بدوي أنت ؟! لا. أفانت زنجي ؟! لا تتوالي الأسئلة وإجابات النفي القاطعة التي صاغها الشاعر السوداني محمد عبد الحي في ديالوج شعري كاشف, ربما يدور بين شخصين احدهما افريقي, أو ربما كحوار داخلي يتردد في نفس وعقل كل من ينتمي للقارة الافريقية السمراء, لينتهي الحوار بعبارة أنا منكم.. بعد أن تهت طويلا, أنا منكم.. أغني بلسان وأصلي بلسان.. ؟ * من المؤسف أنني لم اتمكن من الحصول علي النص الكامل لقصيدة الشاعر محمد عبد الحي التي استوحي معانيها واستشهد بها الباحث والمفكر السوداني د. حيدر ابراهيم في ورقته البحثية التي قدمها في مؤتمر تفاعل الثقافات الإفريقية في عصر العولمة, الذي عقد الاسبوع الماضي في القاهرة بالمجلس الأعلي للثقافة, ذلك أن الحوار الذي صاغه الشاعر, والإجابة التي جاءت علي لسان ابن افريقيا تحمل وتبلور واقع الثقافة الإفريقية والتحديات التي تواجها القارة السمراء الآن, والأطر العلمية والعملية التي طرحتها الاوراق البحثية المقدمة للمؤتمر لمواجهتها والاستفادة من كل امكانات قارة افريقيا وطاقات ابنائها وخبيئتها السحرية التي لم تكتشف أسرارها بعد. فعبر جلسات المؤتمر التي امتدت لأربعة ايام, تجلت بوضوح إشكالية الهوية الإفريقية وكل ما يثار حولها حيث تم تناولها عبر عدد من الاوراق البحثية من أكثر من منظور, أزعم أنها قوضت الكثير من الرؤي والمفاهيم التي لطالما عشنا أسري لها وحددت مساراتنا الفكرية ورؤانا تجاه قارتنا السمراء ومشاكلها التي اختزلناها في التعددية اللغوية والاثنية والثقافية والدينية والفقر لنكرر ما جاء في كتابات وتحليلات كتبها آخرون من غير أبناء القارة ولنكرس لصور بعينها عن الافريقي وعن الحياة في افريقيا وأسباب اشتعال الصراعات الدامية في أركانها. ولا اعتقد أنني أبالغ اذ ا ما قلت إن أغلب ما يعرفه معظمنا عن أحوال قارئنا لا يتعدي قشورا سطحية معظمها مستمد من مبالغات وخيال الرجل الأبيض وأخبار رحلاته واستكشافاته. ففي إطار هذا المؤتمر فندت أكثر من ورقة بحثية كان من أهمها أوراق المفكر السوداني حيدر ابراهيم والمفكر والمحلل السياسي المصري د. مصطفي الفقي والباحث المصري د. فتحي ابو عيانه والباحث السوداني نور الدين ساتي والسنغالي عمر سوجو والمغربي شعيب حليفي وغيرهم, المنظور السلبي لحالة التعددية التي تسود القارة الافريقية في أكثر من صورة وأشاروا إلي أنها يمكن أن تتحول لأداة فعالة لتحقيق التكامل والتفاعل والتنوع والثراء الثقافي وبالتالي التنمية. وقد أشار د. مصطفي الفقي إلي تجربة الهند وبعض الدول الاسيوية التي تشابهت ظروفها مع الأوضاع في افريقيا وتجاوزت الصراعات الدينية والعرقية لتحقيق تنمية حقيقية والخروج من عنق الزجاجة. كما أوضح د. الفقي أن أهم القضايا التي تشغل الساحة السياسة الدولية اليوم والتي حددها في العولمة وصراع الحضارات والارهاب, في حقيقتها قضايا ثقافية وأن المرجعيات الثقافية باتت تتداخل مع السياسية ويتم توظيفها في الصراعات الدولية والمحلية. وأكد د. الفقي من واقع سنوات عمله بالحقل الدبلوماسي وخبراته الحياتية مع أبناء القارة, أن الحدود السياسية والاختلافات العرقية والتعددية اللغوية والدينية, لا تنف حقيقة التوافق العقلي والمزاجي للآفارقة, عموما, مما يدعم فكرة التكامل والتعايش بينهم في ظل مفهوم هوية افريقية تحترم الاختلاف والتنوع والخصوصية وتسعي للتفاعل فيما بينها. وجاءت ورقة د.