البعض يعتقد أن المولي عز وجل عندما يتحدث عن شئ سوف يحدث فإن السياق المنطقي- حسب ما نعرفه نحن كبشر, وحسب الترتيب التقليدي للزمن الذي تعلمناه( ماضي, حاضر, مستقبل) أن يأتي الفعل في المستقبل, إلا إننا نجد آيات في القرآن الكريم تتحدث عن أحداث سوف تحدث في المستقبل, إلا أن المولي عز وجل يرويها لنا بزمن الماضي مثل قوله' أتي أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالي عما يشركون' النحل1, وقوله تعالي' ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون. وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلي يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) الروم55-56. وعندما يتحدث المولي عز وجل عن وحدة الزمن في كثير من الآيات نجده سبحانه يذكر أحيانا أن السماوات والأرض قد خلقت في ستة أيام, ولكنه لم يقل' مما تعدون', مثلما قال عن يوم الحساب مقارنا بالزمن الأرضي وهو خمسون ألف سنة, فالمدة التي يقضيها المؤمن والكافر في هذا اليوم العصيب هي نفس المدة, ولكن الإحساس بها, وتقدير طولها وقصرها يختلف بينهما اختلافا شديدا, فالمؤمن يراه يوما قريبا قصير المدة, أما الكافر فيثقل عليه ثقلا شديدا, ويستطيل ذلك اليوم لشدته وهوله. ويفسر هذا المعني حديث رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري قال فيه: قيل لرسول الله( ص): يوما كان مقداره خمسون ألف سنة, ما أطول هذا اليوم؟! فقال رسول الله( ص):( والذي نفسي بيده إنه ليخفف علي المؤمن حتي يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا. ويرتبط هذا بالنظرية النسبية وماهية الزمن لديها, فعندما سئل أينشتاين_ صاحب نظرية النسبية- عن معني النسبية قال: لان تقعد مع امرأة جميلة ساعتين تحس أنهما دقيقتان ولان تجلس علي موقد دقيقتان تحس أنهما ساعتان, هذه هي النسبية. وفيما يتعلق بخلق السماوات والأرض في ستة أيام, والتي ناقشناها في المقال السابق فقد تلقيت هذه الرسالة القيمة من الدكتور عمرو شريف أستاذ الجراحة بطب عين شمس, الذي يتمتع بخلق رفيع وهو أيضا كاتب ومفكر وله أكثر من مؤلف رائع يقول فيها: أخي الفاضل.......اسمح لي ببعض المداخلات في إطار مقالكم الأخيرالمتميز بعنوان' خلق السموات و الأرض في ستة أيام', و تساؤلكم حول هل الخالق جل و علا محتاج إلي هذا الوقت لكي يخلق السماوات و الأرض و ما عليها؟ و قد اقتطفت هذه المداخلات من أحدث كتاب لي, بعنوان' رحلة عقل: هكذا يقود العلم أشرس الملاحدة إلي الإيمان'. تقديم أ.د. أحمد عكاشة. و تقوم علي نشره مكتبة الشروق الدولية, ليكون متاحا في معرض الكتاب الحالي إن شاء الله. و أبدأ مداخلاتي بطرح تساؤل علي القاريء: هل فكرت يوما, ماذا يوجد شمال القطب الشمالي؟ لا شك أننا لن نجد إجابة, إذ أن القطب الشمالي هو بداية الشمال علي كوكب الأرض, و بالمثل, إذا كان العلماء قد أثبتوا أن خلق الزمن قد بدأ مع خلق الكون بالانفجار الكوني الأعظم, فإذا فكرنا ماذا كان قبل بداية الزمن؟ و ماذا سيكون بعد نهاية الزمن؟ فسنجد أن الإجابة علي هذه التساؤلات صعبة,ولكن سنحاول أن نقربها إلي الأذهان. لقد حدث الانفجار الكوني الذي نشأ عنه الكون منذ7,31 مليار عام, فإذا رجعنا في الزمن عاما قبل عام حتي وصلنا إلي العام( صفر), فلن نجد قبله شيئا. لن تكون هناك مادة أو طاقة أو مكان أو زمان, و هذا ما يسميه علماء الكونيات' العدم المطلق'Absolutenothingness, و عندها نكون قد انتقلنا إلي ما يسميه علماء الدين' الأزل', أي ما قبل خلق الزمان, و بالمثل, إذا أضفنا إلي عمر الكون الحالي سنوات و سنوات حتي تنتهي حياة الكون, عندها تفني المادة و الطاقة, و يتلاشي المكان و الزمان, و نعود إلي عدم مطلق, يطلق عليه اسم' الأبد' إذن فالأزل و الأبد مفاهيم خارج حدود الزمان. ولقد أقر علماء الكونيات المنصفون أن علومهم تبدأ مع الانفجار الكوني وتنتهي عند نهاية عمر الكون, أما' الأزل والأبد' فهي مفاهيم تقع خارج