بقول الشاعر السوداني محمد عبد الله حرسم في قصيدته حكاية السمحة بنت الأربعين داير أحكي ليكم عن جزيرة مسورة. مكسوة بي كثبان ذرة.. زي قمرة في صورة مرة.. بي صفاتها منورة, واقفة في شمس الصباح مشفوعة بالزين والعديل... مزدانة حلوة معطرة,/موكب ندي.. أحلي حنة أصادفها.. كل البيوت متلاصقة فيها ملاصقة/ نهر الضحك ما جف يوم ولا عاندت سحب المحنة الوارفة. باب الضيوف ما اتسد يوم.. بركات شيوخنا الزادو لينا المعرفة/ يوم تجي.. تلقي الكرم.. تلقي العلم/ تلقي الوزير تلقي الفقير.. تلقي المعلم والصغير/ عايشين سواء في الحلوة والشين والسمح/ عامرات قلوبهم مترفة.. كيل القمح ما كل يوم ولا شافو يوم العاصفة/ نخلات تبين.. فوق الجبين.. غرة صلاة/ ليلهم شليل.. صفقة ورقيص.. ضحكهم حلا/ فجرهم صلاة... فوق كل شينة معاك ملأ/ مكان ما تقبل ضحكة تواسي.. أي مآسي.. للزمن القاسي/ يخليك ناسي.. في ظني ان الصورة التي رسمها الشاعر في مطلع قصيدته الطويلة.. حكاية السمحة بنت الاربعين لا تختلف مطلقا عن الصور التي حفظها الوعي الجمعي المصري عن جنوب وادي النيل وأهالينا هناك.. فبعيدا عن ترسيمات الحدود السياسية والمعاهدات الدولية والاقليمية, أزعم ان أهل وادي النيل جنوبا وشمالا استشعروا بفطرتهم وعبر فنونهم التداخل التاريخي بين الحضارة السودانية التي ظهرت قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد والحضارة الفرعونية والعلاقة التي استمرت عبر القرون وسجلتها أوبريتات السينما المصرية في اربعينيات وخمسينيات القرن الماضي بأصوات شادية وفريد الأطرش وأغنية سيد خليفة الشهيرة المامبو السوداني واذاعة ركن السودان التي كانت من أهم ومن أوائل المحطات الإذاعية في الإذاعة المصرية وأشعار الفيتوري وموسم هجرة الطيب صالح وغيرها. ولكن مع ظهور قوي, و تيارات تحركها أيد خفية أو ربما معلومة !! في الوادي الممتد و مع توالي أخبار الصراعات بين أهل الجنوب والشمال في السودان ونبوءات انفصال جنوب السودان عن شماله, تباعدت الصور القديمة التي حفظتها عقولنا وترسخت في وجداننا وتكاثفت المناطق المظلمة لتغطي مساحات كانت واضحة وجلية, ليظل السؤال الذي يفرض نفسه علينا كلما باغتنا خبر جديد وارد من الجنوب أو طالعتنا أبيات من قصيدة, هو ماذا حدث في جنوب وادينا السعيد( كما كانوا يطلقون عليه ذات يوم!!)؟ يقول محمد عبد الله جرسم في مقطع من قصيدته التي سبق الإشارة اليها.. عصرية يوم.. نامت جفون لحظة غضب/ اتوسدت غصن التعب/ وما عاد صحو.. ومغربت../ والنومة طالت واتمددت/ كبت عواصف البهدلة/ دفق عليك من جار قفاك المهزلة/ وفي ذات صباح/ الشمس أبت المروق.. وأبت السحب الممطرة/ لما الوليدات سافرت... والخوازيق امطرت لتيق وكثرة جرجرة/ لما العوالم الفينا صارت سمسرة/ لما المصايب الجاتنا بعد القرقرة/ الخلاوي اتهدمت.. والمآذن دنقرت/ ماتو الشيوخ.. راح الذكر.. وصبحت صلاتنا مكسرة/ وجات الليالي المسخرة.. بالبلاوي مشفرة/ بين النخيل والأسورة/ داير أحكي ليكم قصة الحوش الكبير.. الناس الكتار/ والعيشة نار. في كلمته التي ألقاها في مؤتمر تفاعل الثقافات الافريقية الذي عقد أخيرا في المجلس الأعلي للثقافة بالقاهرة, أشار المفكر السوداني حيدر ابراهيم علي إلي أن السودان يسير سريعا نحو انفصال الجنوب وظهور المفاهيم القبلية التي تهدد بناء أوطان موحدة وتهدد البناء الثقافي في المجتمع السوداني وفي لقائنا معه وحوارنا الممتد كان سؤالنا الرئيسي ماذا حدث في جنوبالوادي؟! كيف أثرت الحرب الأهلية والصراعات القبلية وتوقيع الدستور الانتقالي في2005 واتفاقية السلام وترقب استفتاء عام2011, حول وحدة السودان أو استقلال جنوبها, علي الحركة الثقافية في السودان الشقيق؟! يقول المفكر والباحث السوداني حيدر ابراهيم الذي استمرت تغريبته خارج الوطن ثلاثين عاما انتهت بتأسيسه مركز الدراسات السودانية في القاهرة عام1992 ثم انتقال المركز للخرطوم عام.2002 ان المركز من خلال نشاطه الثقافي المتمثل حتي الان في اصدار50 دورية ربع سنوية ونشر نحو180 عنوانا عن كل ما يتعلق بالسودان ودعم النشاط الفني والثقافي من خلال الندوات واقامة الاحتفاليات الفنية والخدمات المجتمعية ودعم دور المرأة والشباب في المجتمع, يحاول ان يعيد التوازن للحياة الثقافية