رغم أن التحديات التي يواجهها النقد ترتبط بتحديات الثقافة ككل فللنقد خصوصيته ومشاكله النوعية التي يتعين أن نتأملها ونحدد أهدافها, ونبحث عن حلول لتذليل صعابها في ضوء الأوضاع الثقافية العامة التي لا تنفصل عن حركة المجتمع والعالم. وانما تترابط معها ولابد في البداية من القول ان النقد ابن المدنية, وابن الفكر الحر, وابن العدالة والديمقراطية والتحديث الذي لا يعرف الوساطة أو الانغلاق, ولا ينحاز إلا إلي الابداع وحده. وبقدر سلامة هذا الانحياز للفن والحياة, الذي لا يتعارض مع الموضوعية, يخرج النقد من محيطه الضيق, وينشأ الحوار مع كل التيارات المعاصرة, ويتحدد من خلال هذا الحوار سلم القيم, وأبعاد الحرية. وأول ما تجدر الاشارة اليه أن النقد العربي المعاصر, رغم كل ما كتب عنه من دراسات, لم ينتفع بالقدر الكافي بما في تراثنا القديم من نقد منهجي, انحصر معظمه في اللغة والجمال, كما نجد في أحدث صيحات النقد في الغرب. كأن الزمن لم يفصل بينهما بمئات السنين! ويعد كتاب الدكتور محمد مندور النقد المنهجي عند العرب عمدة هذه الكتب التي فتحت الباب علي مصراعيه لقراءة هذا التراث, وعقد المقارنة بينه وبين النقد الحديث, بما كتبه عن أصول هذا النقد مزودا بقراءاته الواسعة في الثقافة العالمية, وبالتحديد في علم الألسنة الحديثة, التي تري أن الأدب فن لغوي, وأن اللغة أو الصياغة مجموعة من العلاقات, وليست أداة لتحديد صفات الأشياء. وليس هناك فرق بين لغة الشعر ولغة النثر, أو بين الكلمات المطروقة والكلمات المهجورة في حد ذاتها. وبناء علي هذه الرؤية فان إقحام علم النفس أو علم الاجتماع في النقد ينأي عن طبيعته. ويقابل هذا النقص الفادح في فهم النقد العربي القديم لعلوم المعاني والبيان, نقص آخر لا يقل عنه فداحة, أعني به النقل الحرفي أو الانسياق وراء الاتجاهات النقدية الشكلية في النقد الغربي, ابتداء من ت. س. اليوت حتي رولان بارت ودريدا, سواء كان هذا النقل أو الانسياق عن النصوص الأصلية, أو عن طريق الترجمات غير الدقيقة التي يتكرر بعضها بين المشرق والمغرب. أو بين القاهرة وبيروت وتونس, وغياب الاتجاهات النقدية الملتزمة التي تحتفل بمضمون الأعمال الأدبية في علاقتها بالشكل, أي المادة بالصورة. وهو ما يمكن أن نعبر عنه بخطاب النص الذي يشمل كل مكوناته وعناصره. وتحت تأثير هذا النقد العربي استخدمت لاول مرة في النقد العربي الأشكال والألغاز والرموز الرياضية التي بدت للقراء كالطلاسم, لايستطيع أحد أن يفض غموضها ويردها الي الوضوح, فانصرف عنه القراء, وشكا كثير من المثقفين بل ومن النقاد أيضا من صعوبة فهمه. ولأن هذه المذاهب النقدية الغربية نشأت في ظل آدابها, فمهما كانت الترجمة العربية لهذا النقد الغربي دقيقة, فان تطبيقها علي أدبنا العربي الذي يختلف عن هذه الآداب, كما تختلف شعوبنا عن شعوبه, يعد خطأ فادحا, حتي لو كان هذا الأدب العربي متأثرا بهذه الآداب الغربية. ولا يقل عن هذا الخطأ خطأ استعادة المناهج الماضوية في التراث العربي, لأنها في طابعها وأساليبها مرتبطة بتاريخها, والتاريج متغير لا يثبت علي حال, وما يصلح منه للماضي لا يصلح لأي وقت آخر. وعدم النقل عن التراث أو عن الغرب لا يعني القطيعة معه, لأن فيهما بالضرورة من القيم الفكرية والفنية الخلاقة ما يتخطي كل زمان. واذا كانت هذه القطيعة ممكنة في العصور القديمة, فلا محل لها في عصرنا الذي تتشابك فيه المعارف والمصالح والغايات. ويكفي أن أذكر هنا, من مبادئ أو معايير النقد العربي القديم, عدم التقليل من الجانب الفني للابداع وان اختلف الناقد مع محتواه, لأنه من الممكن جدا أن يكون المبدع رجعيا, ولكنه في الوقت نفسه علي مستوي رفيع من الموهبة والقدرة الفنية. وبحكم أن الكتابات النقدية لا تجد مجالا لها للنشر إلا في المساحات الصحفية المحدودة, فاننا نراه لا يستطيع ملاحقة الانتاج الذي يتدفق من حولنا, كما نراه يفتقد العناية بجزئيات هذه الأعمال التي يتشكل منها, ويغلب عليه التعميم والايجاز والأحكام السريعة التي يصعب معها التفريق بين الناقد المثقف والناقد فاقد الثقافة, أو بين الكتابة النقدية والكتابة الصحفية. وهذا النقد الصحفي الذي لا يعدو أن يكون نقدا انطباعيا هو الذي يجمع بعد ذلك في كتب من المفترض أن تكون في عرضها وتحليلها أكثر عمقا وشمولا, تراعي خصائص الابداع كما تراعي رسالته. ولاشك أن مثل هذ ا النقد الصحفي الذي يخلط عادة الأدب بالسياسة, أو الأدب بالدين, نقد دخيل علي الحركة النقدية, يضعف حياتنا الثقافية بأسرها بدلا من أن يثريها. وحين تضعف الحياة الثقافية تضعف معها كل مؤسسات الدولة. وبسبب عدم وجود مجلات نقدية متخصصة تفرد صفحاتها للنقد النظري والتطبيقي لم يتح للدراما التليفزيونية علي سبيل المثال من يتوافر علي نقدها, رغم استئثارها باهتمام ملايين المشاهدين من كل الطبقات. ولو وجد هذا النقد للدراما التليفزيونية لطالع القراء مقالات عن أسامة انور عكاشة ووحيد حامد ومحمد صفاء عامر, الذين لم يلتفت النقد اليهم, كما يطالعون المقالات والكتب عن نجيب محفوظ وجيله من كتاب الرواية والمسرح. ويزيد الوضع سوءا انحسار الثقافة والنقد في الاذاعة والتليفزيون التي شهدت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي أمجادا حقيقية في برامجها المختلفة, وأخص بالذكر منها مع النقاد في الاذاعة التي كانت الأصوات النقدية لمحمد مندور ولويس عوض وعبد القادر القط وشكري عياد وعلي الراعي وغيرهم تجلجل فيها بالمعرفة والتنوير. واذا كانت التنمية الثقافية هي شرط التنمية والابداع في كل المجالات, المادية وغير المادية, فان النقد هو جوهر هذه الثقافة التي لا يمكن الاستغناء عنه, إن أردنا تنمية دائمة, وإبداعا حقيقيا.