لا ينظرالمترجم إلي اللغة باعتبارها نظامًا متحجرًا يكتبه ويتعلمه من القواميس وكتب قواعد النحو والصرف والبلاغة، بل يعتبرها كلامًا حيا علي الألسن والأقلام. كما لا يعتبر لغة الأصل واللغة المترجم إليها ألفاظًا مفردة تتكون من اسم وفعل وحرف وصفات وأحوال، وإن يكن ذلك هو الاعتبار الأخير في التعميم والتجريد. فقبل ذلك لا تجيء الكلمات فرادي، بل تأتي دائمًا جزءًا من أجناس الكلام، أي من صيغ نوعية هي وحدات الكلام كما يقول باختين، التي تتوسط بين البني الاجتماعية وبني التلفظات داخل النصوص نفسها في تولدها وتلقيها. وتلك الأجناس أو الصيغ النوعية للكلام هي وحدات أساسية للاتصال اليومي الحي، هي عادات لغوية في لغة الأصل والترجمة في التحية والعزاء وتبادل المجاملات وإصدار الأوامر والتعبير عن العواطف والمغازلات والتهديد والتحذير وقص الحكايات. أجناس أدبية وهي تراكيب نوعية لها خصوصيتها وليست مجرد أبنية نحوية وإن خضعت لقواعد النحو. إنها عناقيد من العادات الكلامية تضفي الخصوصية والنوعية علي الاتصال ومفتوحة لضغوط الحياة وتأثيراتها المتغيرة بين المهن والتخصصات المختلفة والاتجاهات المتنوعة والأجيال. وتعمل تلك الأنماط المستقرة نسبيا من العبارات التي يستعملها المتكلمون والسامعون في اللغتين علي بلورة شبكة من العلاقات مثل علاقات السيطرة فتجسد سلطة ونفوذًا ومكانة، أو إعزازًا ومشاركة. وفي بعض النصوص الأدبية تترابط تلك الأجناس أو الصيغ الأولية معًا داخل أجناس مركبة من قبيل القص والقصيد والدراما. وتنبثق هذه الأجناس الأدبية من خلال اتصال لغوي أكثر تعقيدًا وأعلي تطورًا. وهي تمتص صيغ الكلام الأولية وتهضمها وتدخل عليها التغيرات وتجعلها تكتسب طابعًا مختلفاً فاقدةً صلتها المباشرة الفورية بالواقع داخل بنية العمل الأدبي في اللغتين. وعند باختين لا تتألف البني النصية من تعاقب كلمات ومن أشكال نحوية وبلاغية فحسب، لأنها تراكيب تدمج داخلها أجناس الكلام اليومية في بناء وظيفي. وعلي المترجم أن يعمل علي أن يجد مقابلاً في لغته لهذه التراكيب الثقافية بكل تعقيداتها التي لا تختزل إلي مجرد تعاقب كلمات. ففي لغة الأصل ولغة الترجمة تكون الأجناس الأدبية طرائق للتوجه في الواقع ونحو كلمات الآخرين وتوقعاتهم وقبولهم ورفضهم. وتستدعي الترجمة الأخذ في الاعتبار تشكيل القيم المختلفة في هذا السياق. ونصل من ذلك إلي أن ترجمة معني النص الأدبي لن تكون متعلقة بترجمة علامة لغوية مفردة في تجاورها مع علامة لغوية أخري، فليست تلك إلا الحدود الخارجية لإمكان المعني لا المعني الفعلي. وهنا لابد من أن يهتم المترجم بتحول المعني إلي علاقة تفاعلية بين الكتاب والقراء الذين يفترضهم النص وبين الكتاب والكتاب في تاريخ الكتابة وحاضرها، وبين هؤلاء جميعًا والسياق العام في حيز للاستجابة هو المعني الذي علي المترجم أن يقرأه في قراءته الخاصة للنص ككل. وحتي الكلمة الواحدة سيكون معناها هو استعمالها داخل شبكة من أشكال الحياة الاجتماعية، هو أثر خطابات تحكمها اللغة دون أن يختزل إلي مجرد لغة، أي أنه ممارسة كما هو بنية، ويتعلق بمقتضي الحال كما هو معطي أيضًا في الصيغ النوعية للكلام. فالمترجم لابد أن يعني بتطبيق الثوابت المعجمية والتركيبية علي مواقف مرنة سيالة، وأن يهتم بالمعني المعياري الذي تكتسبه الكلمة في كل سياق خاص، ومراعاة الفوارق بين الكلمات المعزولة خارج أي سياق والكلمات كما تستعمل في مواقف محددة. صلة روحية فليست اللغة جدولا للتسميات، ولا تتساوي اللغات في تصنيفها ورؤيتها للعالم الخارجي، فكل لغة ترسمه علي طريقتها، وكل لغة تختلف عن الأخري في دلالات مفرداتها، أي في طريقة تناولها للعالم. إن العميد طه حسين في مقدمته لترجمة أحمد حسن الزيات لآلام فيرتر لجوته تطلب واستوجب أن تقوم صلة روحية وفكرية بين المؤلف والمترجم، أن يلبس نفس المؤلف، أي أن يتقمصه وينقل إلي الناس شعوره وحسه وعواطفه وميوله وأهواءه كما يجدها ذلك المؤلف. فالمترجم، وفقًا لطه حسين، يحس كما كان المؤلف يحس ويري الأشياء كما كان يراها. أما مترجم الشعر فيجب أن يحاول أن يجد في لغته معادلا ً شعريا للآثار التي يترجمها، فيترجم جمالها وخصائصها الأسلوبية وروحها الداخلية، ويبدع في لغته معادلاً فنيا للأصل، فترجمة نص أدبي لا تقف عند ترجمة المعني