نطاق علمهم, ويحيلون القضية إلي أصحاب السبق فيها, و هم الفلاسفة و علماء الأديان, كذلك يخبرنا عالم الفيزياء العظيم' ألبرت أينشتاين' أن نظريته النسبية تتماشي مع نظرة الأديان السماوية إلي الله عز و جل. فإذا كان الزمن يمثل بعدا رابعا مكملا لأبعاد المكان الثلاثة, فإن الإله الموجود خارج المكان ينبغي أن يكون موجودا أيضا خارج الزمان, إذن فالله عز و جل أزلي أبدي( يسبق وجوده وجود الزمان و يبقي آبدا بعد فناء الزمان), و هو في زماننا الحالي خارج إطار الزمان أيضا, أي لا يسري عليه تتابع الليل و النهار, و لا مرور الساعات و الأيام و الأعوام. إنطلاقا من هذه المفاهيم التي وضحتها لنا الفيزياء الحديثة, تتضح لنا مفاهيم دينية كثيرة كانت تعجز علماء الطبيعة و علماء الدين, نوضح بعضها فيما يلي: إن استشعارنا لتتابع الأحداث, فنشعر بأن هذا حدث قد مضي, و هذا أمر حاضر, و هذا حدث مستقبلي, و هذا الحدث استغرق فترة كذا قبل حدث كذا, كل هذه تصنيفات نرصدها وندركها نحن, أما الله عز و جل فلا يخضع لهذه النظرة, لذلك فالله عز وجل يفعل كل شيء في آن واحد بكلمة' كن'. فإشراق الشمس و غروبها مثلا يحدث بكلمة' كن', و يبني عليها ما نرصده نحن من شروق و غروب كل يوم, منذ خلق الله الأرض و حتي قيام الساعة. كذلك فإن أفعالنا كلها منذ الميلاد و حتي الوفاة, بل منذ نشأة آدم أبو البشر و حتي آخر إنسان في الوجود, إنما هي بالنسبة لله عز و جل أمور آنية لحظية, ليس فيها فعل يسبق فعل. و من ثم تصبح قضية معرفة الله عز و جل بأفعالنا التي لم تقع بعد غير ذات بال. فهذا المفهوم يخضع له الوجود المخلوق( و منه الإنسان) الذي يخضع لتتابع الزمان, ولايخضع له الله عز و جل, الذي يدرك الأمور كلها من بداية الخلق إلي نهايته كأنه لوحة واحدة. كذلك إذا كان يصعب علي البعض تصور كيف سنحيا- بعد البعث من الموت- حياة أبدية في نعيم أو عذاب, و لا يستطيعون تصور حياة أخري لا نهاية لها, فإن طرحنا هذا يبين أننا سننتقل من وجود يمر فيه الزمان إلي وجود لا زمان فيه, و بالتالي يكون وجودا باقيا أبديا. و ربما يوضح هذا ما جاء في الحديث الشريف من أن المؤمنين يحيون في الجنة حياة لا تشرق فيها شمس و لا تحجبها ظلمة ليل, و إذا كان للإنسان وجود أبدي في جنة أو جحيم, فهل كان لنا وجود أزلي قبل خلق الزمان؟! للصوفية إجابة علي هذا التساؤل حول بداية وجود الإنسان. إنهم يقسمون الوجود إلي وجودين, وجود في عالم الشهادة ووجود في علم الله. فنحن موجودون في هذه الدنيا منذ آلاف أو ملايين السنين, أما وجودنا في علم الله فهو وجود أزلي, أي لا بداية له. فحاشا لله أن يكون وجودنا غائبا في علم الله ثم طرأ عليه, ولقد عبر بعضهم عن تتابع ظهور الأحداث في الدنيا بقوله' أمور يبديها و لا يبتديها'. أي أن الله عز و جل يبدي( يظهر) الأحداث في عالم الشهادة في الوقت الذي يشاء, بعد أن كانت موجودة في علمه منذ الأزل. وهذا الطرح يحل ببساطة الكثير مما أشكل عند بعض علماء الدين من المفاهيم العلمية, مثل نظرية التطور. فإذا كان البيولوجيون التطوريون يرون أن الإنسان قد خلق تطورا عن أسلاف له من الثدييات, و يملكون علي ذلك الأدلة من علوم البيولوجيا الجزيئية و الأجنة و الثدييات, فإن خلق الإنسان عند الله في حقيقته عمل آني واحد حدث بكلمة' كن', حتي و إن ظهر لنا في الدنيا علي صورة خلق تطوري. و محصلة هذا الطرح, أن مفاهيم مثل خلق الساموات و الأرض في ستة أيام, و اليوم الذي مقداره ألف سنة أو خمسين ألف سنة, و كل ما ورد بخصوص خلق الكون و الإنسان في النصوص القرآنية, إنما هو تصوير للأمر كما نرصده نحن البشر كمخلوقين نخضع لمفاهيم الزمن, الزمن الذي يمر كسيال ممتد أو نهر جار يتغير ماؤه كل لحظة. أما الوجود الإلهي الأزلي الأبدي الذي لا يحيط به المكان ولا يحده الزمان, فوجود آخرلا يخضع فيه الخالق للقوانين التي خلقها, تعالي الله عز و جل عن ذلك علوا كبيرا. المزيد من مقالات عبد الهادى مصباح