لن يكون الهجوم علي مصر وما تقوم به من إنشاءات حماية ووقاية علي حدودها هو آخر تجليات المنطق المغلوط والعبث السياسي والتهافت الإعلامي السائد في المنطقة من حولنا. فقد احتل العبثيون مساحة من العقل العربي يروضونه كيف شاءوا,ومن ورائهم راشدون آخرون يعرفون كيف يستفيدون من العبث العربي السائد في كل أزمة وفي كل حدث. ولأن مصر تقف علي الدوام في قلب أحداث المنطقة, فإن نصيبها من عبث العابثين أكبر من غيرها,فلقد اعتدنا في مصر أن نتلقي الكثير من الاتهامات, واعتدنا أيضا أن نمضي في سياساتنا الوطنية والقومية والإقليمية بوحي من أن المصالح العليا الوطنية والقومية التي نعمل من أجلها سوف تقمع طموح العابثين,وتضيء عقول المخدوعين. هكذا كان الموقف من الحرب في العراق ولبنان ومسلسل الأحداث في غزة منذ أن ابتلي الفلسطينيون بحفنة من المتطرفين يسوقون الأشقاء هناك إلي المذابح, ويذيقونهم آلام الجوع والمرض. العبث الساخر في المنطقة يغفل عن عمد جريمة الذين عطلوا وصول نحو خمسة مليارات دولار سعت مصر لدي الدول المانحة لتوفيرها لإعمار غزة, وإنهاء المأساة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها سكان القطاع,حيث تغافل العبثيون عن تلك الجريمة حتي يستمر التهريب عبر الأنفاق تحت ذريعة توصيل المعونات الغذائية والطبية للمحاصرين في القطاع. العبثيون يغفلون حقيقة أن سكان القطاع لايمكن أن تستمر الحياة بهم وهم ينتظرون وصول قافلة إغاثة من هنا أو هناك, إحسانا من المتعاطفين معهم, وقد تأتي اليوم وتتوقف غدا. إن الفلسطينيين بحاجة إلي من يضع حدا للمشكلة بأسرها, ويجمع كلمتهم ويوحد بين صفوفهم ليخوضوا غمار معركة التفاوض واستعادة الحقوق,ولكن العقل العبثي لاينتج سوي المزيد من اللامعقول, زمن يضيع,وأمراض تنتشر,وجوع ينهك القوة,ودماء تسيل بغير ثمن,وضباب يلف أجواء المنطقة,ويوفر المناخ للمزيد من العبث. لقد تمكن هؤلاء من خديعة الذين يعانون في الأرض الفلسطينية فاختزلوا قضيتهم في وصول قوافل الإغاثة والموانع التي تحول هنا أو هناك دون وصولها لهم.. أصوات قليلة أصبحت اليوم تتحدث عن حل ناجع للمعاناة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فلقد تصدرت قوافل الإغاثة المشهد, وتحول الهم الفلسطيني من الحياة في دولة آمنة مستقرة تتواصل علي أرضها أجيال وأجيال إلي انتظار وصول قوافل الإغاثة. وفي ظل المنطق العابث والمغلوط تعرضت مصر لاتهامات هؤلاء حين أقدمت علي وضع نهاية لانتهاكات حدودية صبرت عليها طويلا.. انتهاكات تذرعت دوما بتوصيل الغذاء والدواء إلي المحاصرين, وكانت في حقيقة الأمر تجارة لم تترك شيئا لم تتكسب منه.. من السلاح إلي المخدرات إلي البشر. لقد أخطات مصر بصبرها الطويل علي ظاهرة التهريب عبر الحدود تعاطفا وتضامنا مع الأشقاء في غزة وتخفيفا لآلامهم, ولكن تضامنها وتعاطفها اليوم يلقي النكران والجحود حين نفد الصبر علي الذين حولوا الأنفاق إلي متاجرة بكل شيء بما فيها معاناة الفلسطينيين في غزة. ............................................................ اليوم تتنكر بعض الأصوات لحق مصر في فرض سيادتها علي حدودها وكأن مصر التي تسامحت طويلا لابد أن تستمر في تسامحها حتي وإن أدي ذلك التسامح إلي الإضرار البالغ بأمن المصريين أنفسهم.. وعلي الحكومة المصرية أن تنتهك حقوق مواطنيها في الأمن حتي يرضي العابثون من العرب والفلسطينيين. وكأن علي مصر أن تمضي في تسامحها حتي تمتلئ شوارعها بالمخدرات والأموال المزيفة والسلاح والمتفجرات حتي يرضي هؤلاء. لقد كشفت مبررات حماية الحدود المصرية عن جرائم كثيرة لم تعد تخفي علي أي مصري, وبعد الكشف عن الحقائق أستطيع القول: إنه ما لم تقم الحكومة بحماية مصر من تلك الشرور والأضرار لطالبناها ببناء حائط أو سور أو منشآت, فليكن المسمي ما يكون.. ولكن أمننا أولي بالحماية خاصة أننا بذلنا في وضع حلول نهائية لمشكلة الفلسطينيين ما لم تبذله دولة أخري, وضحينا في سبيل ذلك بأكثر مما ضحي أي شعب آخر. وعقلية العبث للأسف تسللت إلي بعض منا يعيشون بيننا,يرددون في غير رشد منطق العابثين خارج الحدود, ويعملون من أجل تلك المصالح الضيقة, التي تخصهم دون اكتراث بأمن وطن ومصالح أمة فتحت قبة البرلمان, الذي يمثل شعب مصر ومصالحه, تتردد كلمات تستفز مشاعر المصريين وتشكك في مؤسساتهم, التي سوف تبقي لأجيال تالية تعمل من أجل هذا الوطن,ثم تتلقف أبواق الدعاية تلك الكلمات فتنشرها فتنال من موقف مصر أمام عقول مستنفرة وأخري مشوشة. لقد جئنا بهؤلاء إلي البرلمان ليرعوا مصالحنا, ويحفظوا لنا أمننا, لا أن يشككوا في مؤسساتنا أو يقايضوا مصالحهم بمصالحنا,أو يشوهوا مساعي استعادة الحقوق التي تنازلنا عنها طوعا من أجل الأشقاء في غزة بعد أن أسئ استخدام تلك الحقوق لتلحق بنا أمة وأفرادا كل أشكال الضرر. وقف البعض يشكك في موقف الأزهر من قضية الجدار, ووجدوا في هذا الموقف مناسبة لهم ولمن يمثلونهم لإضعاف مكانة هذه المؤسسة الدينية, التي كشفت التضليل, الذي يمارسونه بين البسطاء من الناس, لكن القضية برمتها ليست سجالا دينيا يخضع لاختلافات الفقهاء فيدلي كل فريق بما لديه من فتاوي وآراء فنتفق في أشياء ونختلف في أخري.. نحن أمام قضية أمن قومي لاتجوز فيه الاختلافات, والذي يدرك حجم الأضرار عليه وحده أن يقرر التدابير اللازمة.. ولا أعتقد أن الذين تناولوا القضية نفيا أو إثباتا من الناحية الدينية كانوا بأعلم من مؤسسات الأمن القومي بالأضرار والمخاطر الحالية والمقبلة. ............................................................ لا نريد لمثل تلك القضايا أن تصبح مجالا لمثل تلك الممارسات, التي يمكن أن نرد بها موارد الهلاك, فقرارات الأمن القومي أكبر كثيرا من أن تتحول إلي منتديات لتبادل الرأي والمشورة. إنني أحترم كثيرا فتاوي الأزهر بمؤسساته ورجاله, وأراها إسهاما ومشاركة محمودة في قضايا المجتمع, ولكنني لايمكن أن أراها مستندا يستند إليه متخذ القرار في قضية مثل حماية الحدود والأمن القومي من الأخطار. سوف تمضي مصر في مسعاها ولابد لها أن تفعل ذلك بعد أن أصبح معلوما لكل مصري مدي خطورة استمرار الوضع علي الحدود مع غزة علي ما كان عليه, وسوف يعرف الذين يهاجمون مصر اليوم من العقول العابثة أن الموقف المصري لايراعي مصالح مصر وحدها,ولكنه يصب في النهاية في المصالح العليا العربية والفلسطينية, فليس في مجمل مصالح مصر مصلحة واحدة تتعارض مع مصالح العرب والفلسطينيين,وسوف يعرف هؤلاء قريبا من كان أولي بالاتهامات والنقد والتجريح لقاء ما أصاب الفلسطينيين من جوع ومرض ومعاناة, فالأولي بالاتهامات هم من عطلوا مسيرة السلام وحالوا بين أهل غزة وحياة آمنة مستقرة. أولئك الذين جاءوا للسلطة بالاختيار الديمقراطي استنادا إلي اتفاقات دولية, وحين وصلوا إلي سدة الحكم تنكروا لكل شيء من الاختيار الديمقراطي إلي الاتفاقات الدولية, التي جاءت بهم إلي سدة الحكم.. أولئك الذين تسلطوا علي الشعب الفلسطيني وأحكموا قبضتهم علي إرادته فقيدوا كل مسعي للحل, وجعلوا من أنفسهم بوقا لنشر أفكار غيرهم, ويدا تعمل لحساب غيرهم.. وهم الذين حولوا مسيرة كفاح طويلة ومساعي لم تتوقف بالسلاح والمفاوضات إلي قوافل للإغاثة تأتي اليوم وربما لا تأتي غدا.