حيدر ابراهيم علي,( وعلي هامش حوارنا الخاص معه الذي سنقدم تفاصيله الاسبوع القادم إن شاء الله) لتؤكد أن سؤال الهوية يعبر عن ازمة وأن الإلحاح عليه ومحاولات التكريس له لا تعني أن جذور الاختلاف والصراع ضاربة في عمق الأرض بما ينذر بتفجر حروب وتحويل الدول لأشلاء, بل يعني أن هناك أيدي خفية تحاول أن تزرع الفرقة بين أبناء الوطن الواحد وتوجد حالة من التميز والعنصرية لتصل لحالة التمكين لتحقيق مكاسب وامتيازات مادية لفئة دون أخري. وأشار د. حيدر إلي نبوءة ارنولدتوينبي التي جاءت في كتابه من النيل إلي النيجر الذي ظهر في منتصف الستينيات والتي اعتبر فيها أن السودان والنيجر ستتحولان لجسر بين الثقافات الافريقية المختلفة وسيمحوا الخط الوهمي الذي صنعه الاستعمار ليفصل ما بين شمال الصحراء الكبري وجنوبها لتعود لافريقيا شخصيتها, وأوضح أن نبوءة تونيبي فسدت بسبب الممارسات السياسية التي حولت الهوية لأزمة باتت تهدد فكرة المواطنة والدولة الديمقراطية لصالح احياء مفاهيم الانتماءات القبلية, مما أدي للوضع الحالي وظهور نبوءات ومؤشرات تشير لانفصال جنوب السودان عن شماله واستمرار الصراع الدموي في النيجر. ورغم أن عددا من أوراق المؤتمر قد رصد الحالة الدينية في افريقيا والعلاقة بين الديانات السماوية والاديان الاحيائية فيها, إلا أن هذه الاوراق في مجموعها اوضحت أن سؤال الهوية الافريقية لم يكن مرتبطا بالانتماءات الدينية. فقد أشارت د. حورية مجاهد في دراستها الاديان وتفاعلها في المجتمع الافريقي إلي أن المجتمعات التقليدية الافريقية تقوم علي مبدأ التسامح الديني, وأن الأفارقة لا يعرفون حرب الاديان, وأن دخول فرد في دين ما لا يعني استبعاده من الجماعة أو طرده من القبيلة والأسرة, وأن من يدخل دينا آخر يظل متمسكا بثقافته المتوارثة, بما يعني تفاعل الاديان السماوية مع الديانة التقليدية في المجتمع الافريقي, ويؤكد امكانية التعايش السلمي بين الثقافات المختلفة في القارة. كذلك فقد تناولت بعض الاوراق الموروث الشعبي الإفريقي والأدب الشفاهي والأدب المكتوب باللغات الاجنبية وخلصت إلي أن الادب بأنواعه أوجد جسورا بين ماضي افريقيا وحاضرها, وأن الافريقي عندما استخدم لغة المستعمر في الأدب حمل هذا الأدب بمضامينه وأشكاله الخاصة. وأوضح كوفي أندوة في ورقته رؤي ادبية لافريقيا القرن العشرين أن عددا من كتاب غانا قدموا صورة لشعب افريقي متحد ينخرط في معركة الحياة او الموت ضد الانقسام الداخلي والقوي العالمية المهيمنة سياسيا واقتصاديا.. وفي نفس السياق تناول نور الدين ساتي محاولات الاستلاب الثقافي لإيجاد انسان افريقي وفقا للمقاييس الاجتماعية والثقافية للدول التي استعمرت افريقيا ومشكلة الصراع بين موروثات الماضي وما يفرضه التطور, مشيرا إلي أن الهوية ليست كتلة صماء بكماء ذات بعد واحد وأنهاتتحد وتتباين وفقا للمستجدات. وقد شهد اليوم الثاني للمؤتمر عددا من الأوراق البحثية التي تناولت دور المرأة الافريقية في الابداع وحفظ التراث الشعبي, حيث تناولت الباحثة التونسية ربيعة ريحان المرأة في الثقافة الافريقية والباحثة المغربية حسنا لبادي حكايات المرأة المغربية التي ظلت تحكي لمئات السنين في فاس وتطوان وعكست ملامح من التراث الاندلسي, وتمثل جزءا من التراث النسائي الشعبي, له ملامحه البنائية وتيماته الخاصة, ويكشف صورة للمرأة تختلف عن الصور التي قدمها المستشرقون, كذلك فقد شهدت نفس الجلسة عرضا لمشروع النساء يكتبن افريقيا, حيث قدمت كل من د. أميرة نوير ود. سحر حمودة ود. عزة الخولي ود. نادية الخولي بحثهن المشترك الذي تم اعداده في18 عاما واللاتي رصدن من خلاله البنية الثقافية والتحولات الاجتماعية التي شكلت وعي النساء في شمال افريقيا مع نماذج من كفاح المرأة للحصول علي فرص متساوية في الحياة والمعرفة. وينتهي المؤتمر الذي نرجو أن يعقد بصورة دورية سنويا وأن يتم طبع أوراقه كاملة في كتيبات... ولكن تظل الرؤي والافكار التي تم طرحها علي مائدة البحث من أصدق ما قيل عن قارتنا السمراء... فقد جاءت الشهادة في هذه المرة علي لسان من اكتووا بنيرانها وحلموا بجنانها, فعكست كلماتهم وسطورهم عبير الأرض السمراء بكل قيمها وتناقضاتها وفتحت لنا نافذة لنطل علي عوالم وتجارب اجتماعية وثقافية مجهولة ولنستعيد أصوات تاهت بين ضجيج وصراخ غرباء وأصحاب هوي ومصالح... [email protected]