إن مصر, بعد شهور قليلة من حكم سلطة الإسلام السياسي, تتردي إلي هاوية سحيقة من بدايات الاحتراب الأهلي توجب علي جميع أبنائها الترفع عن المغانم الذاتية أوالسياسية الضيقة الأفق, وأن يتفانوا في التنافس لإنقاذها من هذه الوهدة التي قد لايتيسر منها قيام إن استعر أوار التناحر. هناك أولا تل الأرواح المزهقة وجداول الدم المسفوك أيا ما كان الانتماء السياسي أو التنظيمي لأصحابها فكلهم ابناء مصر ومواطنوها, وأرواحهم ودماؤهم حرام حرمة أبدية. ووراء كل هذه الجرائم تكمن عقلية الاستبداد والبطش بالمواطن سبيلا للتمسك بالسلطة التي تسكن السلطة الحاكمة وأدواتها كما كانت تسكن سابقتها وتلك السابقة عليها إلي حد فقدان البوصلة والعقل. فكما جلل العار السلطة الاستبدادية السابقة بكشوف العذرية البربرية وسحق المتظاهرين تحت المدرعات ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية فقد تفوقت عليه سلطة الإسلام السياسي بواقعة سحل مواطن مجرد من ثيابه ومكشوفة عورته. من أسف أن ضيع النائب العام الحالي علي نفسه فرصة إثبات استقلاله رغم تعيينه من قبل رأس السلطة التنفيذية. علي العكس, أثبت أنه نائب السلطة الحاكمة وليس ضمير الشعب كما ينبغي بمحاولته التدخل في مسار تحقيقات النيابة المكلفة في أحداث الاتحادية إلي حد النقل التعسفي للمحامي العام لنيابات شرق القاهرة الذي أفرج عن المتهمين بعد أن أعلن الرئيس أنهم اعترفوا بضلوعهم في مؤامرة وتلقيهم أموالا. ولعل الشاهد الأخطر هو تجريم شباب الكتلة السوداء بدون دليل علي الرغم من تغاضيه عن جرائم ميليشيات الإسلام السياسي عند قصر الاتحادية وفي حصار المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي. وعلي الساحة الاقتصادية نرصد تهاوي قيمة العملة الوطنية والغلاء الفاحش الناجم عن ذلك وتداعي تصنيف مصر الائتماني دوليا. وعلي الحلبة السياسية الدولية نرصد الاستقبال الفاتر لرئيس مصر, وليس يعنيني هنا شخص الدكتور محمد مرسي, في ألمانيا, الدولة المركزية في الاتحاد الأوروبي. وقد شعر الزائر بهذا الفتور بدليل محاولته التعمية عليهم بتكرار وعوده الانتخابية الجوفاء التي لم يف بها لشعبه, وبالطبع لم تنطل علي مستمعيه المراوغة المعتادة من تياره السياسي كما ظهر واضحا في بيان وزراء خارجية الدول الأوروبية الذي أبدي مخاوفا من تعثر التحول الديمقراطي في مصر, وتبعه مجلس الشيوخ الأمريكي بالاحتجاج علي استمرار المساعدات الأمريكية لمصر للسبب عينه. فهل من سبيل لتجاوز المحنة؟ نري التجاوز مستحيلا إن استمر جميع أطراف المبارزة السياسية الراهنة علي مواقفهم التي تبلورت في الشهور القليلة السابقة. وحتي إن ارتفعوا لمستوي التحدي الوطني, فلن يكون الأمر سهلا أو يتحقق سريعا. ومن هنا تظهر أهمية البدء العاجل لبناء السلم الأهلي في مصر الحبيبة. وبديهي أن المسئولية تقع في المقام الأول علي من بيدهم السلطة, خاصة وهم يقبضون علي مجامع السلطة التنفيذية والتشريعية ويسعون بجهدهم لتطويع السلطة القضائية. ولكن هذا لا ينفي وجود دور مهم لجبهة الإنقاذ الوطني وباقي القوي الوطنية. ونبدأ بالإشارة إلي المتطلبات الأربعة الأساسية التالية. 1 الترفع عن التنابذ. فقد انحط التعامل السياسي في مصر إلي مستوي غير مسبوق والابتعاد عن أدب الحوار, ومن العناد من السلطة الحاكمة, وصم جميع القوي الآذان عن مطالب القوي المنافسه وهواجسها, وتجاهل آلام الشعب الذي يدفع ثمن الاستعصاء السياسي كما يتحمل عبء الفشل الاقتصادي وتجاهل مطالب الثورة الشعبية. 