كتب من قبل الكثير والكثير من الدراسات النقدية عن مسرح توفيق الحكيم ولعلي لا أغالي حينما أعلن أن بعض هذه الدراسات كانت دراسات احتفائية تفتقر إلي النظرة الموضوعية في تناول أعمال الحكيم المسرحية إذ يبدو لي أن العقلية العربية حتي وهي تمارس النقد تصبغ صبغة القداسة علي أعمال بعض الكتاب الكبار من منطلق أنهم كبار والاقتراب من انتاجهم الفكري يعد في ظنهم خطيئة كبري ترتكب في حق انصاف الآلهة. الرجل لم يأخذ حقه أزعم أن كثيرا من الكتابات النقدية التي كتبت عن الحكيم لم تعط للرجل حقه لأسباب مختلفة منها أن غالبية هذه الدراسات دراسات مناسبات- إن جاز هذا التعبير- تنطلق فيها المشاعر الجياشة في وصف عظمة الفقيد وسرد مآثره والتغني بأمجاده الماضية والبكاء علي فقده وهذا بالطبع لا يمنع أن هناك عدداً كبيراً من الدراسات النقدية الجادة التي كتبت حول مسرح الحكيم وابتعدت في نقدها عن لغة المناسبات ومن هذه الدراسات الجادة الدراسة التي صدرت عن هيئة الكتاب منذ سنوات للناقد والكاتب المسرحي د. أحمد سخسوخ والمعنونة ب «توفيق الحكيم مفكراً ومنظراً مسرحياً». لقد قام الناقد في دارسته هذه بإعادة النظر في مشروع الحكيم التنظيري الخاصة بالمسرح باعتباره أحد رواد المسرح العربي حيث يوضح الناقد في نهاية مقدمته الهدف من دراسته حيث إنها مدخل لدراسة تنظيرات الحكيم الفلسفية التي تفسر لنا رؤاه للإنسان والطبيعة وابتداعه لقالب مسرحي جديد وأفكاره عن اتجاهات درامية مستحدثة كالعبثية وإبداعاته فيها.. وتحتوي هذه الدراسة علي عشرة فصول كل فصل يقود إلي الآخر في تشابك درامي أشبه بالحبكة المسرحية المتقنة الصنع ففي الفصل الأول الذي يحمل عنوان «نظرة الحكيم الفلسفية التعادلية ورؤيته للعالم» حيث نشر الحكيم كتاب التعادلية عام 1955 الذي يعد المدخل الحقيقي لفكره وفلسفته وفنه في الحياة ونظرته الشاملة للعالم لذلك لم يكن غريباً أن يبدأ الناقد بإلقاء الضوء علي هذا الكتاب الذي يعد الباب السحري الذي سيدلف منه إلي باقي أبواب عالم الحكيم ورؤاه النقدية حيث يفترض الحكيم في كتابه «التعادلية» بأن الأرض تعيش بالتوازن والتعادل بينها وبين الشمس فإذا اختل هذا التعادل ضاعت في الفضاء كما يفترض بأن الإنسان كائن متعادل مادياً وروحياً. قالبنا المسرحي لقد شكل هذا المنطق الفلسفي وجهة نظر الحكيم في إبداعاته حيث ستتضح هذه الفلسفة وتظهر في مسرحه الجديد الذي دعا إليه ونشره عام 1967 في كتاب بعنوان «في قالبنا المسرحي» وهذا الكتاب هو مضمون الفصل الثاني من الدراسة حيث يفترض الحكيم في كتابه هذا أن كل المحاولات المسرحية منذ القرن الماضي الأصلية وغير الأصلية إنما تتحرك داخل الأشكال والقوالب العالمية حتي السامر نفسه والذي يخص تراثنا الشعبي ومن تلك الفرضية يطرح الحكيم سؤالاً عما إذا كان يمكن أن نخرج من دائرة القوالب العالمية في المسرح كي نبتكر لنا قالباً مسرحياً خاصاً؟ ولكن الحكيم في إجابته عن هذا السؤال يجد صعوبة في ذلك أن القالب العالمي السائد إنما هو حصيلة جهود متراكمة للإنسانية واستخدامنا له فيه النفع ودليل علي تحركنا داخل اطار الحضارة العالمية، والحكيم يقترح هذا القالب لكي يميز المسرح عن الفنون الأخري كالسينما ويختار الحكيم نماذج من الأدب العالمي ليصبها في قالب المسرح العربي الذي أنتجه فيختار اجانمون لايخيلوس وهاملت شكسبير ودون جوان لمولير ديرجنت ابسن ديستات الكرز وهبط الملاك في بابل لدورينمات في الفلسفة التعادلية حيث انعكس منظوره الفلسفي هذا علي تنظيره ورؤيته وبناء مسرحي ظهر في أوروبا ينظّر الحكيم لعبث جديد من منظور فلسفته الخاصة مما يسميه العبث المصري حيث يشرح الناقد من خلال العنوان الثالث في تلك الدراسة الذي يحمل عنوان منهج التفكير التعادلي في تحليل العبث الأوروبي وابتداع العبث المصري حيث قام الحكيم بنشر مسرحية «ياطالع الشجرة» عام 1962 وأطلق عليها في مقدمته المسرحية العبثية وفتح بذلك الباب علي مصراعيه للكتاب المصريين والعرب لاستكمال صورة هذا التيار، والحكيم يؤكد منذ البداية اتفاقه مع كتاب العبث الأوروبيين من حيث تساؤلاته من أنا؟ ما مصيري؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ولكن الإنسان في سعيه لا يتلقي الإجابة وبالتالي يستنتج كتاب العبث لا معني للكون وعبثيته ولكن الحكيم يختلف معهم في نظرته للكون والحياة. وإذا كانت العناوين السابقة للفصول الصغيرة التي كتبها الناقد د. أحمد سخسوخ قد احتوت علي عرض منهج توفيق الحكيم وتنظيراته الفلسفية المسرحية فإن العنوان الخامس من هذا الكتاب والذي يحمل عنوان «منهج الحكيم التعادلي وصدي الأفكار الميتافيزيقية» يحمل رؤية الناقد الموضوعية في طرح الحكيم فلسفته وإعادة صياغتها من خلال تطبيقاته المسرحية ثالثاً فالناقد قد يقوم بإعادة تقييم الفكر وتنظير الحكيم المسرحي من خلال نظرة موضوعية تخلو من أية كهنوت أو قداسة حيث يوضح الناقد أننا إذا طبقنا قانون الحكيم التعادلي علي حركة التاريخ لكان علي المجتمع البدائي أن يتوقف عن التطور. منذ ظهورالنوع الحديث من الإنسان والذي يقدر بنحو 10 آلاف سنة مضت حتي الآن لكي يحافظ علي قوتي التعادل فيه دون أن يغلب قوة علي أخري، إن أساس الفكرة التعادلية لدي الحكيم أن تقوم علي فكرة الانفصال لا التفاعل الجدلي وهذا كما رأينا من رواسب الفكر الميتافيزيقي لقد استمد الحكيم نظرته التجريبية هذه من ميراث الفكر الميتافيزيقي فالفكر لا يجب فصله عن العمل فالفكر يستمد عناصره من الواقع والعمل ثم يعود الفكر إلي الواقع والعمل ليرقي بهما ولا تجمعهما علاقة انفصال وإنما علاقة اتصال وحركة تبادل جدلي. ولا يقف الناقد عند خلل نظرية التعادلية بل يتناول أيضاً خلل مفهوم الحرية الذي طرحه الحكيم وذلك من خلال سؤاله: هل ولد الإنسان حراً في هذا الكون؟ فالحكيم يعرض مفهوم سارتر بشكل بعد به عن العمق الذي تناوله سارتر فنجد أن الإنسان لدي الحكيم حر ولكن حريته قصيرة وهو أيضاً مسئول مسئولية تنبع من حريته حيث يريد الحكيم في مناقشته للحرية أن يحافظ علي منهجه في التعادلية بين المتوازيين والمتعادلين ويوضح الناقد أيضاً خطأ الحكيم في ذهابه إلي أن الإنسان الأعلي يختلف عن إنسان نيتشه الأعلي حيث ترك زرادشت وطنه ليعيش في عزلة الجبل بعيداً عن البشر، كما يفعل إنسان الحكيم الأعلي الذي انفصل عن الناس ليجلس في برج عاجي وكما شبه نيتشه الإنسان العادي بالحيوان يشبه الحكيم الإنسان بالنحل.. ويواصل الناقد نقده الموضوعي بفكر الحكيم عن طرحه لمفهوم العبث الذي تستمده الكتاب الأوروبيون فيوضح كيف أن الحكيم وقع في عدة مغالطات حينما وصف الأسلوب العبثي بقوله «التعبير عن الواقع بغير الواقع» حيث أنه بذلك يتجاهل الذات الفلسفي الذي بدأ مع منتصف القرن الماضي بالهجوم علي العقل وانعكاسه علي الآداب والفنون كما أن الحكيم قد حصر نفسه في اطار شكلي ولا يكتفي الناقد هنا في دراسته بمسرحية واحدة كطالع الشجرة التي تآرجحت بين العبث الأوروبي وبين الأدب الشعبي بل يتخد من التأثيرات الغربية المكونة لفكر الحكيم حيث يوضح في فصله المعنون الأدب الشعبي إصدار تقنيات ارتيسكو وبيكيت في مسرح الحكيم مدي تأثر الأخير بهما ونزوعه العقلي والفكري ناحية الغرب وهذا ما يؤكده الناقد في فصوله الأخيرة «الطعام لكل فم» و«مصير صرصار».