فقط، بل تمتد إلي ترجمة الخصائص الجمالية أيضًا؛ بلاغة اللغة وإيقاعها. أي أنه في المرحلة الأولي من الترجمة يتعين فك رموز النص وتحصيل المعني، ثم بعد ذلك تجيء صياغة هذا المعني في رموز اللغة المنقول إليها. ولكن في بعض الأحيان قد يكون المعني في بطن الكاتب، فيفرض ذلك ضبابية المعني ويتطلب جهدًا في الترجمة. ثم إن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخري من جميع جهاتها، ولا تعبر ألفاظها عن المعاني وظلالها التي تعبر عنها ألفاظ لغة أخري، فاللغة ليست مجرد فهرس توضع فيه الألفاظ مقابل الأشياء والكائنات. فهناك أمام المترجم سباحة في فضاءين، فضاء النص الأدبي وفضاء الثقافة واللغة المنقول إليهما النص. المركزية الأوروبية والشرقية ولا يغفل المترجم من اللغات الأوروبية إلي لغات العالم الثالث، ومن بينها العربية، سردية المركزية الأوروبية وواجب انتقادها ورفضها إن كانت صارخة في النص المترجم. وقد يواجهها بسردية مماثلة عن مركزية التراث الثقافي العربي الذي يمتلك في رأي البعض جوهرًا نقيا لا يأتيه التغير لأن هويته متصلة تحيا دائمًا في ماض مستمر. وقد يرفض المترجم الاتجاهين ويعتمد علي تعددية الأنظمة الثقافية في العالم وعلي التفاعل بين تجربة الحياة الغربية واللغة المترجمة إليها، مما يضيف إمكانات لغوية مبتكرة إليها. وقد يري المترجم أن ثقافته ليست أسيرة خصوصيتها وانغلاقها في معزل عن الثقافات الأخري، فيراها مختلطة دومًا بهذه الثقافات الأخري في ماضيها وحاضرها مما يمكن المترجم من تجسير الهوة بينها، فهناك ممارسات مشتركة قد تصير يومية مألوفة. ولأن الترجمة متغلغلة في الحياة اليومية الفعلية في عالم اليوم الذي تترابط أجزاؤه واقتصادياته وسياساته داخل المجال الدولي المعولم فذلك يفرض تلاقح ثقافاته وتداخلها علي الرغم من نزعات السيطرة الصريحة أو المقنعة. ويؤدي ذلك إلي أن درجة رواج النماذج والتوقعات والأنواع الأدبية السائدة والمعايير النمطية هي التي تحدد ما يجري اختياره للترجمة. وقد يرفض المترجم المركزية الأوروبية ولا يوافق علي اعتبار المعايير الأوروبية معايير طبيعية أو مباديء إنسانية شاملة، وذلك دون أن يتنازل عن الطموح إلي معرفة الآخر الأكثر تقدمًا ودون تشويه لهذه المعرفة. وربما يقوم المترجم بالتفسير والتأويل لما يترجمه مما يضعه في تعاون وثيق مع مؤلف النص الأصلي، ولا يجعله مجرد ناقل للمعاني اللغوية سليمة من لغة إلي لغة أخري (أي ناقل معني جزئي مقابل معني جزئي)، أو مترجم كلمة ثم الانتقال إلي الكلمة التالية. فلابد له من ابتكار ترجمة للأسلوب العام وبلاغة اللغة كما قيل قديمًا. وهنا مجال لأصالة المترجم في لغته دون تقيد بالترجمة الحرفية، فهو يكتفي بالتمكن من فهم معاني النص وإخضاعها لمعايير لغته التي تختلف معاييرها عن لغة الأصل. وهذا الاختلاف قد يفضي في نظر المترجم إلي انسجام بين ميزات أجمل السمات عند الأمم جمعاء. وفي البداية لابد أن يكون النص المترجم مقروءًا من جانب متلقين في لغته المنقول إليها، دون أن تستهدف الترجمة القراء الذين لا يعرفون لغة الأصل وحدهم. ولا تنقل ترجمة الأدب معلومات في المحل الأول من الأصل، فهي ليست الشيء الأساسي في الأدب، ففيه الجمالي الشعري والذاتي والغامض ولا يستطيع أي مترجم أن ينقله إلي لغته الأخري إلا إذا كان أديبًا علي نحو ما في تلك اللغة لأن الترجمة أيضًا أسلوب في الأداء. وهناك قرابة بين اللغات تتبدي في الترجمة، وتلك القرابة لا تعني التشابه الأساسي، فالترجمة أكثر من إعادة المعني. ولا تستطيع الأمانة في ترجمة الكلمات أكثر من إعادة إنتاج الدلالة التي لها في الأصل، فالدلالة الأدبية ليست مقصورة علي المعاني الحرفية لكلمات، فهي أيضًا مستمدة من الهالات (التضمينات) المحيطة بالكلمات. كما أن خطأ المترجم قد يتمثل في تمسكه الصارم بالحالة التي تصادف أن كانت لغته تمر بها، بدلاً من السماح لها بأن تتأثر بقوة اللسان الأجنبي. فقد يكون من الواجب علي المترجم أن ينفذ إلي العناصر الاستهلالية الأصيلة في اللغة وصولاً إلي النقطة التي يلتقي فيها الفعل والصورة والنغمة لكي يوسع ويعمق استعمالات لغته بواسطة اللغة الأجنبية. وقد تسهم الترجمات الممتازة في خلق مركز إنساني كلي يستطيع إجادة التعبير عن المشاعر والأفكار في أقطار متعددة.