«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بناء البطل السيّري في رواية "سيرة الشيخ نور الدين " نموذجًا
نشر في نقطة ضوء يوم 27 - 04 - 2010

تبدو رواية سيرة الشيخ نور الدين للدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي ، نموذجًا حيًا في كيفية توظيف البناء السيري ( استعارة بناء البطل ) الذي قامت عليه المرويات السيرية من قبل مثل " سيرة عنترة ، والظاهر بيبرس ، والأميرة ذات الهمة " وغيرهم من المرويات الشعبية التي احتفى بها التراث الشفاهي . أو الاتكاء على البناء الموازي لألف ليلة وليلة ، وما نتج عن هذا من توالد القص ، وبدء السرد من نقطة حاضرة ، ثم العودة إلى الماضي ، ويمكنك أن تقول هنا الإيغال في الماضي . ومن جانب آخر تتصل هذه الرواية اتصالا مباشرًا برواية السيرة الذاتية ، حيث المؤلف أورد أصداءً من تاريخه الشخصي ، وكذلك تاريخ أسرته، مع الاحتفاظ بالجانب التخييلي في كثير من أجزاء السرد ، رغم أنه أوردّ الكثير من الوقائع والأحداث ذات الواقع المرجعي التي تُشيرُ إلى ذات المؤلف .بالإضافة لرؤيته للأحداث من منظور آخر غير الذي وقعت عليه الأحداث ، وإنما كمشارك في صُنْعها ، وموقفه منها بعدما ذَهَبَ ما ذَهَبَ .
ورغم الفارق الواضح بين الرواية السيّرية الشعبية ورواية السيّرة الذّاتيّة ،حيث الأولي تختصُ بذكر أمجاد وبطولات بطل ، كثير من أحداثها يشوبه الخيال ، أما الثانية فهي قصة حياة الفرد تتقابل فيها الأنا الساردة مع الشخصية الروائية . إلا أن الكاتب بذكاءٍ ، ووعي بطبيعة البناء والنسج ، استطاع أن يضفِّر مِنْ النوعين درَّته ، فأخذ من عناصر السيرة الشعبية الخاصة ببناء البطل ، وأسبغَ بها على بطله ، حتى أهالَ عليه من الصفات ما جعله في مرتبة تتواءم مع طبيعة الرؤية الشعبية التي تَنْظُرُ بها إلى البطل الشعبي وتحتفي به ، والذي قد يصل هذا الاحتفاء في أحد مراحله إلى التقديس . ومن جانب آخر ظلّ المؤلف حريصًا على إبراز العناصر السيّرية ، ذي المرجعية الواقعية في الرواية ، دون محاولة لإسباغها بالتخيّيل – رغم أن لوجون يقول :" إن العنصر الواقعي أو حتى التاريخي إذا أُعيد كتابته صار ممزوجًا بالتخييّل " – ليشدَّ النصَ إلى مرجعيته ، التي تتضاءل إزاء الجانب الأسطوري الذي يتغلغل في النص في أكثر من جانب .
أما عن صلة هذه الرواية بالمرويات الشعبية ، فهي صلة وثيقة تتضح في جانبين : الأول علاقة خارجية ، ومع هذا فإننا نرى له تأثيرًا بالغًا في بناء هذه المروية على شاكلة البناء السيري ، وهو أن مؤلف هذه الرواية ، يعمل أستاذًا للأدب الشعبي في جامعة القاهرة ، وواحدًا من جامعي هذا التراث الشفاهي المتناثر هنا وهناك من صدور الرواة الشعبيين ، وهذا ما يدفع إلى القول إلى تأثُر واضح أثناء كتابة عمله بما سمع أو جمع أو حفظ ، بالإضافة لكتابته عملاً نظريًا عن بناء البطل في السيرة الشعبية ، وهو ما يرجح أنه سهّل له عملية البناء .
الجانب الثاني وهو الذي يهمنا ، هو استعارة نموذج البطل السيري أثناء كتابة هذا العمل ، فشخصية نور الدين وابنه محمود وبالمثل شخصية رفيقة ، يُعيدُ إلى الذهن شخصياتٍ مثل عنترة ( الذي يرد ذكره هنا أكثر من مرة ، بالاسم أو استعارة أفعاله " قوته التي لا يُضارعه فيها أحد " ورحلته " لجلب المهر ،وما اكتنفها من مخاطروأهوال ) وأيضًا أبو زيد الهلالي سلامة والظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمة ، والاستعارة هنا ليست شكلية بل على العكس فالكاتب ألَبَسَ شخصياته ثوبَ هذه الشخصيات ، وأيضًا القيام بأفعالها ، ومن ثمّ يحدث التوازي في البناء بين شخصيات العمل والشخصيات السيرية .
وأول أشكال هذه الاستعارة هو استعارة مفردة " سيرة " ذات الدال القوي على أننّا بصدد مرويات شعبية ، فهذه المفردة ليست حكرًا على المرويات الشعبية فقط ، ولكن قلما وجدنا رواية تبدأ بهذا العنوان . وهذا ما يعزز الافتراض القائل بوجود تأثُر كبير بعمله الأكاديمي .
كما أن مفردة سيرة هيئت ذهن وأفق توقعات المتلقي ، لاستقبال هذه المروية على أنها تنتمي إلى المرويات السيرية ، لكن الإسناد الإضافي " الشيخ نور الدين " أزاحت وهم التلقي الأول ، وفي ذات الوقت أعادت للمتلقي وهم التوقعات من جديد ، فيفترض في شخصية " نور الدين " أنها على شاكلة " عنترة ، أو الظاهر بيبرس ، وما أنْ يوغل في قراءة العمل حتى يَحْدُثَ التطابق بين هذه الشخصية والشخصيات السيرية التي وقع تحت تأثيرها أفق التوقع ، خاصة أفعال الخوارق التي تقوم بها هذه الشخصية ، مع الفارق أن شخصية نور الدين ، شخصية لها بعد سيري متعلق بالكاتب نفسه ، فهو يكتب عن أُناسٍ عَرِفَهم ، وعاش معهم وشاهد خوارقهم . هذا هو الفارق الوحيد ، لكن كل ما تقوم به هذه الشخصية ، هو خارق وغير مُصدِّقه العقل ؛ لذا يَعْمَدُ الراوي للتدخل كثيرًا ؛ ليعيد المتلقي إلى الواقع عبر العودة بالأحداث إلى الواقع المعيش واليومي ، المعتاد في بيئة الراوي والكاتب ، والأمثلة على ذلك كثيرة سوف ترد في حينها .
