استنكر بيان مجمع البحوث الإسلامية ما صدر عن الأنبا بيشوي، وكنت أتوقع أن يصدر عن هذا المجلس رد وإجابة عن أسئلة بيشوي المثارة، منها لغلق الباب أمام آخرين قد يرون تشابهًا أو تعارضًا، ومنها توضيح الصورة للعامة من المواطنين، سواء من المسلمين أو المسيحيين، لكنهم استسهلوا واختاروا التنديد والاستنكار، وأظن أن السؤال ما زال قائما: هل مات المسيح في القرآن أم رُفع؟. هل المسيح قُتل أم تُوفي أم رُفع حيًا؟، هل القرآن الكريم أخبرنا بموته أم برفعه؟، وماذا عن الآيات التي تشير إلي موته والتي تؤكد رفعه؟، وإذا كان المسيح في القرآن قد مات أو قد رُفع فما وجه الاختلاف بينه وبين ما جاء في الأناجيل؟! الأنبا بيشوي - سكرتير المجمع المقدس بالكنيسة الأرثوذكسية - طرح في محاضرة له بدير الأنبا إبرام في الفيوم، فكرة تعارض الآيات القرآنية حول ما حدث للمسيح، وتساءل وهذا حقه: إن المسلمين يقولون إن المسيح لم يمت علي الصليب اعتمادًا علي ما جاء في سورة النساء: «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم..» 157، في الوقت نفسه يؤكد القرآن أنه قد مات، وذلك في قوله: «والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أُبعث حياً..» 33 مريم، وقوله في آل عمران: «يا عيسي إني متوفيك ورافعك إليّ..» 55، فهل المسيح مات أم رُفع حيًا؟، ولماذا ينكرون أنه مات علي الصليب؟. أسئلة الأنبا بيشوي هذه أقامت الدنيا ولم تقعدها، فقد استنكرت بعض الجهات والأشخاص كلامه هذا، واتهموه بالتسفيه أو التشكيك في القرآن الكريم، وطالبت بعض الأصوات باعتذاره وأخري بمحاكمته، حتي الأزهر الشريف تعامل معه من هذا المنطلق، وأصدر بيانًا سياسيًا بعد اجتماع للمجلس الأعلي للشئون الإسلامية دام ثلاث ساعات، حضره فضيلة المفتي ووزير الأوقاف وشيخ الأزهر وكبار العلماء في جامعة الأزهر ومشيخته، استنكر البيان ما صدر عن الأنبا بيشوي، وكنت أتوقع أن يصدر عن هذا المجلس رد وإجابة عن أسئلة بيشوي المثارة، منها لغلق الباب أمام آخرين قد يرون تشابهًا أو تعارضًا، ومنها توضيح الصورة للعامة من المواطنين، سواء من المسلمين أو المسيحيين ، لكنهم استسهلوا واختاروا التنديد والاستنكار، وأظن أن السؤال ما زال قائما: هل مات المسيح في القرآن أم رُفع؟، الذي يجب أن نتفق عليه ونكرس له في ذهنية وثقافة المواطن المصري، أن هذا السؤال من الأسئلة المشروعة ولا غضاضة فيه أو منه، ومن حق بيشوي أو غيره أن يطرحه، كما له الحق أيضًا أن يشكك في ديانة الآخرين لكي يثبت عقيدته وعقيدة من يتبعون ديانته وملته، لكن شريطة أن يأتي تشكيكه هذا داخل الكنيسة وفي الحجرات المغلقة وليس علي الملأ، تمامًا مثلما هو من حق المسلم أن يستفسر عن بعض ما يلتبس عليه في العقيدة المسيحية، وهي أسئلة في ظني مشروعة قد تُطرح علي المتخصصين في القاعات المغلقة وليس أمام وسائل الإعلام، لذلك سنحاول في هذه الدراسة المبسطة أن نقدم إجابة للأنبا بيشوي وغيره ممن يقفون عند بعض المتشابه فيه، وقد اعتمدنا في هذه المحاولة علي أغلب كتب التفاسير العامة والمذهبية، كما اعتمدنا كذلك علي بعض التفاسير الحديثة والمعاصرة. وبداية نشير إلي أن الآية التي تحدث فيها المسيح عن نفسه في سورة مريم، نزلت ضمن القرآن الذي تلقاه الرسول - عليه الصلاة والسلام - في مكة، فالسورة مكية، أما سورتا آل عمران