة لهم أو الاتهامات الموجهة إليهم‏.‏
أما نفوذ سعيد رمضان بين الطلبة فلم يكن خافيا‏,‏ كان يعمل هو ورجاله بهمة ونشاط‏,‏ مستغلا بعض سلبيات النظام وعدم وضوح الصورة لدي الطلبة‏,‏ وبدأت أجمع معلومات عن سعيد رمضان القائد الإخواني وأعوانه الذين يعتمد عليهم‏.‏ ولفت نظري أن الرجل يعيش في جناح بفندق كبير ومشهور‏.‏ واستطعت أن أصل إلي زوجة أحد مساعدي سعيد رمضان وأن أكسب ثقتها‏,‏ فبدأت تحكي لي الكثير مما تعرفه عن العلاقات النسائية لزوجها وللقائد الإخواني‏,‏ وبعد أن اطمأنت ووثقت بي‏,‏ سألتها عما إذا كانت مستعدة لعقد مؤتمر صحفي تعلن فيه ما تعرفه‏,‏ فوافقت‏.‏ وحضر الصحفيون وبعض المصريين الموجودين بألمانيا‏,‏ وبدأت الزوجة تحكي‏,‏ كيف طردها زوجها في الساعة الثانية صباحا‏,‏ بسبب اعتراضها علي وجود امرأة أخري معه بمنزل الزوجية‏.‏ وتحدثت عن سعيد رمضان وزوجها وعن حياة الرفاهية التي ينعمون بها‏,‏ وقالت إنها لاتعرف من أين يأتون بكل هذه الأموال أو كيف ؟‏.‏
مظاهرة تأييد لمصر
ويروي محمد أحمد صادق واقعة مهمة حدثت خلال فترة وجوده بألمانيا‏,‏ فقد‏'‏ أصدرت الحكومة المصرية قانونا يؤثر علي أوضاع الطلبة ومستقبلهم هناك‏.‏ وجرت عملية تحريض واسعة النطاق قادها اتحاد الطلبة والمسئولون الطلابيون بالولايات الألمانية المختلفة‏.‏ وأرسلت عددا من الرسائل والبرقيات لكل مستويات المسئولين أطالب بإلغاء القانون‏,‏ وأحذرهم من إعداد الطلبة لمظاهرة حاشدة معادية لمصر والحكومة والرئيس عبد الناصر‏.‏ وأصم المسئولون جميعا آذانهم‏,‏ بل لم يهتم أي منهم بالرد علي رسائلي وبرقياتي‏.‏ وقبل موعد الإضراب بساعات‏,‏ تساءلت‏:‏ لماذا لا أكتب لعبد الناصر مباشرة‏.‏ فأرسلت له برقية كالتالي‏:‏ من اللواء محمد صادق‏,‏ الملحق الحربي المصري في ألمانيا‏,‏ إلي الرئيس عبد الناصر‏'‏ سيبدأ الطلبة المصريون في ألمانيا صباح باكر إضرابا ضد مصر وضدكم بسبب القانون الذي أصدره مجلس الوزراء‏.‏ أقترح إعادة النظر في مضمونه‏'.‏ وبعد ساعات تسلمت برقية من جمال عبد الناصر يخبرني فيها بأنه يبعث بتحياته إلي أبنائه الطلبة في ألمانيا الغربية و يعتز بهم‏,‏ ويحمل لهم أطيب المشاعر‏,‏ ويطلب مني إبلاغهم بأنه أصدر أمرا بإلغاء القانون فورا‏.‏ واتصلت باتحاد الطلبة في بون وسلمتهم نسخة من برقية عبد الناصر‏,‏ ولم ينم الطلبة وقضوا الليل يتصلون بزملائهم في الولايات الألمانية‏,‏ لإعلامهم بمضمون رسالة عبد الناصر‏.‏ وفي الصباح تحركت المظاهرات الطلابية لا كما كان مخططا لها‏,‏ ولكن تأييدا لمصر وعبد الناصر‏'.‏