والاجتماعية في السودان التي شهدت ردة حقيقية خلال الاعوام العشرين الماضية مع تراجع فكرة الدولة القومية لمصلحة قيام الدولة الدينية وإعادة صياغة الانسان السوداني ليصبح ما عنده صلة بالماضي الا بمقدار ما يساعده هذا الماضي علي صياغة الحاضر الذي تقرره ايديولوجية الدولة وتواجهاتها والعمل علي تأكيد فكرة التمكين وما يستتبعها من تميز لفئات وتهميش لأخري. وعن المتغيرات التي رصدتها البحوث في شخصية السوداني والحياة الثقافية كان السؤال, فأجاب التغيير مركب.. كان الإنسان السوداني بسيطا غير متزمت منفتحا علي ثقافة العالم.. الأمر اختلف الآن لتظهر بوادر تعصب وضيق أفق ونظرة سطحية وتراجع في معدلات القراءة.. فرغم زيادة عدد السكان والمتعلمين هبط توزيع الصحف من200 ألف الي30 ألف وتقلصت الاهتمامات الثقافية والفنية وعدد السينمات ليقتصر علي عدد محدود يعرض أفلاما هندية أو موجود في بعض المراكز الثقافية. كذلك فقد تركت الحرب اثرها علي الجنوب حيث يوجد4 ملايين جنوبي مهددون بالمجاعة في هذا الموسم وواكب ذلك تراجع في عمليات التنمية وظهور طبقة برجوازية تسعي لتحقيق مصالحها, مما أدي لاستمرار الهجرات للشمال نحو الخرطوم ليعيش فيها وحولها ما يقرب من مليوني نسمة. تداعت لذاكرتي ابيات من قصيدة الخرطومية وأم درمان هما السودان للشاعر خالد مصطفي القزازي.. ببساطتكم/ اخترتم/ فوهة بركان وبقيتم/ في ضيق وجنان/ ورضيتم/ سكن اراضي الجان/ ها جاء صغير/ يلح علي/ ويشكو من ضيف يحمله/ وهموم/ فسألت يا أنت: لم تركت باديتك/ وأتيت/ سكنت/ الخرطوم؟؟ فضحك علي قولي حينا/ بحق ألا تعلم؟!! فأجبت بلا!! ثم يعدد البدوي الصغير مميزات مدينة الأحلام!! كما يصورها له خياله الي ان يسأله الشاعر. هل وجدت كل ذاك/ في الخرطوم؟! قال بحسرة الضياع/ لا!! ما وجدت غيرها السموم!!/افتقدت/ العيش في امان!! فقدت/ كل شكل للحنان!! حين جئت/ ها هنا للسودان( ويعني الخرطومين وأم درمان) فقدت كل ذلك والمكان/ نقدته بضع الف/ فانتشي/ فرحل/ وهو يدندن/ أنا سوداني أنا/ أنا سوداني أنا/ وغاب/ في/ الزحام/ و/ صمت/ عمه المكان!! أجاب عن سؤالي عن ارتباط الهجرات للشمال وعلاقاتها بالانتماءات الدينية بقوله نسبة المسيحية في الجنوب لا تتعدي5% في أحسن الأحوال, وأغلب الجنوبيين ينتمون لأديان احلالية. وقد اعتبرت اتفاقية السلام الخرطوم عاصمة قومية تتسع للجميع, بالاضافة الي ان المهاجرين من الجنوب يعيشون في تجمعات مغلقة خارج الخرطوم ولهم استقلاليتهم الكاملة وهناك حالة من التعايش وحفظ التوازن ما بين النظام وبين هذه الجماعات. وعن احياء منظومة القبيلة مقابل الدولة المدنية كان سؤالي فأجاب: أعد حاليا بحثا عن التحول من مجتمع المدينة للقبلية فهناك اتجاه لاحياء القبلية وتمكين قبائل بعينها للوصول للحكم كإحدي وسائل التمكين, بما يعني تراجع فكرة الولاء القومي التي نشطت أثناء فترات الاحتلال تأكيد الهوية السودانية القومية لصالح الولاءات القبلية ولصالح ظهور الدولة الدينية. وعما إذا كان للثقافة دور في حل هذه المعضلات كان سؤالي, فأجاب الأنشطة الثقافية خيوط تواصل مع المجتمع ولا يستطيع أي نظام مهما كان شموليا أن ينمط الناس كلهم بشكل واحد خاصة في عالم اليوم حيث الفضائيات والانترنت. وبالتالي فإن العمل الثقافي التراكمي يمكن ان يكسر الحلقة الحديدية وان يجتذب الناس ويدفعهم للتفكير والتعامل مع قضايا المواطنة والتنمية والديمقراطية وتناقضات الخلفيات الثقافية وادراك عواقب التميز والفساد انتم المصريون قلتم ان البقرة حلوب/ تحلب قنطارا. لكنه منهوب. وينتهي الحوار الذي ازاح بعضا من الظلال التي غيبت ملامح الصورة علي الأقل بالنسبة لي لتعاودني سطور معلومة كنت قد طالعتها يوما ما عن السودان الذي يعد أكبر الدول مساحة في افريقيا وعن ثرواته وامكانياته الهائلة وليتردد في أذني صدي أبيات خالد القزازي في نفس القصيدة التي سبق الإشارة اليها: اتقلب في ليلي وحدي/ أتنزه بين شواطئ الحال/ ويظل العقل في تجوال من هم كان حواه البال/ تتنزه في عقلي فكره/ وتسير ببطء قتال/ تبحث عن وطن/ معافي الحالي/ صحراء ونيل/ وأراض خصبة/ زرع ورمال وبترول/ ماشية/ وجبال/ ورحلت/ عبرت الوطن جنوب/ ووجدت بغابتنا الخضراء دماء/ ومازال العشق هناك/ قتال. [email protected]