والنساء فهما ضمن القرآن الذي نزل عليه في المدينة. السلام علي في سورة مريم جاء علي لسان المسيح: «والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً» 33، وهنا المسيح يخبرنا أن الله عز وجل كرمه بتحية يوم مولده ويوم وفاته ويوم بعثه حيًا، والآية تتناول موته بشكل عام، ولم تحدد إن كان هذا الموت في الحياة الدنيا أو في السماء، خلال الرفع أو قبل الرفع، والآية تتناول أحواله الثلاثة مثله كسائر البشر، المولد والموت والبعث، فالإنسان يُولد ويموت ويُبعث حيًا مرة أخري يوم القيامة، والنص هنا يوضح ما خصه الله به في أحواله الثلاثة هذه، ومن هنا فهذه الآية إن كانت تشير إلي مرحلة الموت فهي لم تحدد موته علي الأرض قبل واقعة قتله علي الصليب أو عند رفعه إلي السماء، فهي كما يقال تتحدث عن أحوال ولا تثبت واقعًا، وقد نزلت هذه الآية في فترة البعثة المحمدية الأولي، عندما كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - مازال في مكة، وكانت هذه الفترة يعرض النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - فيها دعوته علي أهل مكة والقري المجاورة. متوفيك ورافعك بعد أن هاجر الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلي المدينة حدثت مواجهات بينه وبين اليهود والمشركين والمسيحيين وغيرهم، وفي المدينة نزل علي الرسول - عليه الصلاة والسلام - باقي القرآن الكريم، وقد نزلت ضمن ما نزل سورة آل عمران، وحكي فيها الله عز وجل للنبي محمد - عليه الصلاة والسلام - بعضًا من سيرة سيدنا عيسي، وأعلمه أنه عز وجل أخبر عيسي بأنه متوفيه ورافعه، وذلك بقوله : «يا عيسي إني متوفيك ورافعك إليّ..» 55، وهذه الآية تؤكد فقط أن الله عز وجل أخطره بما سيقع مستقبلاً، وذلك قبل محاولة قتله علي الصليب، والمسيح هنا لم يعرف حتي توقيت وقوع هذه النبوءة، ولا كيفية وقوعها، ولا حتي المكان الذي ستتم فيه مشيئة الله عز وجل، ونص الآية يحيلنا إلي الآية الخاصة به في سورة مريم، حيث تشترك معها في تكريم الله عز وجل لعيسي، كرمه في مريم بالتحية، وفي آل عمران بالمعرفة ، كما أنهما اشتركتا في إطلاعه علي بعض الغيب، في مريم إخطاره بالنعمة المستقبلية وهي السلام والتحية عند المولد والوفاة، وعند بعثه، وفي آل عمران بما سيقع له من وفاة ورفع، والذي يتأمل نص مريم ونص آل عمران يكتشف كلمة الوفاة، في الأولي: وفاتك، وفي الثانية: متوفيك، وهو ما أثار انتباه الأنبا بيشوي: هل تُوفي؟، وهل الوفاة قبل الرفع أم بعده؟. «والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا» هل هذا هو الموت الذي نعرفه وهل جري في الدنيا ؟ تُوفي بمعني نام المفسرون الأوائل اختلفوا حول دلالة الوفاة، البعض أخذ بظاهر النص، والبعض الآخر اعتمد علي العقل وما نسب عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - وكانت النتيجة انقسام المفسرين الأوائل والتابعين لهم حتي يومنا هذا في قراءة كلمة متوفيك ورافعك، وجاء.. القراءات كالتالي: القراءة الأولي: ويمثلها الربيع بن أنس( ت 140ه)، حيث قرأ متوفيك: منيمك، بمعني أن الله عز وجل أنامه ثم رفعه وهو في حالة النوم، علي اعتبار أن النوم مثل الموت أو أخو الموت، مستشهدًا بقوله تعالي: «هو الذي يتوفاكم بالليل..» الأنعام 60، وقوله تعالي: «الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها..» الزمر 