رحلات صادق ابن عمي كان لها أعمق الأثر في طفولتي وصباي. فقبل أن أقرأ السير الشعبية كان وجداني مزدحما بالغناء أيامي كلها غناء في غناء, وذلك بفضل جهاز الجرامفون الذي ورثه أبي ومعه ما يقرب من أربعة آلاف اسطوانة مرفقة في أربعة صناديق كرتونية سميكة صلبة, وكل اسطوانة مدسوسة في جراب من الورق المقوي في وسطه دائرة فراغية تكشف دائرة ملونة مطبوعة فوق الاسطوانة ذاتها مكتوبا عليها بيانات باسم المؤلف والملحن والمطرب والشركة المنتجة, وصحيح أن أبي كان معتكر المزاج علي الدوام نتيجة للهزة الطبقية التي تعرض لها انتقل بتأثيرها من اليسر الكامل إلي العوز الكامل, ولم يكن يدير الجرامفون إلا في أوقات متباعدة تحت ضغوط من أصدقائه رفاق السهرة اليومية في المندرة حول منقد النار وزردة الشاي المطاطة بغير نهاية كلما احلو الكلام وتفتحت المواضيع, سيما وكل المواضيع حميمة مؤنسه بزاد من الذكريات الدافئة بما فيها من زخم فكاهي يقطر عبرة وحكمة وأمثالا, إلا أنني كنت أنتهز فرصة غيابه خارج الدار وأدير ما أشاء من الاسطوانات تحت إشراف ورقابة أمي أو عمتي رقية التي كنت أشعر بأنها تتواطأ معي لإشباع شغفها بالطرب والموسيقي, وكانت تخلع النفير حتي يظل الصوت خافتا, وفوق ذلك تغلق باب المندرة لأن الصوت بمجرد ظهوره سيلم العيال حول المندرة, وكل مار من الشارع سوف يتوقف لاصقا وجهه بحديد الشبابيك ليعزز الإستماع بالفرجة علي هذه الأعجوبة التي أثبتت أن الحديد قد نطق وهذا في انظار أهل بلدتنا نذير باقتراب يوم القيامة. ولئن كان الجرامفون أو الحاكي أعجوبة في أنظار أهل بلدتنا قادمة من خيالات ألف ليلة وليلة المليئة بأزرار يدعها المرء فتقلب الدنيا كلها رأسا علي عقب وتقام الأعراس والقصور والأفراح في لمح البصر فإن صادق بن عمي كان في نظري هو الأعجوبة الأكبر. ذلك أنه منذ أشتغل عطارا سريحا يجوب العزب والكفور والبلدان حاملا علي كتفه خرج ملآنا علي الجانبين بمئات من علب وقوارير وقينات وقراطيس وبكرات من الدوبارة, تفوح منه مدينة شرقية بأكملها من روائح نفاذة بعضها شرس وبعضها لطيف, بعضها منفر وبعضها جاذب, أصناف ذات أسماء معقدة, ناهيك عن الشطة والكمون والفلفل الأسود والشيح والينسون والقرفة وحلفاء البر, وورق العنب والجميز والكافور وقشر الرمان لعلاج الصدفية. يدهشني كيف اتسعت ذاكرته لاحتواء مالا يقل عن خمسمائة صنف مرتبة في خرجه ترتيبها في ذاكرته, يمد يده في جوب الخرج ليمسك بما يطلبه دون عكرشة أو قلقلة. هذه هي السلمكة المطحونة, بكم تريدين ياحاجة, بمليم, إتنين مليم, ببيضة, بحفنة قمح, ببضعة كيزان من الذرة, برغفين وقطعة جبن, كله ماشي. إن العملة التي يتعامل بها واسعة. معه جوال احتياطي فارغ يعبيء فيه محصول البيع, إن امتلأ يحمله علي الكتف الأخري, وإن جبره الله فوق ذلك بملاليم وقروش استأجر ركوبة توصله إلي أقرب محطة قطار يوصله الي مدينة دسوق أو طنطا أو كفر الشيخ أو الزقازيق ليتزود بالبضائع التي أوشكت علي النفاد. شهران ثلاثة علي الأكثر ونفاجأ به ليلا دائما ليلا يدلف من باب المندرة, يسبق خياله تعكسه اللمبة الكبيرة المعلقة في السقف بجنزير وثقالة كالنجفة, يفاجأ الجالسون بشبح من الظل يزحف علي الأرض محني القامة تحت خرج منطرح علي كتفه الأيسر من الجانبين, ويتأبط بذراعه اليمني جوالا مزموم الشفة تحت رباط معقود. ثم يدخل هو نفسه في أعقاب الظل فلا يكاد يظهر ثمة فرق بينهما. السلام عليكم!.. أو هوووووه.. هكذا يهتفون في نفس واحد له زئير حميم علي نغمة ترحيب تغني عن كثرة الكلام بأن تصر الشوق الحقيقي في صرة صوتية تشف عنه. علي هدهدتها يميل علي يد أبي فيطبع علي ظهرها قبلة, ثم يعتدل هاتفا: إزيك يا أبا أحمد. ودون أن يستمع إلي رد أبي يروح يسلم علي الجالسين واحدا واحدا في اشتياق وحرارة لو كانت أمي نائمة فلا بد أن تصحو علي ضجة الترحيب, ولابد أن تدرك أن صادقا هو الذي جاء وليس ضيفا آخر عندئذ تنهض قاعدة, تبدأ التفكير في بيضتين مقليتين أو بقايا طبق خبيزة يسند به الرجل قلبه المسكين العائد من سفر يهد حيل الجبال. عندئذ كذلك تعلمت أن أكون أسبق منها في الصحو وفي الاندفاع خارجا من القاعة إلي المندرة لأتقرفص بجوار أبي علي الكنبة. يطير النوم من عيني في الحال, عيناي المفنجلتان مصوبتان علي وجه صادق الذي أنزوي في ركنه المعتاد ساندا الخرج والجوال بين الكنبتين المتقاطعتين. قلبي يخفق ودماغي متحفزة لكل حرف سينطق به صادق. لسوف يحكي عن رحلته كل طريف وغريب ومثير وباعث علي القهقهة الصافية لوجه الضحك النادر المشتهي, الضحك علي ما يضحك بالفعل ويهز النفس هزا. مدن وقري وعزب وكفور ترن أسماؤها في فخامة ككائنات حيه, نساء عجوزات هتماوات شريرات وأخريات العكبانيات يلعبن بالبيض والحجر, رجال تعساء وبكوات بخلاء وعمد هزأة, حمير وبغال وجمال وقطارات وعربات كارو واتومبيلات, سينما, موالد, المشهد الزينبي والمشهد الحسيني والمشهد النفيسي.. الخ الخ. كان بالنسبة لي موازيا لكتاب ألف ليلة وليلة. هكذا اكتشفت بعد أن تعلمت القراءة مبكرا في كتاب القرية وقرأت ألف ليلة وليلة فخيل إلي أنها تقلد حكايات صادق ابن عمي. إنه هو الذي ساعدني علي اكتشاف الخيال منذ تلك اللحظة التي بدأت فيها فك الخط والانفتاح علي القراءة بشغف شبه مسعور. أردت أن أكون صاحب تجارب وحواديت لاتنتهي مثل صادق ابن عمي. وقد اكتشفت الخيال من حواديته لا من القراءة ذلك أنه كان يروي الحكاية الواحدة عشرات المرات في عديد من السهرات بين أنواع متجددة ومختلفة من المستمعين الشغوفين. وكنت ألاحظ كيف أن التفاصيل الدقيقة تنضج وتتضح في الحكي من مرة إلي أخري حسب إشعاع الجمهور المستمع إذ يكاد يشاركه بالإيحاء في إنضاج التفاصيل, يكاد يوجهه إلي الخطوط التطورية لهذه التفصيلة أو تلك: كيف اشتعلت النار في تلفيعتك؟ ماذا حدث لك عندما طب عليك زوج الهانم التي استدرجتك للدخول وهي شبه عارية؟ عد بنا إلي أول الحكاية عندما صحوت من النوم فجأة فوجدت نفسك عاريا كما ولدتك أمك مرميا في العراء علي قارعة الطريق دون خرجك وجوالك؟.. إلخ.. ليلة بعد ليلة كان الجمهور هو الذي يطلب منه حكاية موقف بعينه من الحكاية الفلانية. عندئذ يصل إلي ذروة عالية من التوهج والتركيز فيعطي الموقف حفنة من الأثارة والتشويق, لا لمجرد الإثارة والتشويق بل تبعا لمغزي أخلاقي أو إنساني إرتآه عبر مرات الحكي وتشبع به فجعل من حكايته تلك إطارا فنيا له. كنت أرتب حكاياته في ذهني وأصنفها تبعا للبلدان التي وقعت أحداثها فيها, وأحيانا تبعا لعدد البطلات النساء ما بين عجائز شريرات وأرامل تعيسات وزوجات شهوانيات فارغات العين, وأحيانا ثالثة تبعا للرجال المتعنترين شكلا كالفتوات وكيف يلجأون إليه في السر لكي يدبر لهم وصفه من العطارة تقوي الباه عندهم, وأحيانا رابعة بعدد لصوص الأسواق والشوارع والحواري وجميعهم بلا قلب يسرقون شقيانا مثله, ناهيك عن النصابين والمحتالين وأبناء الليل الذين كانوا يتسترون به تحت تهديد المطاوي للقيام بعمليات سطو ونهب لولا ستر الله لراح هو ضحيتها. ولما وجدت حكاياته عصيبة علي التصنيف اكتفيت بدرس عميق تعلمته من حكاياته وهو أن الخيال لا يعني تأليف شيء من العدم, أو تخيل عالم بأكمله من الفراغ, إنما الخيال هو عمق الإحساس بالتجربة المعاشة سواء عاشها المرء بنفسه أو عايشها عن كثب. إن الخيال عن الخبرة بالتفاصيل وبكيفية استخدامها ضمن نسيج كلي. وقد كانت حكايات صادق ابن عمي تبدو في أول حكي لها أشبه بالخساية العريضة النافشة. ومرة بعد مرة في ليلة بعد ليلة يتم نزع الأوراق الخارجية الشائخة الشائطة, وتأكل الليالي الأوراق الطرية, حتي لايبقي من الخساية سوي قلبها الندي الأبيض بأوراقه البرعمية الجنينية كأنه شفرة الحياة وسرها.. وكانت براعة صادق تتجلي هاهنا, بوعي فطري عبقري يمسك بقلب الخساية ويركز عليه باعتباره المغزي الأهم من الحكاية نفسها, ثم يبدأ به حكاية جديدة تعزف علي وتر نفس المغزي.. وهذا هو الخيال كما علميه. المزيد من مقالات خيري شلبي