(1)
نموذج شخصية الشيخ " نور الدين " الذي بَنَىَ المؤلفُ عليه روايته ، يَجْمعُ بين البُعْدين الواقعي والأسطوري ، لكن شَدّ الشخصية لعالم الواقع هو مِنْ فعل المؤلف الذي يعي جيدًا أنه لن يجدَ منْ يُصدّقُ مثل هذه الخوارق التي يقومُ بها البطل في واقعنا ؛ لذا عَمَدَ المؤلف بحرفية شديدة لأن يَشدّ الشخصية إلى العالم الواقعي بأكثر من رابط ، وأهم هذه الروابط هو الفعل الحياتي والمعيشي الذي تقوم به الشخصية ، حيث ينفتح السرد على المشكلة التي أرّقت الشيخ ولم يدرِ كيف يحلُّها ، وهي صدور قرار بهدم الساحة والجبانة ، الفعل الذي صار به الشيخ مأزومًا ، ناتجٌ عن الحكومة ومنْ ثمّ كانت منطقية الواقع الذي تعانيه الشخصية ، وكيف سعتْ هذه الشخصية كفردٍ أعزلٍ ، البعدَ عن مواجهة الحكومة ؛ لأنه يَعْلمُ فعلها وقرارها ، ومن ثمّ سَعَىَ لاتخاذ الإجراءات التي من شأنها لا يقع في مصادمات مع الحكومة هو وبقية عشيرته الذين هزهم القرار ، لكن ما باليد حيلة كما رأي الشيخ و" الأفضل هو ستر موتانا ".
كما أن الانغماس في هذه المشكلة دون تقديم حلول مجانية للخروج منها هو الذي قرّب الشخصية من الواقع ، إضافةً إلى كمِّ المشاكل التي تأتي تحت قدمي الشيخ ، ما بين مشاكل نزاعية على الميراث مثل مشكلة دياب وأخيه أحمد ، أو مشاكل زواج مثل زواج صليب من تريزا ، وعزيزة ويونس ، أو طلاق مثل : مشكلة الخمسة رجال والمرأتين الذين دخلوا على الشيخ ويريدون الطلاق ، ونَهَرَهم الشيخ ، ونهر الزوجة بألا تحضرَ عند الطلاق حتى لا تضيعُ كل حقوقها . في كثير من هذه المشاكل تظهر قدرة الشيخ التي لا يباريه فيها أحد على الحل ، وهذه القدرة مبعثها منطق الشيخ ، وما يتمتع به من حُبٍّ وتقديرٍّ من الجميع : مسلمين ومسيحيين، وبذلك تَخْرجُ أفعاله عن أفعال الخوارق ، بل إن المؤلفَ يوغل في شده للواقعيه ، حيث وله رفيقة أخت الحاج ركابي به ، وتخصيصها مائة جنيه ذهب لمن يأتي بالشيخ لمجرد رؤيته . ثم هيامه هو بعطيات عندما ذهب ليعطي فلوس الإيجار لأبيها ، إلى الافتتان والذهاب إليها حسب الميعاد الذي أعطته له وما أنْ ذهب بعد تردد حُسم لصالح هوى النفس ، فحَدَثَ منه ما حَدَثَ ، وراح يؤنب نفسه جراء فعله الذي كاد أن يقتله .
وفوق هذا ، المشاكل التي تحيط بابنه محمود ( علاقته بهيام ) ، والانتخابات والتكتلات العشيرية التي ترجح كفة على أخرى ، إلى الصراعات الحزبية وتأثير الاتحاد الاشتراكي ، ونفوذ أصحابه ، ومن قبل خروج الشيخ في مظاهرات ؛ احتجاجًا على القبض على سعد زغلول ورفاقه ، وإلى جانب هذا العلاقات القوية بين المسلمين والمسيحين التى تضرب عرض الحائط كل الدعاوي الباطلة المطالبة بوجود أزمة ، فالعلاقة يسودها الحب والاحترام بين الكبار ، والصداقة والنصح بين الصغار ( لاحظ دور كلٍّ من منيرة ومحمود في التقريب بين تريزا وصليب ، ودور تريزا في إخراج محمود من أوهام حبه لإلهام ) وبعدهما دور الحاج في تقريب الرؤي بين فهمي والد تريزا ، وحسبو والد صليب ؛ حتى إتمام الزواج ، إلى جانب الزيارات المتبادلة بين الجانبيين ومؤازرة المسيحيين للحاج يوم هدم الساحة ( راجع موقف الأب مكاري وفهمي في ذلك )
.
(2)
ومع مرجعية الشيخ للعالم الواقعي ، إلا أن الشيخ نفسه له عالمه الأخر/ الأثير ، الذي يتنحى فيه عالم الواقع ؛ ليُفْسحَ مجالاً للعالم النوراني أو الأسطوري حيث عالمُ الوجدِ والحبِّ والرؤيا الصافية ، وعالم النقاء والسريرة الذي يكون دائمًا التحصين الإلهي له بالمرصاد ، بل الكرامة والفيض أينما وجد .
هكذا نحن أمام عالميْن : واقعي وأسطوري ، بهما تتجسد شخصية الشيخ نور الدين ، وإنْ غَلبَ الجانب النواراني على أفعاله . امتزاج العالمين له دلالته التي أرادها المؤلف ، فالمؤلف آثَرَ أن يجعلَ شخصيته هكذا ؛ حتى لا يقع الوعي الجمعي للأفراد الذين ينتمون إلي الشيخ ، في أثره فيُفرطون في تقديس الشيخ فيؤلّه ، ومن ثمّ جاء تقبل أفراد الأسرة للموت طبيعيًا رغم عدم تصديقهم في أول الأمر ، إلا أنهم تعايشوا مع الموت ، بل إنّ مِنْ أبنائه مَنْ خَبُرَ بهذا الموت من قبل الشيخ نفسه ،مثلما حدث مع منيرة يوم أن علمت من أمها أنه سوف يتزوج ، وقد شاع الخبر في البلدة كلها فراحت أثناءإعداد الطعام له تسأله : "هل تتزوج يا أبي قال لها : كيف أتزوج وأنا سأموت هذا العام " ( ص:54)
وقد تجلت مظاهر الجانب النوراني في فيوضات الحاج وكراماته ،ليس هو فحسب بل أيضًا الشيخ الطيب ( لاحظ كرامته على عطيات التي كانت مريضة وعندما قال لأبيها قل لها أن الشيخ هنا ، وبالفعل أتت إليه وقد تماثلتْ للشفاء ) ، وحجرة الشيخ سلامة " جده السابع " "التي ما دخلها أحدٌ صاحب حاجة واستجار بها ؛ حتى أجاره وقضيت حاجته "( ص 8)،وكذلك الحكايات التي تروى عن الشيخ السيد يوسف ، وتَسّيده للعالم الروحي ، حتى أنّ الشيخ نور نفسه يذكر ما أن يقترب منه " حتى يشعر بأن تيارًا كهربيًا يسري في جسده "
( ص 9) ، وكرامة الشيخ أبو الحجاج عندما صدر أمر من الحكومة بهدم المسجد لضمه إلى المعبد ، وكيف جاء الشيخ للملك في منامه ، وحَذَّرَه من عاقبةِ هدم المسجد ، فصدرت القرارات في اليوم نفسه بوقف القرار السابق ، وفوق هذا كرامات الشيخ نور الدين التي تُخْرجُ الشيخ عن دائرة العالم الواقعي ، ومن هذا عندما نزل إلى البربة وهو صغيرٌ يلعبُ ورأى صورةَ إمرأةٍ ، ولما ذهب إلى منزل والد عطيات ، وما أن فتحت له عطيات الباب حتي استعاد لحظة الماضي ، وتأكد له أن التي رأها في البربة هي التي يراها الآن ، وفي الوقت نفسه لما كاد أنْ يهمَّ بها حتى غادرَ المكان هربًا ، وكاد أن يقتل نفسه حتى جاءه شيخه الطيب ليُثَبَّتَهُ ، وقال له أنه سيتزوجها . وبالفعل يعقد عليها الشيخ لكن تموت قبل أن يبني بها، بعد عودته من رحلة السودان ،وهناك من الكرمات ما هو متعلق بالمكان نفسه ، فبعدما يمتثل الشيخ لقرار هدم الساحة والجبانة ، يملأ حجره من تراب الجبانة وينثره في الأرض تبركًا .
(3)
هكذا نحن أمام جو أسطوري ، ولكنه ليس بالمعني الأرسطي الذي يحلُّ أي تغيير في سلوك البطل من الشر إلي الخير إلى السقطة العظيمة " الهامارتيا " بتعبير أرسطو، وإنما هنا راجع إلى جوٍ مُفْعَمٍ بالروحانيات ،المفتقِّدة لها التراجيديا اليونانية ( التي يكون التغيُّر فيها من الخير إلى الشر ، وليس العكس كما في نصنِّا من الشرِّ إلي الخير ومن الشقاء إلى السعادة )، والتي – أيضًا - تغلبُ عليها النفحات الإيمانية والكرامات التي تحلُّ على الكثير ، فتحلُّ على رفيقة وسيد الزغابي ، لاحظ كيف تبدَّلتْ رفيقة من أشهر راقصةٍ في برِّ الأقصر ،تتقلب على فِراش الرجال دون حصر ، إلى إمرأة أخرى تَحْرِصُ على غلق هذه الكرخانة ، وتتعلق بأهداب الشيخ أَيْنَ ذَهَبَ ،حتى أنها تذهبُ خلفه إلى مصر، ما أن عرفت من بوصيري ، وأخذت ترفض ما كانت تقوم به من قبل ، وما أن اضطرتها الظروف للعمل ، أصبحت لا تشعر بمن ينهش في جسدها ، حيث روحها معلّقة هناك حيث الشيخ ، ثم تتوب توبة نصوحة وتذهب للمقاومة وتحض زوجها الزغابي لأن يخرج مثلما خرج الرجال بعد إعلان القبض على سعد زغلول وصحبه ، وبالفعل تعترض القطار القادم بالإنجليز ، وعندما يأمرها الشيخ أن تعود إلى بيتها تحرص على أن تسترد منصب زوجها الذي أخذته الحكومة ، وتُنَصِّبَ ابن زوجها مكان أبيه حتى يعود .
وبالمثل يؤثر هذا الفيض النوراني على شخصية الزغابي ، الذي هام برفيقة ، وكان يحضر خصيصًا لينام معها ويلهو في مجلسها ، فما أن سمع بذهابها إلى منزل الشيخ ، حتى راح خلفها ، وهناك حدث المس والغسل ، فالشيخ لم يقلْ له شيئًا ، وإنما أعطاه جنيهًا ذهبيًا من مهر عطيات التي لم تتسلمه قط . وما أن غادر منزل الشيخ وذهب إلى منزل رفيقة، قال لها هذا مهرك لقد خطبتك من الشيخ ، وافقتْ على الفور ، وهي التي رفضته من قبل مرات ومرات، يتكرر هذا مع جليلة وصديقه بوصيري ، فيتوب عن الزنا الذي كان مزاجه فيه لدرجة أن له فلسفة خاصة في الاستمتاع بالحياة حتى أنه يٌسمي نفسه " ابن الحياة " [ لا حظ وجه الشبه بين وبين شيبوب أخي عنترة غير الشقيق ] ، ويتزوج من جليلة ويرحل بها إلي السودان إلى أن تموت ، وبرحيلهما( رفيقة وجليلة ) تتحق نبوءة الشيخ الطيب بأن بيت رفيقة سوف يٌغْلقُ على يدي الشيخ وهذا ما كان ، فلم تستطعْ الحكومة غلقه ، ولا الأهالي وإنما أغلقه الشيخ دون أن يصدر لذلك أمرًا .
لا يتناقض الفيض النوراني مع المكانة الاحتماعية التي يحظي بها الشيخ بين عشيرته : مسلمين ومسيحين ، بل على العكس فكلا منهما داعمٌ ومؤثرٌ في شخصية الشيخ ، وهذا ما حدث مع تغيير شخصية دياب ، وكيف كان يتعالى على أهله ، بل وصل به الأمر من جحود لعدم زيارة أخوته البنات ( لاحظ عدم معرفته بأبناء أخته عندما ذهب إليها) عندما كان يأتي إلي القرية في زياراته القليلة التي لم يكن من وراءها سبب سوى البيع ، وما تبعه من نكران زوجته لأهل زوجها وعدم زيارتهم ، كل هذا يتبدل بين لحظة وأخري بمجرد النظر في عيني الشيخ التي راهنت من قبل مع بصيري إذا أراها عينا الشيخ سوف تعطيه مائة جنيه من الذهب ، فدياب في زياراته الأخيرة للقرية والتي ودّ فيها أن يبيع نصيبه من البيت ، وهو ما لقي صدودًا من أمه ، فذهبت بعد أن جمعتْ ما تملك من أساور ، ومال ابنها أحمد ، إضافة إلي بيعه لجاموسته ، وأعطتهم للحاج حتى يتصرفَ مع هذا الجاحد ، هكذا ما أن ذهب دياب للشيخ في المساء، بعد أن تعذّرت مقابلته في الصباح ؛ حيث الحاج كان مشغولاً باستخراج جثث الأجداد من المقابر ، لم يُكْثِرْ معه الشيخ في الحديث بل أرشده إلى الأمانة التي تركتها أمه في الصباح ، وقال له :"..... أنت معدن طيب وفي النهاية لازم المعدن الطيب يرجع لأصله ..."( ص 97) حتى تبدّل حاله وأخذ صرته ورجع ، بل لم يرجع فقط إلى أمه وأخوه ، بل عاد إلى الأقصر حيث طلب نقله إلى الأقصر مفتشًا بالمديرية ،وارتدى جلبابه . فعودته إلى هذا العالَم - الذي مرّ ذات يوم بجوار حلقة ذكر خطأ فابتعد مسرعًا ؛ لأنها " ليس من عالمه " ( ص 94) - جاءت بعد مقابلة الشيخ . وكأنّ الكيمياء الخاصة بالحاج التي أثرّت من قبل في والد تريزا " فهمي " وقَبِلَ بزواج صليب الفقير من ابنته ( بعدما تحدث الشيخ معه عن الأصول والأنساب والغنى والفقر، وعدم جدوها مادام الشخص طيب وابن حلال) ، وهي أيضًا التي أبطلت فِعْلُ منوفي وابنه عندما همَّا بقتل عزيزة بعد اكتشاف حملها، وعلى الفور عقد الشيخ لها على يونس بن مصليحي ، وأعطى لها جنيهًا ذهبيًا .. وتكرر الأمر مرات مع بصيري و رفيقة وجليلة، وسيد الزغابي ، كما أوضحنا سابقًا.فكأن هذه الكيمياء هي فعلت ما فعلت ، ومن ثم انتقل الشيخ من العالم الواقعي إلى العالم النوراني ، الذي طيفه يحلُّ أينما ذهب هو أو أحد أفراد أسرته . بل تتحول هذه الكيمياء إلى نوع من التحصين القوي لأفراد أسرته ، فما أن يقترب سوءٌ من أحدهم حتي تتحولَ هذه الكيمياء إلى درع واقٍ ، يَمنعُ سهام هذا السوء من النفاذ إلى أحباء الشيخ ، فمحمود ابنه الذي اكتسب من أبيه الكثير من الصفات النورانية ، عندما يهيم بإلهام الارستقراطية ، والتي يأتي تعاطفها مع الشعب كما قالت له تريزا ؛ لتعاند والدها الأناني الذي يبيع أيَّ شخص ٍ في سبيل مصلحته ، والذي لا يتوارى في أن يحضرَ عشيقاته إلى المنزل أمام بناته . فتخبره تريزا أن هذه الفتاة لا تصلح له، وما أن تصدمه بكلامها خاصة وقد أحبها ، يمرضُ ، حتى وصل إلى الموت فتأتي له رسالة أبيه ، وكأنها الترياق الشافي الذي يُعيده إلى صوابه ،صارت الرسالة بمثابة قبلة إيزيس التي أعادته إلي الحياة مرة ثانية . فالأب غير موجود لكن هناك واعزًا داخله أنبأه بأن ابنه انصرف عن الدراسة ، لأشياء أخرى تحيد به عن الهدف الذي أرادته الأسرة له . ومن ثمّ كان التذكير رغم أن صليبًا وحسنًا لم يخبرا أحدًا بما حدث لمحمود.
ليس هذه هي المرة الأولي التي يَحْدثُ فيها مثل هذا بل تكررمع الابن الذي يعلم جيدًا أن الأب "يقف بينه وبين كل متعه حسية " (ص 34) أليس هو الأب الذي وقف حائلا بينه، وبين نزغات النفس ، يوم أن تعرى مع إمرأة فائقة الجمال؟ ، فرأه الابن يخترق الجدار قائلاً : أهذا أنت؟ (ص 34) ، ومع حيرة محمود في مصدر هذه الصورة : هل من صُنْع الرهبة من هذا الرجل أم هي صورة حقيقة ؟ فإنها حدثت وحالت دون وقوع الإثم . مثلما حدث مع الأب نفسه ،الذي تلقى التحصين من الشيخ الطيب . فالشيخ نور الدين عندما ذهب إلى منزل والد عطيات ليدفع له أجرة المنزل الذي يستأجره في الحسين ورأى عطيات ، حتى هام بها ، ولم تغادر صورتها عقله ، ومن شدة تعلقه بها ذهب إليها بعدما ضربت له موعدًا في الغد ، وبعد تردد بين الذهاب أو عدم الذهاب ، حتى وجد نفسه يذهب ، وهناك في المنزل وجدها بمفردها، فعبث معها حيث الشيطان كان حاضرًا ( هنا يتلبس البطل لبوس الشخصية الواقعية) وفي الحظة المناسبة لحظة ري الشغف والظمأ ، يقف نور الدين مذعورًا ويولّي هاربًا ، رغم نداء عطيات له ، لكنه أبي ، وراح في البيت يُعاقب نفسه ، لأنه خالف الطريق الذي رسمه له شيوخه ، واشتد به المرض وفشل بصيري في أن يُخرجه مما هو فيه ، حتى جاءه الشيخ الطيب ؛ ليخرج نور الدين من معانته ، فلقد فسّر له آية سورة سيدنا يوسف ، وأخذ بيده ، وقال له إنه سيتزوجها ، وبالفعل أخبر أعمامه ولمّا لم يصدقوا ما أخبرهم به ، قال لهم موعدنا مع الشيخ الطيب في صلاة المغرب في مسجد الحسين . وبالفعل التقى الجميع ، وذهبوا بعد أن أحضر نور الدين هداياه للعروسة ، وعقد له الشيخ الطيب ، على أن يدخل بها بعد عودته من رحلته من السودان ويدفع لها مهرها خمسين جنيهًا من الذهب .
(4)
في كثير من الأحيان يميل المؤلف لوضع البطل الشيخ نور الدين في مواقف حقيقية تُقرِّبه من عالم البشر ، ومع هذا إلا أن أفعاله لا تكتسب معنى بشريًا ، ففيها الكثير من الخوارق التي يعجز البشر العاديون على القيام بها ، ومن ثمّ تُحيله هذه الأفعال إلى الأبطال الأسطوريين ، أو الأبطال الممسوسين كما في التراث الشعبي ( لاحظ تطابق هذه الأفعال مع الأفعال التي كان يقوم بها أبو زيد الهلالي سلامة )، بل إن هذه الأفعال التي يقوم بها وهو في السبعين من عمره ، تجعل ابنه يتساءل في استنكار : " أي رجل هو الشيخ نور الدين "، بل أن من شدة الانبهار بهذه الأفعال يردد الابن السؤال أكثرمن مرة على نفسه علّه يجد إجابة تشفي ظمأه المعرفي . وقد دفع هذا الابن لأن يقلد أباه ففشل ، ومن ثم راح يتمرد ، ليس تمردَ الرافض له ، بل المستقل في التبعية وأيضًا فشل .
فقوة الشيخ تبهر الجميع يوم أن نزل البربة ، وحاول الخفراء أن يمنعوه ، فإذا بنور الدين يحمل الرجل ويلقيه بعيدًا ، فيصرخ الرجل مُسْتَنِجدًا ببقية الخفراء ، فأخذ نور الدين في مصارعتهم جميعًا ، بل وفي ظل وقدة الحماس التي اعترت نور الدين ، تدور الحكايات " أن وجه نور الدين قد تغير وكأنما لبس لبدة الأسد "( ص 77) . وإزاء هذا الموقف يُصرُّ العبادي بصيري على أن الخضر عليه السلام قد مسّ الشيخ بقوته العظمى .ولم ينتهر عما كان يفعله إلا بمجئ الشيخ الطيب ملاذه وحصنه .
وبالمثل عندما يسبح في الماء ، فالرويات كلها تقول إنه " كان يسبق الجميع في اجتياز النيل" (ص 34) ، والأدهي أن شيخوخة هذا الرجل أقوى من شبابه كما يقول ابنه محمود. حتي في لعبه في المرماح بالعصي لا يغلبه أحد ، ومنذ أن رأته رفيقة وقع في نفسها موقعًا احتار في تفسيره أصدقاؤها وتعلّقت به أيما تعلق ، وهام قلبها به حتى حدث ما حدث لها.الكل يهابه ويخشى مواجهته رغم أنه في حلبة المرماح عمره لا يزيد عن عام ، إلا أنه " يزهل الفرسان جميعًا بقوته وسرعته في لعب الزانة ، ودربة حصانه ومهارته في تحريكه " ( ص 168) وأثناء اللعب تتماهي شحصية الشيخ نور الدين في شخصية أبي زيد الهلالي سلامة ، ويصير الاثنان واحدًا ، حتى أن رفيقة عندما تنظر له يُذَّكْرُها أثناء لعبه
" بأبي زيد الهلالي سلامة ، وهو يقاتل والده رزق بن نايل "( ص 170) . وليس مجرد تذكير رفيقة بهذه الصورة ما يشي بالتماهي بينهما ، فكذلك قوة الشيخ ومهارته ، وسيطرته على العصى والمراوغة حتى يفاجأ بها منافسه ، ما يؤكد هذا التماهي الذي يَظْهر في مواقع كثيرة في الرواية ، وبالمثل عندما يذهب مع بصيري العبادي إلى رحلة السودان ، وما يحدث لبصيري من سرقة جماله من الهمباتا ، وعودة نور الدين إليهم وحده ، وقدرته على قتالهم ورد ما أخذوه بل وردّ الجِمال السابقة التي استولوا عليها من بصيري في رحلته السابقة ، بنسلها الذي زاد ، دون أن يخبر أحدًا كيف تغلّب عليهم وحده .كل هذا يدفعنا إلى القول أن مثل هذا النموذج يمكن أن يُطلق عليه البطل سوبرمان ، ولكن السير العربية حافلة بمثل هذه النماذج الخارقة التي تفوق قدرات السوبرمان الجسمانية ، إلى قدرات روحية ومعنوية ،أو ما يسمي في الأدبيات الشعبية ب "أهل الخطوة " ، وبما يتمتعون به من صفات وقدرات - خاصة - تمكنهم من اختراق حواجز الزمان والمكان . وهو ما ينطبق على نموذج الشيخ أبو الحجاج ( الذي تروى الحكايات عنه أنه زار الملك في منامه وهدده بضره في ملكه إنْ هدم المسجد ) ، كما هو معروف ، والشيخ الطيب ، والشيخ أحمد أبو شرقاوي و أيضًا الشيخ نور " لاحظ ما حدث مع النماذج التي أثرّ فيها الشيخ بمجرد المدد والفيض النوراني انسكب في وجدانهم وأرواحهم ، مثل : دياب ، رفيقة ، جليلة ، بصيري ) .
أو تنقلات الشيخ الطيب التي تخترق المكان والزمان ، حتى يصل في الوقت المناسب
( لاحظ كيف ظهر يوم أن تصارع نور الدين مع الخفراء في البربة ، وأثر ظهوره على نور الدين الذي لم يهدأ إلا برؤيته ، وفي المرة الثانية يوم إحساس نور الدين المرير بأنه أغضب الله ، وكاد بهذا الإحساس أن يقتل نفسه ، في مقابل عجز بصيري عن أنْ يفعل شيئًا لصديقه الذي يراه يزوي ويزبل أمامه ، فيدخل الشيخ الطيب ؛ ليكون ملاذًا ، ويردُّ نور الدين إلى جادة الطريق ، بل يقتفي الأب نفس هذه الخطوات عندما أوشك ابنه محمود على الزني ، فظهر له الأب مخترقًا الجدار ناهرًا " أهذا أنت يا محمود " ( ص 34)، ويصرفه عن هذا الطريق الذي كادت أن تنزلق أقدامه فيه .
لكن كل هذا سبقه استعداد وتهيئة حتي يصل نور الدين إلى هذه الدرجة ، ويقتفي أثر شيوخه ويسير على دربهم ، فنور الدين من قبل ميلاده أحاطت به النبوءات ، وهي نفس النبواءات التي تُصاحب ميلاد البطل في السير الشعبية ، بل أن كثيرًا من مظاهر النبوءة ظهر هنا ، مما يشي بتكوين البطل على غرار البطل في السير الشعبية ، فالأم تؤكد أنها منذ أن حملت به رأت نورًا يسقط من السماء في حجرها ، ومن هنا أصرّتْ على تسميته بنور الدين، بل أن مَقْدِمَ نور الدين إلى الحياة جاء بناءً على دعوة دعا بها الشيخ أحمد أبو شرقاوي ( أو ما يسمى إلهامًا ) بعد أن رأي حُزن الوالد بعد موت ابنه في النيل فدعا له قائلا " اللهم أجبر كسره بنور الدين أبو البركات ...." (ص 64) ، والكل يَشْهدُ ويُقْرُّ أنه منذ هذا التاريخ ذهب مصطفي يونس إلى بيته وجامع امرأته ، حتى جاء نور الدين بعد تسعة أشهر بالتمام والكمال.
وفوق هذا وذاك ارتبطت حياة الشيخ نور الدين منذ ميلاده بنجم يظهر ، ولم يختفِ إلا يوم وفاته . وهذا ما أكده بصيري العبادي ، ففي أثناء رحلة السودان ، لاحظ بصيري أن صديقه صعد إلى أعلى الجبل ، وبينما هو فوق الجبل فإذا بنجم يظهر حتى احتل مكانه ، وقد توقف بصيري عند النجم ذي الذنب ، وإذا بشيء يدفع بصيري ليلتفتَ لنور الدين ، وما أن نظر حتى هاله ما نظر ، فقد رأى " شعاعًا يسقط على الأرض ينزل على رأس نور الدين ، ثم أخذت الأشعة تتساقط لتلفه في دائرة من نور ..لم يعد بصيري يرى غير النور ، أدرك أن هذا نجم نور الدين يستقر في مكانه " ( ص 233) ، وعلى الفور راح بصيري يصيح لقد شهدنا لك يا نور الدين ، ومكثوا ليلتهم ليحتفلوا بنور الدين ، وقد أعدوا جملاً للشواء ، وصَدَحَ بشير ود صالح بصوته ، وهم حوله يرقصون ويرددون الغناء ، وبعدها بدأ بصيري ينادي على نور الدين مقرونًا بالشيخ ، وتوقيرًا له ؛ فهو الذي رأى كرامته .أما محمود فيوم وفاة أبيه ، لم يعثر على هذا النجم الذي كان يراه دائمًا في السماء وسط النجوم ، وقد شُغِلَ بهذا النجم ، وما زاد من حيرته ما قاله بصيري عن أمر هذا النجم ، فاختفاء النجم ، يوم وفاة الشيخ له دلالته التي تؤكد الارتباط بين حياة الشيخ وميلاد النجم وظهوره ، واختفاء النجم وموت الشيخ . وهذا ما يدعم بناء البطل هنا كما يبنى البطل في السيرة ( راجع دور النجم في سير : فيروز شاه ، وسيرة بهرام شاه وحمزة البهلوان ، في كتاب الدكتور أحمد شمس : النبوءة أو قدر البطل في السيرة الشعبية العربية ، ص 119 وما بعدها ، ط 2، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، 2001).
وهناك من الإلهام الذي يعد بمثابة كرامة مثلما سبق أن ذكرنا مثل : كرامة الشيخ أبو الحجاج الذي زار الملك، وأيضًا معرفة الشيخ نور بقدوم ابنه محمود دون أن يخبره على غير عاداته. . وكذلك كرامة الشيخ لبصيري بأن هذا هو آخر عهده بالزنا ، فيمسك الشيخ برأس بصيري ، ويضغط ، وهو يتلو كلامًا حتى شعر بصيري أن كل الآلام قد انزاحت.وكذلك الدعاء الذي دعا به الشيخ لبصيري " اللهم اهد بصيري واعف عنه ..وأنر قلبه بنورك ، واستر عليه ستره للولايا في الدنيا والأخرة .." ( ص 195)
كل هذا يقودنا إلى أن هذه النماذج فوق امتلاكها القوى الخارقة التي لا تتوازي مع نموذج السوبر مان ، بل تفوقه في القدرات ؛ فإنها أيضًا تمتلك بصيرة تجعلها تَبُذُّ عن الأبطال السيّريين ، فقدرتها على الاستشفاف هي أحد مصادر القوي الأخري المميزة لها ، وأيضًا الغيبية ، ومن هذا نبوءة الشيخ أحمد أبو شرقاوى لمصطفي يونس ( والد نور الدين ) بأن الله سوف يرزقه ابنًا أفضل من الذي مات ويُسمّى بنور الدين ، وهو ما حدث ، وأيضًا نبوءة الشيخ الطيب بأن هذا الغلام '' نور الدين '' هو الذي سَتُغلق كرخانة رفيقة أخت ركابي على يديه ، وهو أيضًا ما حدث بعدما مسّ الوميض النواراني المنبعث من عينيه قلبها . وما حدث مع الشيخ نفسه '' نور الدين '' عندما تنبأ بعد سماعه أخبار اكتشافات مقابر قدماء المصريين في الأقصر ، بأنهم ( أي الحكومة ) تنبش قبورهم، وهو ما تحقق في أول مشهد للرواية رغم مرور زمن بعيد حيث التنبوء حدث ، بعد تخرجه في الأزهر ، أما يوم تحقق النبوءة ، فقد كان تجاوز السبعين عندما صدر قرار بهدم الساحة والجبانة ، فقام هو ورجاله بنقل الجثامين لمقابر أخرى حتى لا تعبث بها الحكومة . كما أنه تنبأ بموته ، فعندما جاءته ابنته منيرة غاضبة بعدما تردد خبر زواجه من فتاة في القرية ، وقد صَدّقت هذه المرة ، دخلت عليه وهي غاضبة تقدم له الطعام ، فقالت له وهي مرتبكة " أنت صحيح حتتجوز "(ص 53) فردَّ الأبُ في أسى "..أجوز ..أنا حاموت السنة دي "( ص 54) بل أنه يوم مرضه ، الذي مات فيه ، جاء جميع أبنائه من بلدانهم وكذلك بناته وأزواحهم دون أن يخبرهم أحد بأن الحاج مريض ، وكأنّ رسالة " ما " علوية جمعت بينهم دون اتفاق مسبق . ومن هذا أيضًا تحذيره لابنه محمود من خضراء الدمن ، وكأن الأب يعلم بما سيقع مستقبلاً مع إلهام التي أحبها محمود ، وجاءت تريزا لما وجدت إعجاب محمود بها وكشفت له أمرها ، وما تبع ذلك من مرض محمود حتى جاءه الشيخ الطيب فعاد إلى صوابه. وكذلك إخبار الشيخ الطيب يوم حضوره عقد قران نور الدين على عطيات ، بأنه يدخل بها بعد عودته من السودان ، وكأن الشيخ يعرف برحلة نور الدين للسودان .
العجيب رغم أن البطل منذ ولادته هُيئ لمثل هذا الوضع الذي عاش فيه ، حتى أنه جمع بين نموذجي البطل الحياتي والسيري الشعبي ، من خلال إضفاء كارزيما خاصة به ، هَيئت له القبول عند جماعته ، إلا أنه عند اقتراب لحظة الموت التي كان يُدْركها جيدًا ، أخذ يُهيئ لها نفسه ، ليس هو فقط ، بل سعى لأن يُروِّض المحيطين لاستقبال هذه اللحظة ( لاحظ إخباره ابنته بأنه سوف يموت هذا العام )؛ لأن المخيِّلة الشعبية وضعت الشيخ في منزلة أهالت عليه صفات قدسية [ حتى ابنه الذي يعيش معه ويراقبه عن قرب يقع في مثل هذه الحيرة التي خلقها نموذج الأب لكل من عرفه ، ويتساءل متعجبًا : " أي رجل الشيخ نور الدين " (ص 34) ] ، ومن ثم فعندما تأتي فكرة الموت لا يتقبلونها ، فهم رأوا في هذا النموذج صورة أسطورية ، يَصْعُبُ خَدشُها ، رغم أن المؤلف سعى لشدِّ الشخصية لعالمها الواقعي ، تَحَسُبًَا لمثل هذه النظرة مِنْ الذين نظروا للشيخ ووضعوه في دائرة قدسية . الشيخ نفسه يقول أن حياته متعلقة بالساحة والبربة ، وما أنْ صدر قرار الحكومة بالإزالة ، حتى بدأ الشيخ ينزوي على نفسه معلنًا أن حياته قد توقفت ، فعالم الشيخ مرتبط بالساحة والجبانة ، ومن ثم شعر الشيخ بافتقاد عالمه ؛ لذا آثَرَ الانسحاب ، وهو ما حدث بعد الموت ، فالأطباء عندما حضروا لإجراء الكشف عليه أجمعوا أن الحاج يعاني بعض الأرق والتعب ليس إلا ، لكن ما حدث فاق الجميع ، فأخذت صحته في التدهور سريعًا حتى صعدت الروح ، وما أن مات الحاج حتى اختفي النجم الملازم له ، وهو ما أعلم بصيرى أن أمرًا جللاً حاق بالشيخ فجاء من السودان ليكتشف موت صديقه ، وهو أيضًا ما لاحظه محمود " فقد اختفى النجم ذو الذنب ..أخذ يبحث عنه لم يجد له أثرًا "( ص 159).
هذه التهيئة التي قام بها الشيخ ومن قبله المؤلف ، كانت ضرورية ؛ حتى لا تقع الجماعة الشعبية المتعلقة بالشيخ في براثن الخطيئة . فمع أفعال الشيخ التي وصفت بالخارقة إلا أن لحظة الموت بالنسبة له ولمن شاهدها كانت طبيعية ، وأيضًا لم تحدث صدمة لمن تلقوا نبأ الوفاة ، اللهم أفراد أسرته – وإنْ كانت قليلة - وهذا طبيعي لعلاقتهم به وقربهم منه .
(5)
لم تكن علاقة التأثر بالمرويات الشعبية مقتصرةً على بناء البطل ، مثلما رأينا في نموذج نور الدين فقط ، وإنما تجاوزتها لتكون هذه المروية في أحد جوانبها تناصًا كليًا مع حكايات شعبية شغلت الذاكرة الجمعية ، بل صارت إرثًا عند التعبير عن المواقف البطولية في الزود عن الشرف مثلما نرى في حادثة عزيزة ويونس ، التي تكاد تكون تناصًا كبيرًا مع موال" شفيقة ومتولي " الذي حدث في قرية قريبة من أحداث الرواية ( في إحدي قرى سوهاج )، مع فارق المعالجة التي عولجت بها هنا القصة المُسْتَّنسَّخة ، حيث عكست -هنا - وعيًا وفهمًا من قبل ولي الأمر "الشيخ نور الدين" الذي لاذت به زوجة منوفي . ومن جانب أخر حكمة وروية في حل مثل هذه المشكلات التي تحتاج إلى بصيرة وقدرة على مسك زمام الأمور ؛ لما تُمثِّله مثل هذه المواضيع من حساسية مفرطة على الأقل في مثل هذه البيئة .
وبالمثل شخصية بصيري العبادي ، تتوازي في جوانبها المتمثلة في حب الحياة ،أو كما يطلق على نفسه " أنا ابن الحياة " ، صاحبة الفلسفة الحياتية ، التي تسعي للتعلق بمتع الحياة والذهاب إليها أينما وجدت مع شخصية شيبوب في سيرة عنترة ، أو بصورة شيبوب الخالدة حيث كان رسولاً بين عنترة وحبيبته "عبلة " ابنه عمه مالك بن قراد ، بعدما فرض عليه عدم رؤيتها ، فينقل له أخبارها ، ولكن بصورة معكوسة حيث هنا هو الصديق الوفي للبطل ، والذي تستميله رفيقة الغازية ، لينقل لها أخبار من تهواه " الشيخ " ، وقد يصل حد الإغواء إلى عرضها عليه مائة جنيه ذهب في مقابل رؤية عينيه .
بل إن البطل نفسه " نور الدين " قد يتناص مع أفعال أبطال ، ذاع عنهم الخوارق في المرويات السيرية ، مثل عنترة ، في شجاعته ، وأبو زيد الهلالي في شجاعته وصرعه لأعدائه ، بل أن المؤلف كثيرًا في وصفه للبطل ، يقرن وصفه بوصف أبي زيد الهلال ، فعندما شاهدته رفيقة أول مرة أثناء لعبه يقول الراوي " فانسحب قلبها متجهًا إليه، شدها هذا الغلام الذي يذكرها بأبي زيد الهلالي سلامة وهو يقاتل والده رزق بن نايل "(ص ص: 169-170) . فهذا الاقتران لا يأتي مجانيًا ، ولكن لتمثُّل البطل لكثير من صفات أبي زيد ، وهي صفات خارجية وبعضها داخلية ، مثل رغبة الشيخ تجميع المسلمين والمسيحيين في قريته ، على نحو ما فعل أبو زيد في توحيد قبائل بني هلال ، أثناء التغريبة ، وقتلهم للملك الغضبان ، مع اختلاف النهاية حيث الشتات والتفريق عمّ بني هلال ، وتناحرهم بعضهم البعض ، فقتل دياب الأمير حسن ، ثم مطاردة أبي زيد لدياب ، وليس الأمر مقتصرًا عليهم بل إن الأبناء قتلوا بعضهم بعضًا ،مثلما فعل نصر الدين بن دياب ، الذي هربت به أمه ، فجاء بعد ذلك مع الأمير صالح الذي أواهما ، وقتل بريقع بن الأمير حسن ، وشيبان بن أبي زيد ثم جلس على عرش أبيه بعد أن فتك ببني هلال .
لكن الفارق الذي يجب أن يوخذ في الاعتبار ، والذي أدركه مؤلف العمل ، أن هذه البطولات ، بطولات فردية ، قائمة على فرد مثل :عنترة أو أبي زيد الهلالي ، أو مثلما نري في سيرة الأميرة ذات الهمة . أما هنا فقد تجاوز المؤلف هذه البطولة الفردية التي كانت نموذجًا ظاهرًا وسائدًا في المرويات السيرية ، إلى بطولة جماعية ، لا يَقِلُ فيها دور أي شخص داخل العمل عن الآخر . كما أن أعمال الشيخ هنا / البطل ، كُلِّها تأتي في إطار جماعي ، أي أن وعي البطل لا يَفعلُ ما يفعلُ لِيُقَالَ أنَّه فارسٌ مِغْوار أو شجاعٌ أو يوصف بمثل الأوصاف التي وُصِفَ بها الأبطال الشعبيون ( راجع وصف عنترة ب "فارس بني عبس الأدهم وشجاعها المعلم " كما جاء في بعض الروايات ، والأميرة ذات الهمة حيث عُرِفَتْ ب" أم المجاهدين، وناصرة دين محمد خاتم النبيين " ، فالبطل هنا يُعبِّرُ عن أيديولوجيا الجماعة التي يعيش معها ، بل أن أفعاله والتي قد تأخذ بُعْدًا خارقًا تتواءم مع وعي هذه الجماعة ، لذا نجد القبول لهذه الأفعال دون الاعتراض عليها ، فمثلاً رغبة الجماعة في عدم هدم مسجد الحجاجي كما أرادت الحكومة ، تواءم مع الرؤية الشعبية التي راجت بأن الشيخ أبا الحجاج زار الملك وهدده على نحو ما أسلفنا .
كما أن المرأة -هنا- استثمارٌ لنماذج المرأة في المرويات السيرية ،وأيضًا في تراثنا الحي
" المكتوب" : الديني " التوراة " و الأدبي " ألف ليلة وليلة " . فالمرأة في يدها مقاليدُ الأمورِ ، بل هي الحاكمُ الناهي بصورةٍ مُسْتَتِّرَةٍ ، مُظْهِرة أو مُقَدِّمَة صورة الرجل التي يجب أن تكون, وإنْ كانت هذه الصورة مُنْتَّزَعَةً من بيئة الكاتب / الصعيد ، حيث المرأة هي العقل الذي يفكر به الرجل ، وجميع الأمور تتمُ بمشورتها وتحت موافقتها ، بل إنَّ الثأر الذي يُعدُّ أفةَ المشاكل في الصعيد ، هي التي تُشْعِلُ وتوقدُ جذوة ناره ، وإذا أُخْمِدَتْ النار تَنْفِخُ فيها حتى تَشْتَعِِلَ ، ويَلتهِبُ شَرَرُها الجميع ( وإنْ كان هنا المؤلف انحاز للمرأة ، فالمرأة زوجة منوفي هي التي أخبرت الشيخ برغبة زوجها وابنها الدفينة في قتل ابنتها ، بعكس دورها في التحريض على الأخذ بالثأر ، لكن هذا الانحياز طبيعي حيث الأمومة هي التي تحرك الأم ، وبالمثل في التحريض للثأر، فالأمومة هي التي تدفع بالمرأة لفعل ما تفعل) . وقد تتوازي بالحية ، كما صوّرتها الكتب المقدسة لدهائها وقدرتها على المراوغة ( فالحيّة كما جاءت في الكتاب المقدس ، مقترنة بالشيطان والإغواء " كان إبليس المتخفي في ثوب حية قد أغوى حواء على عصيان الله " ، وتارة مرتبط بالحيلة والمكائد ؛ لذا هي ملعونة من الرب " وكانت الحيّة أحيل جميع حيوانات البرية التي علّمها الرب الإله "( سفر التكوين 1:3). ( لاحظ إغواءات رفيقة لبصيري لجذب الشيخ إليها ) . لكن الصورة الأكثر رسوخًا هي صورة البطولة في التراث الشعبي خاصة نموذج الأميرة ذات الهمة ، وما قامت به من دور بطولي في دحر " القناصة " في عهد هارون الرشيد ، وكيف أنها خلّصت الناسَ من شرورها ، ثم دورها البطولي عندما اشتّدّت رحي الحرب بين الروم والعرب،وكيف أنها تغلبت على الملكة "زنانير" ، رغم أنها تغلبت على الكثير من الأبطال بما فيهم ابن ذات الهمة عبد الوهاب. فهذا النموذج البطولي يتناص كلية مع نموذج رفيقة بعد توبتها وزواجها من سيد الزغابي ، وكيف تحولت إلى أخري ، بل أنها حثّتْ زوجها للخروج يوم القبض على سعد زغلول ، وخروجها معه للقتال جنبًا إلى جنب يوم قطع الطريق على القطار المحمل بالأسلحة والقوات للإنجليز ، فقد فاق دورها دور الرجال ، حتي أمرها الشيخ نور ، بالعودة للبيت ورعاية شئون زوجها ، وبالفعل عادت ، إلا أنها لم تتخلَ عن دورها فقاومت قرار السلطات بخلع زوجها من العمودية ، فأمرت ابنه بأن يجلسَ مكان أبيه حتى يعودَ . هكذا أسبغتْ روح البطولة على رفيقة ، وصارت كأنها واحدةٌ من الأبطال السيّريين ، فيما قامت به .هكذا تشرّبت المرأة من البطولة التي أفرزها النص على شخصياته الرجال والنساء .
وهذا ما يؤكد ما سبق أن قلناه أننا بصدد بطولة جماعية وليست بطولة فردية ، وليس المقصود بالبطولة الجماعية أن البطولة غير مقتصرة على شخص بمفرده " وهذا حقيقي " ولكن نذهب لمعنى أوسع يتجاوز بطولة الفرد التي ترتكن عليه القبيلة وتجعل منه حاميها والذائد عنها مغبة الأعداء مثلما كان سائدًا في العصر الجاهلي ؛ وهو ما فسر- من جانب آخر - فرح القبيلة إذا ما ولد لها شاعرٌ، إلى ما هو أعمّ وأشمل حيثُ الوعي الجمعي وعي غير ذاتي ، بل هو موضوعي ، حيث يفهم القوي الخارجية ، المحيطة به.
-----
كاتب الدراسة أستاذ بكلية الإلهيات جامعة ريزه تركيا
جميل جداً هذا الكلام .. ولكن انا لا اريد هذا الكلام المطول .. انا اريد وصف شخصية الشيخ نفسهاً . ( نموذج من شخصية الشيخ ) ولكم منى جزيلًمن الشكر .....|


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.