42، وقد وافق هذا الرأي بعض المفسرين فيما بعد، من المتصوفة ابن عجيبة (ت 1224 ه) في كتابه البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ومن المذهب السني في العصر الحديث المرحوم الشنقيطي (ت 1393ه) في تفسيره «أضواء البيان في تفسير القرآن»، وأيضا الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمة الله عليه(ت 1418 ه) حيث أوضح في خواطره: إنها بمعني ينيمكم. فالنوم معني من معاني التوفي.. لقد سمي الحق النوم موتًا أيضًا، هذا من ناحية منطق القرآن، إن منطق القرآن الكريم بيَّن لنا أن كلمة «التوفي» ليس معناها هو الموت فقط ولكن لها معاني أخري.. مات ثلاث ساعات القراءة الثانية: قدمها عبدالله بن عباس(ت 68 ه)، ومحمد بن إسحاق (ت 151ه)، ووهب بن منبه اليماني(ت 114ه)، ورأوا فيها كلمة متوفيك بمعني: مميتك، وهب رأي أنه: تُوفي ثلاث ساعات ثم رفعه، وابن إسحاق قال إنه توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه، وقد وافق فيما بعد علي هذه القراءة بعض المفسرين في المذهب الأباضي، ومنهم: الهواري (ت القرن 3 ه) في كتابه «تفسير كتاب الله العزيز»، وأطفيش (ت 1332ه) في «تفسير هميان الزاد إلي دار المعاد». استوفيته القراءة الثالثة: قدمها كعب الأحبار(ت33ه)، والحسن البصري (ت 110 ه)، وعبد الملك بن جريج (ت150ه)،: متوفيك من الأرض، بمعني تفيه إياه، مثل توفيت مالي من فلان أي قبضته واستوفيته، وأصحاب هذا الرأي يرون أن الله أخر موته إلي بعد نزوله إلي الأرض مرة أخري، وساعتها سوف يميته ميتة طبيعية، وممن أخذوا بهذا الرأي نجد عند الشيعة الإثني عشرية الفيض الكاشاني (ت 1090 ه) في «الصافي في تفسير كلام الله الوافي»، وعند الشيعة الزيدية الأعقم (ت القرن 9 ه) في كتابه «تفسير الأعقم»، كما وافقهم من أهل السنة المعاصرين المرحوم الشيخ سيد طنطاوي(ت 1431 ه) في كتابه «الوسيط في تفسير القرآن الكريم»، حيث قال: «إن التوفي في اللغة معناه أخذ الشيء تامًا وافيًا. فمعني «متوفيك» آخذك وافيًا بروحك وجسدك، ومعني «ورافعك إليَّ» ورافعك إلي محل كرامتي في السماء فالعطف للتفسير. يقال: وفيت فلانًا حقه أي أعطيته إياه وافيًا فاستوفاه وتوفاه أي أخذه وافيًا كاملاً». قبضه بدون موت القراءة الرابعة: قدمها مطر الوراق(ت129ه)، وابن إسحاق (ت 151ه)، وعبدالله بن وهب(ت 197ه)، وقد قرأوا متوفيك بمعني: قابضك من الأرض، رافعك، قابضك ورافعك إلي السماء من غير موت، وقد أخذ بهذا الرأي عمدة المفسرين الطبري (ت 310 ه) في كتابه «جامع البيان في تفسير القرآن»، والقرطبي(ت 671 ه) في «الجامع لأحكام القرآن»، ونجده في «تفسير الجلالين» لجلال الدين المحلي(ت864ه) وجلال الدين السيوطي (ت911ه)، ومن أهل السنة الفيروز آبادي(ت 817ه) في كتابه «تفسير القرآن»، والإمام الطبراني (ت 360 ه) في«التفسير الكبير»، ومن المتصوفة القشيري (ت 465 ه) في« لطائف الإشارات»، ومن السلفيين أبو بكر الجزائري (م1921) في «أيسر التفاسير»، حيث يري أنه عز وجل أخرجه فأخرجه من سقف المنزل أمام حوارييه، ومن الشيعة الإثني عشرية الطبرسي (ت 548 ه) في «مجمع البيان في تفسير القرآن»، حيث رأي أنه عز وجل قبضه بمعني رفعه إلي السماء بدون موت، ومن الشيعة الإثني عشرية أيضًا علي بن إبراهيم القمي (ت القرن 4 ه) في «تفسير القرآن»، حيث رفع عيسي من زاوية البيت وهم ينظرون إليه، وأيضا الطوسي (ت 460 ه) في «التبيان الجامع لعلوم القرآن»، رأي أن الله رفعه حيًا بدون موت ولا نوم. «يا عيسي إني متوفيك ورافعك إليّ» ماهي الوفاة إن لم تكن الموت ومتي تم رفع عيسي -بن مريم ؟ الغيبيات حتي الآن لم نعرف، هل المسيح رُفع ميتًا أم حيًا أم نائمًا؟، ولماذا لم تأت الكلمات واضحة وقاطعة؟، ولماذا يختار الله اللفظ هكذا؟، والإجابة نتركها للشيخ الشعراوي حيث قال في خواطره: لأن الأشياء التي قد يقف فيها العقل لا تؤثر في الأحكام المطلوبة، والذي يعتقد أن عيسي عليه السلام قد رفعه الله إلي السماء ما الذي زاد عليه في أحكام دينه؟، والذي لا يعتقد أن عيسي عليه السلام قد رُفع، ما الذي نقص عليه من أحكام دينه؟، إن هذه القضية لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين، لكن العقل قد يقف فيها؟، فيقول قائل: كيف يصعد إلي السماء؟ ويقول آخر: لقد توفاه الله، وليعتقدها أي إنسان كما يريد لأنها لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين. من هنا نظن أن أفضل تفسير لهذه الآية جاء من قبل الشيخ سيد قطب(ت1387 ه) في كتابه «في ظلال القرآن»، حيث قال رحمة الله عليه: «لقد أرادوا صلب عيسي (عليه السلام) وقتله، وأراد الله أن يتوفاه، وأن يرفعه إليه، وأن يطهره من مخالطة الذين كفروا والبقاء بينهم وهم رجس ودنس، وأن يكرمه فيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلي يوم القيامة.. وكان ما أراده الله. وأبطل الله مكر الماكرين: إذ قال الله: «يا عيسي إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلي يوم القيامة..» آل عمران «55» فأما كيف كانت وفاته؟، وكيف كان رفعه؟.. فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله، ولا طائل وراء البحث فيها. لا في عقيدة ولا في شريعة، الذين يجرون وراءها، ويجعلونها مادة للجدل، ينتهي بهم الحال إلي المراء، وإلي التخليط، وإلي التعقيد. دونما جزم بحقيقة، ودونما راحة بال في أمر موكول إلي علم الله. الأنبا بيشوي إذا عدنا لاستفسار الأنبا بيشوي المشروع، نري أن القرآن الكريم لم تتضارب أو تتعارض نصوصه، والواضح أنه قد نفي تمامًا واقعة قتل المسيح علي الصليب، وكان النص قاطعا في ذلك بقوله: «ما قتلوه وما صلبوه..» النساء 157، واتضح أيضًا أن نص النفي هذا قد جاء لاحقا للنصين اللذين أخطر فيهما الله المسيح ببعض من الغيب، والثابت من آية آل عمران، أنه عز وجل أخبره بأنه سيتوفاه وسيرفعه، وأنه لم يخطره بتوقيت وحال الوفاة والرفع، وحسب ظاهر النص قد تُوفي المسيح ورُفع إلي السماء، وهذا يتفق مع النصوص الإنجيلية التي أكدت موته ورفعه أو صعوده، والاختلاف الوحيد هنا أن المسيح في القرآن توفاه الله وفاة طبيعية، وفي المسيحية مات مقتولاً علي الصليب، أما إذا استبعدنا ظاهر النص، فلنا أن نفسر كلمة الوفاة بما نشاء: النوم، القبض، الاستيفاء، التطهير، وهذه التفاسير مجرد اجتهادات، ولا يملك أحدنا إثبات صحة أحدها، وعلي آية حال ففي جميع الحالات فإن المسيح - عليه السلام، حسب النص القرآني، قد رُفع إلي السماء، والأقرب لظاهر النص أن الله عز وجل توفاه ثم رفعه، توفاه نائمًا مستيقظًا، في الليل في النهار، العلم عند الله، فلم يحضر أحد منا الواقعة، كما أن الله عز وجل لم يخطرنا بتفاصيلها.