ام حليجة كانت مرابطة, أخذت العهد عن والدها شيخ المرابطين في مصر كلها, وكانت لها كرامات وسر باتع, ودعوتها علي القبيلة اجعلهم كالتمر ما يتنقي إلا خيارهم. مازالت تعصف بها حتي اليوم, فما أن يعلوا احد ابنائها ويذيع صيته في أي مجال حتي يختطفه الموت فجأة وهو عز الشباب, يونس بيه أول مستشار, وياسين بيه أول نائب, وعبد الواحد بيه أول ثائر, ومعوض بيه أول ضابط ماتوا جميعا دون الاربعين من عمرهم. وام حليجة كانت زعيمة عربان المرابطين الذين ينسبون إلي دولة المرابطين بالمغرب وهاجروا إلي مصر و كفوا عن الترحال واستقروا جنوبالفيوم وسكنوا في البيوت الحجرية منذ العهد العثماني, وكانت تعيش في سرايا مبلطة بريالات الفضة والذهب وبها شخشيخة عجيبة تمتص اشعة الشمس طوال النهار وتبثها طوال الليل, فتصير لؤلؤة في قلب الصحراء في عز ما كان الناس حولها يعيشون في الخيام ولا يجدون حتة لمبة الجاز, وكانت علي علاقة وثيقة بالحكومة وكبار قادتها, وكان الوالي شخصيا يزورها وتمد له السجاجيد الحمراء من أول الطريق العمومي حتي سرايتها المتلألئة, وفي نفس الوقت كانت تتمتع بثقة شيوخ القبائل حديثة الهجرة للمنطقة والرافضة للتوطين والمصرة علي حياة الترحال والنهب للقري الآمنة المستقرة خصوصا قبيلة الرماح, وكانت تتوسط بينهم وبين الحكومة في عز الصدام المسلح بينهما. القبائل البدوية كانت تشكل قوة مسلحة كبيرة, جيوش من الفرسان المهرة خصوصا في الفيوم, لدرجة أن العالم الفرنسي الذي زار الفيوم ووصفها بدقة من اول بحيرة قارون في الشمال حتي الصحراء في الجنوب في كتاب وصف مصر حذر من قدرتهم علي الاستيلاء علي الحكم في أي وقت, وكانوا يعيشون علي السطو والنهب, وازدادوا قوة وشراسة في فترة الانفلات الامني الذي اعقب رحيل الحملة الفرنسية, ومحمد علي اتبع سياسة الترهيب والترغيب لتوطينهم, فمن ناحية أغراهم بالأراضي الخصبة الشاسعة والإعفاء من التجنيد في السخرة والجيش, ومن ناحية أخري كان يباغتهم بالقوات المسلحة ويشتت مضاربهم ويغتال المتمردين منهم ويعلق رءوسهم علي أبواب القاهرة. وبالفعل نجحت سياسته مع قبيلة الرماح, وملكهم الأراضي الزراعية المتاخمة للصحراء جنوبالفيوم وسمح لهم بالعيش في الخيام والاحتفاظ بالاسلحة مقابل أن يكونوا درعا لحماية القري من حملات القبائل الأخري, لكن بعض فرسانهم لم يستقروا ولم يكفوا عن حياة النهب والسلب, وكانت تحدث بينهم وبين القوات الحكومية مناوشات وغارات متبادلة, وكانت أم حليجة تتوسط, فإذا هجم الفرسان وأسروا جنديا أو قائدا من قوات الباشا حررته وإذا خطفوا شيئا يخص أحد حكام الإقليم ردته, وإذا هجمت قوات الباشا وشتت مضارب القبائل وقبضوا علي النساء والأطفال حررتهم وهكذا, وظل هذا الوضع ساريا حتي عهد سعيد باشا بن محمد علي. معروف أن سعيد باشا تربي تربية عسكرية في سلاح البحرية, واشتهر بالإقدام والشجاعة إلي درجة التهور, وكان من عاداته ركوب حصانه وقيادة كتيبة مسلحة والتجول في طول البلاد وعرضها, ولم يقتنع بخطة والده القائمة علي التدرج والنفس الطويل في توطين البدو, وبمجرد أن تولي الحكم بعد اغتيال ابن أخيه عباس عام1854 أصدر قرارا انتقده كبار السياسيين ومنهم نوبار باشا رئيس النظام ويقضي بتجريد فرسان القبائل البدوية من السلاح وتشتيتهم وتجنيدهم في السخرة والجيش, وبالطبع رفض فرسان قبيلة الرماح ضمن من