2 إنهاء عنف الميليشيات والاحترام البات لحق الاحتجاج السلمي. وحذرنا مرارا من الانزلاق لجحيم الميليشيات الذي عادة ما يشكل بدايات الحرب الأهلية. وقد كان حريا بمن أرسلوا ميليشياتهم لفض التظاهر والاعتصام السلمي أمام القصر الرئاسي وقد دخلت المنطقة في تشكيلات عسكرية ثم أحرقت خيام المعتصمين وأقامت نقاط تعذيب للمتظاهرين علي أسواره سجلت بالصوت والصورة أن يعلموا أن ظهور ميليشيات منافسة ليس إلا مسألة وقت. هكذا يعلمنا تاريخ بدايات الحروب الأهلية. ويتصل بهذه المسألة ضرورة أن يحترم الجميع, لا سيما السلطة الحاكمة وأدواتها, حق التظاهر والاعتصام السلمي احتراما قاطعا باتا. بل واجب السلطة التنفيذية حمايته من أي اعتداء لا أن تحض أدواتها علي الاعتداء علي المتظاهرين والمعتصمين وتحصنها من المساءلة حين تعتدي عليهم. كما أن سلطة الإسلام السياسي تعيش علي وهم مؤداه أن من يكسب في غزوة صناديق من حقه أن يستبد بالبلد وبأهله إلي أن تحين غزوة صناديق أخري, وتسعي دوما لنشر هذا الوهم وتعميقه في الأذهان. وليس هذا من الديمقراطية الحق في شيء, فالحكم الديمقراطي السليم يجعل من حقوق التظاهر والاعتصام صمام أمان لإحدي سوءات الفشل الديمقراطي حين تصل بالانتخابات سلطة مستبدة إلي سدة الحكم. والتاريخ يذكرنا أن بعض أسوأ الحكام والأحزاب الفاشية في تاريخ البشرية انتخبوا من الشعب وانتهزوا هذه الفرصة للقضاء علي الديمقراطية وتأسيس الفاشية وحتي تهديد السلم العالمي. 3 فتح الباب لتنقيح الدستور المعيب خاصة فيما يتصل بتقليص السلطات الاستبدادية لرأس السلطة التنفيذية, وفتح أبواب خلفية للتملص من الاحترام البات للحريات الأساسية للرأي والتعبير والتجمع السلمي والتنظيم في المجتمعين المدني والسياسي, وضمان سيادة القانون واستقلال القضاء. هذا التنقيح يمكن أن يستعيد التوافق المجتمعي الواجب لدستور يدوم ويحترم والمفتقد في الدستور الحالي. وهنا تجب الإشادة بموقف حزب النور العقلاني المستنير من مراجعة الدستور وتأكيد عدم قدرة فصيل سياسي واحد علي الانفراد بالسلطة 4 التنافس النزيه والشريف في الانتخابات البرلمانية القادمة مع الدفع بأكبر عدد من الكوادر الشابة التي لم تتمتع بفرصة كافية في جميع القوي السياسية حتي الآن, بما يضمن الحيوية السياسية من ناحية والقرب من تطلعات الطبقة الشبابية وهم الغالبية الساحقة من الشعب وصانعي الثورة الشعبية العظيمة والذين لم تلق مطالبهم حتي الآن الاعتبار الواجب. وإن تحققت تلك المطالب فيمكن عندئذ التقدم إلي الهدفين الأبعد أجلا التاليين. الأول, تشكيل حكومة إنقاذ وطني تتعدي أغلبية المجلس التشريعي لتصبح جديرة بالاسم تقوم, بالتعاون مع المجلس التشريعي المنتخب, علي إعادة بناء قطاع الأمن لتصبح عقيدته وغاية أدائه أمن المواطنين; وضمان سيادة القانون واستقلال القضاء. والثاني, وضع مشروع جاد لنيل غايات الثورة في الحرية و العدالة الاجتماعية و الكرامة الإنسانية وللنهضة الإنتاجية القائمة علي تعبئة طاقات الشعب وتوظيفها بكفاءة وفق نمط إنتاج المعرفة بدلا من الاقتر اض والاستجداء وبيع الأصول الذي تنتهجه السلطة الحاكمة الراهنة. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى