ربما يراود البعض علي ضوء ما ذكرنا من تلك الاجتهادات التي بنيت علي أساس دراسات علمية جادة سؤال: وهل الخالق جل وعلا محتاج إلي كل هذا الوقت لكي يخلق السماوات والأرض وما عليها وهو الذي قال إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون يس82 وهل هناك تعارض بين هذا التحليل وبين قوله سبحانه الله الذي خلق السموات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش السجدة4. في الحقيقة إننا وكما سبق أن ذكرنا ونؤكد دائما أننا نحاول أن نوجد نقط الاتفاق بين ماورد في كتاب الله الكريم وبين ما وصلت إليه الأبحاث العلمية, ليس للتدليل علي صدق ما جاء في القرآن, فنحن مؤمنون والحمد لله بكل ما جاء فيه, وليس لإثبات أن القرآن كتاب علم, فالعلم من المتغيرات التي لايخضع لها كتاب الله الكريم فهو كتاب منهج وحياة وإعجاز, خاصة أننا نناقش مسألة ورد فيها نص بأن أحدا لم يشاهد خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسنا ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا الكهف51, وربما كان الهدف الوحيد من هذه المناقشات هو تشغيل العقل وإعماله علي ضوء ما أخرج الله لنا من علمه لكي نطبقه علي ما ورد في النص لكي يثبت به فؤادنا وتطمئن من خلاله قلوبنا, وللآخرين الحق في أن يقبلوا أو يرفضوا هذه الرؤية, فلا أحد يملك مفاتيح الغيب ليقول إنه يمتلك الحقيقة سوي الخالق عز وجل0 والنظر العقلي الذي دعا إليه القرآن الكريم لم يكن نظرا مجردا, بل كان وسيلة لهدف وغاية هي نفسها الغاية من وجود الإنسان علي هذه الأرض, فقد علمنا القرآن أن جميع الموجودات لم تخلق عبثا أو باطلا بل لغاية, فقد قال تعالي:'وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار'ص آية027 وقال تعالي' وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين0 لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين' الأنبياء16-17, فالإنسان الذي خلقه المولي عز وجل وجعله خليفته في الأرض, وفضله علي سائر المخلوقات, وميزه بالعقل والإدراك, وحمله عمارة الأرض وصنع الحضارة فيها, لابد أن يكون مسئولا عن استخدام وسائل الإدراك العقلية والحسية التي وهبها الله له وميزه بها عن سائر مخلوقاته ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا الإسراء36. وكما يشير بحث القرآن والنظر العقلي للدكتورة فاطمة اسماعيل محمد: جاء النظر العقلي في القرآن لعدة غايات هي:1- بناء العقل البشري بناء سليما عن طريق التفكير الصحيح طبقا للمنهج القويم الذي جاء به القرآن الكريم20- ادراك أسرار الموجودات عن طريق دراسة حقائق الأشياء دراسة علمية دقيقة شاملة كل جوانب الحياة30- الإيمان بوجود خالق مدبر حكيم, وإخلاص العبودية له في كل حركة من حركات الحياة40- اقامة الحياة علي الأرض علي أسس من الحق والعدل الأزليين الكامنين في بنية الكون وبنية الحياة0 ولقد جاءت مشتقات العقل في تسع وأربعين آية كلها بالصيغة الفعلية وليس بالصيغة الاسمية بلفظ عقل إشارة إلي وجوب استخدامه في التعقل كما يلي: صيغة( عقلوه) مرة واحدة.- صيغة( نعقل) مرة واحدة.- صيغة( يعقلها) مرة واحدة.- صيغة( يعقلون)22 مرة.- صيغة( تعقلون)24 مرة. ونعود مرة أخري للإجابة عن الأسئلة السابقة عن خلق الكون في ستة أيام, والتي في رأيي يمكن أن تكون بسيطة إذا أعملنا عقلنا قليلا, فالله سبحانه وتعالي يخلق ب كن في أول الأمر ولكنه يترك القوانين لتعمل بما وضعه لها في داخل هذا الأمر_ كن_, فالجنين في بطن أمه يخلق ب كن ومع ذلك يظل تسعة أشهر في بطن أمه حتي يكتمل نموه ويخرج طفلا طبيعيا إلي الحياة, وعلي الرغم من ذلك- كما يفسر لنا فضيلة الإمام الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي- فطلاقة القدرة عند الخالق تجعله يأتي بين الحين والآخر لكي يكسر هذه القوانين حتي ندرك أن الموضوع ليس آلية القوانين وقدرة الطبيعة كما يدعي البعض, ولكنها قدرة خالق القوانين ومبدع الطبيعة, فيخلق آدم بدون أب وأم, ثم يخلق حواء من آدم فقط, ثم يخلق المسيح من مريم فقط, فليس غريبا أن يخلق الله الكون ويضع له القوانين التي تسيره بإرادته التي يمكن أن يغيرها حين يشاء. ثم نأتي إلي نقطة أخري وهي: هل يختلف ما سبق ذكره من إعداد الأرض للخلق, ثم خلق الإنسان في كل هذه المليارات من السنين عما ذكره المولي سبحانه وتعالي من أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش؟ الحق أنه ليس هناك خلاف في ذلك علي الإطلاق لأن الزمن هو عامل نسبي, فاليوم في الأرض غير اليوم علي القمر غير اليوم علي الشمس والكواكب الأخري, وربما كان دليلنا علي ذلك أن الثانية التي تمر دون أن نشعر بها تحمل في طياتها32 مليون جزء بمقياس الفمتو ثانية الذي توصل إليه عالمنا الفذ د.أحمد زويل, وقد ذكر الله سبحانه وتعالي ذلك في القرآن عندما قال يدبرالأمر من السماء إلي الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون السجدة آية5, وقال في آية أخري تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة المعارج آية4, إذن لا أحد غير المولي عز وجل يستطيع أن يدرك طول وزمن هذه الأيام الستة التي ذكرها الله سبحانه وتعالي في خلق السموات والأرض, وقد ذكر المولي جل وعلا ذلك في أكثر من موضع في القرآن الكريم حين قال إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين الأعراف54, وقال أيضا إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون يونس03 ثم تأمل الآية الكريمة التي يقول فيها المولي عز وجل: وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه علي الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين هود7, وقال أيضا الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش الرحمن فاسأل به خبيرا الفرقان59, ونجده سبحانه يقول أيضا_ هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير الحديد04 ويذكر المولي جل وعلا في آيات أخري نبذة عن خلق السموات والأرض فنجده يقول عز من قائل وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين, ثم استوي إلي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين, فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحي في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم فصلت10-12, وتأمل قوله تعالي في الآيات السابقة ثم استوي إلي السماء وهي دخان وتطابق هذا مع ما أثبته العلم الحديث من أن السموات والأرض كانتا شيئا واحدا انفصلا بفعل الانفجار العظيم الذي نتج عنه انفجارات هائلة جعلتهما كتلة متوهجة من النار والدخان وحدث لها التسلسل الذي سبق ذكره آنفا0