رفضوا, فداهمهم سعيد باشا بنفسه علي رأس كتيبة عسكرية وشتت مضاربهم جنوبالفيوم. وأسر بعض فرسانهم وربطهم علي فوهات المدافع وطاف بهم في المدن والقري والنجوع حتي ألقاهم في غياهب سجن الاسكندرية, فرد فرسان الرماح بالهجوم علي اسطبل خيل كان يملكه سعيد باشا ناحية بني سويف وقتلوا حراسه ونهبوا كل خيوله وضمنها مهرة عربية أصيلة كانت تخصه شخصيا وضاعت حتي اليوم, فاستشاط غضبا وصمم علي إبادتهم تماما, وجرد عليهم جيشا من ثلاث فرق, الأولي قادها حسين باشا المعروف بأبي صباع, والثانية قادها إسماعيل باشا الفريق والثالثة قادها سعيد بنفسه وضم له فرسان قبيلة أولاد علي الموالين له. والتقي بالرماح قرب مضاربهم بالصحراء جنوبالفيوم, وفي بداية المعركة هزم سعيد باشا فرسان الرماح, وكان في مضاربهم القريبة من ساحة المعركة شيخ كهل منهم مصاب بالرمد وشبه مقعد وجالس أمام خيمته يتابع المعركة من بعيد, وحينما أحس بأن جيش سعيد يكاد يهزمهم أمر زوجته بأن تجهز له حصانه وركب وقال لها نا هنلهد أي سينطلق بالحصان للمعر كة وانت وصبايا النجع زغردا وراي وبالفعل انطلق إلي ساحة المعركة وسط عاصفة من الزغاريد, فظن جيش سعيد أن الرماح جاءهم مدد وتشجع فرسان الرماح وهزموه, وسقط سعيد من فوق حصانه وظل يجري في الغيطان ويخوض في الترع والمصارف حتي اختبأ في سراية أم حليجة. وبالطبع قرر مشايخ الرماح الرحيل نهائيا من مصر والعودة إلي الغرب فرارا من انتقام الوالي الواقع لا محالة, ولموا خيامهم واتجهوا ناحية الصحراء الغربية التي جاءوا منها, وبينما هم يغزون السير ويترقبون مداهمة الجيش في أي لحظة كان سعيد يأمر أم حليجة التوسط لإرجاعهم بأي ثمن, فقالت له إن هذا لا يمكن أن يتم إلا بدليل أمان لا يحتمل الشك ألا وهو سيفك وسبحتك فأعطاهم لها, فركبت هي وبعض رجالها علي الخيول وانطلقوا بأقصي سرعة حتي لحقوا الرماح بالقرب من الحدود, واجتمعت مع شيوخهم الأربعين وقالت لهم إنها توسطت لدي أفندينا كعادتها وأخذت منه عهدا بالعفو عنهم بشرط أن يتمكلوا الأراضي ويردوا خيوله ويكفوا عن نهب القري ووضعت أمامهم سيفه وسبحته. وفي البداية تردد مشايخ الرماح وظنوها مكيدة, وبعضهم واصل الرحيل, ولكن أمام لمعة سيف سعيد وسبحته والثقة في أم حليجة التي توسطت كثيرا بينهم وبين الحكومة والأهم حبهم لأرض المنطقة ومراعيها ومياها العذبة, وبالطبع سطوة الهجير والجفاف الذي ينتظرهم في الصحراء رجعوا, وذهب معظم مشايخهم إلي سراية أم حليجة للالتقاء بسعيد باشا وإتمام الاتفاق, وبمجرد أن دخلوا السرايا أغلقت الأبواب ووقعت فيهم مذبحة كمذبحة القلعة بالضبط, ولم يعرف حتي اليوم أن كانت ام حليجة تآمرت مع سعيد أم انها خدعت مثلهم, وأمر سعيد باشا بعدم دفن جثثهم حتي يكونوا عبرة لمن يعتبر, وتركت في العراء حتي صارت عظاما وتسلل بعضهم وجموعها في زكائب ودفنوها في المقابر التي مازالت باقية حتي اليوم علي حافة الجبل جنوبالفيوم, ومن يومها استسلم فرسان قبيلة الرماح وكفوا عن الترحال والنهب وامتلكوا الأراضي واستقروا للأبد. -----------------------------------* مدير تحرير سلسلة الدراسات الشعبية * حصل علي جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية عن روايةالفاعل. * كما صدر له لصوص متقاعدون رواية والقاهرة شوارع وحكايات, كتاب في الخطط ومجموعة قصص بعنوان طي الخيام صدرت عن دار ميريت.