ويعود صادق من ألمانيا عام‏1965,‏ ب‏'‏ غواصة الجيب التي تتسع لفرد واحد كهدية من الأصدقاء الألمان الذين تعاونوا معي طوال سنوات عملي كملحق حربي‏.‏ وكان الفريق أول بحري سليمان عزت قائد القوات البحرية قد أبدي اهتماما فائقا بالحصول علي معلومات عن هذه الغواصة للبدء في انتاجها في مصر وقد عدت بهذه الغواصة في رحلة العودة وسلمتها للقوات البحرية‏'.‏
الرجل ومذكراته‏:‏
ولد محمد أحمد صادق بمحافظة الشرقية عام‏1917‏ وتوفي في‏25‏ مارس‏1991,‏ وبين مولده ووفاته كانت حياة واختبارات ومواقف‏.‏ عندما أخبره الرئيس السادات أنه قرر تعيينه وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة قال له‏:'‏ سيادة الرئيس هناك ما هو أهم‏,‏ فالواجب والضرورة يحتمان علي تأمين مصر‏,‏ الآن‏,‏ ضد الأخطار المحتملة‏'.‏ كان ذلك ليلة‏3‏ 14‏ مايو‏.1971‏ حيث تمكن السادات من تصفية ما عرف بمراكز القوي‏.‏ وكان صادق قد تمكن‏,‏ في تلك الليلة‏,‏ من إحباط الانقلاب العسكري الذي همت به مجموعة تصورت أنها الوريث الشرعي لعبد الناصر‏,‏ فألقي القبض علي أفرادها وأفلح في تأمين القيادة العامة والأفرع الرئيسية للقوات المسلحة‏.‏ صادق وقد اختار‏,‏ بوعيه وإرادته وحسه الوطني‏,‏ أن ينحاز للشرعية‏,‏ لمصر لا للسادات‏,‏ هو نفسه الرجل الذي كان منغمسا في العمل السري قبل ثورة يوليو‏1952,‏ منذ تخرجه في الكلية الحربية في عام‏1939,‏ برفقة عبد الحكيم عامر‏,‏ كمال الدين حسين‏,‏ صلاح سالم‏,‏ صلاح نصر وآخرين‏.‏ وعندما نجحت الثورة كان عليه أن يختار بين المنصب المدني أو الاستمرار في الحياة العسكرية‏,‏ واختار صادق أن يستمر‏,‏ حيث كانت أقداره في انتظاره‏..‏ رئيس أركان القوات الموجودة بسيناء خلال عدوان‏1956,‏ ملحقا حربيا في ألمانيا الغربية‏,‏ كبير المعلمين بالكلية الحربية‏,‏ ثم مديرا للمخابرات الحربية‏.‏ وبعد شهور من تعيينه تقع نكسة يونيو‏1967‏ ويكون شاهدا هناك‏,‏ يشكل المجموعة‏'39‏ قتال‏'‏ لتعمل خلف خطوط العدو‏,‏ أثناء معارك الاستنزاف‏,‏ إلي أن يتوقف إطلاق النار في أغسطس‏.1970‏ وبرحيل عبد الناصر يندلع الصراع علي قمة السلطة‏,‏ ومن موقعه كرئيس لأركان القوات المسلحة يتحمل تبعة الاختيار‏.‏ ثم كوزير للحربية وقائد عام للقوات المسلحة يشارك في التخطيط لمعركة أكتوبر‏.‏ ومن جديد يحتفظ بموقعه في وزارة د‏.‏ محمود فوزي الثانية‏(‏ سبتمبر‏1971).‏ وزير الحربية والإنتاج الحربي إلي أن تمت إقالته في‏26‏ أكتوبر‏1972.‏ هذا هو الرجل‏,‏ وهذه شهادته ننشر جانبا منها في هذه الحلقة والحلقات التالية‏,‏ لمصر وللأجيال القادمة‏,‏ للذاكرة وللتاريخ‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.