كان يفرغ فينا مرارة أيامه, ويطير خفيفا إلي موعد قادم, عله يستريح قليلا من الهم والفكر, واللحظة الآسنة, فإذا ما أتانا لقيناه بالبشر, مثل لقاء اليمام لفرخ صغير يعود الي عشه بعد طول غياب. وهو لا يشتكي لا يبوح, ولكن عينيه مثقلتان. وفوق الجبين سحابة أحزانه الكاشفة, لا يمل الغوايات, يبحث في كل زاوية عن جديد, ويبقي لنا دهشة القاعدين إذا استسلموا عاجزين فلم يبرحوا, لم يطيروا كما طار, لم يشغلوا بالجديد الذي سوف يأتي, ولا قلدوه, إذا راح يبسط أوراقه الكامنة. هل شبعت ؟ نقول له هل مللت؟ ألم تصل الآن للحظة الفاصلة ؟. فيروح يحدثنا من جديد ويحلم, مازال يحلم, يملؤه الحلم, يشعر ان الحياة تمد له في الحبال, وترخي ظلالا من الأنس والأمنيات الجميلة. كم ندين له! حين كان يعلمنا حكمة لا تروق لنا, لم نكن قد نضجنا لندرك أن الذي يعتريه انبهار بهذي الحياة, وحرص علي كل ثانية أن يعيش تفاصيلها, دون إسقاطها في التراب, وأن يتذوق طعما جديدا لفاصلة تتوسط عمرين, وهي تشاغله حين تسعف, ترمي به لجنون الليالي البديلة. كان أستاذنا, حين يشرع في تحفة من كنوز بدائعه, نتمني يطيل, ويأخذنا معه لفضاء بعيد, نحلق مثل فراش تعاجله الومضة القاتلة, نحن نسقط صرعي حكاياته, ونشاوي, سكرنا بما لم نذق أو نجرب, نمصمص منا الشفاة ونأوي إذا ما أوينا الي سرر خالية.! ما الذي عادنا كي يذكرنا بالزمان القديم, وهذا الصديق الحميم وذاك البهاء المقيم, وقد بهت الوجه, وانطمس السمت, إذ خفت الصوت وامحت الصورة الفاتنة.؟ أنا ذا أرتجيه لعمر تبقي, ونحن نجرجر أقدامنا بعضنا يتلاصق في ظل بعض, ونبحث عمن يكون البديل لهذا الذي لا بديل له, فهو عصر تولي, وعمر تقضي, وميراثنا منه حسرتنا, وانتظار بليد لمعجزة لن تجيء, فكل الذي حولنا لا تشير الطوالع فيه لغير التوحد, والعزلة الباردة! فجأة راح عنا وغاب. وهو من كان يفرغ فينا مرارة أيامه, ويطير خفيفا وسرعان ما نستظل به إذ يعود, فنشكو له نحن جدب الزمان, ونسأله لحظة حانية. الرفاق العظام تواروا, مضوا واحدا واحدا, والبقية تمضي, وفي موكب الراحلين نسير, ونجتر أحزاننا القاسية. هل تعوضنا الذكريات عن القبس المتوهج في وجه من نصطفيه خليلا, ونسكنه القلب, يدفئنا باكتمال الكمال, لأنا وجدنا به توأم الروح, عطر الحياة, وبلسم أيامنا القادمة. ؟ وحدهم يعرفون بهاء الحضور, الذين ابتلوا بمذاق الغياب؟ يا تري من يعوضنا عن احبائنا الذين سري حبهم في الشرايين, وانطلقوا في الحنايا, وصاروا لنا سكنا, ومهاد مكاشفة, وجدارا به تأنس الروح للروح, والجلد للجلد, والعقل للعقل, ترتج منا الخلايا, أليفين نحلم أنا أمنا الزمان, فتقتلنا فجأة طلقة آثمة ؟ أفدح الحزن حين يكون الذي غاب عنا نديم تأس, وشاعر همس قصائده كالنسيم نجي مشاركة, ورفيق طريق, ووجه صفاء مقيم! كيف لي أن أصدق فيه الرحيل, وقد غاب عني, ومازلت أقرأ نظرته الساهمة!! المزيد من مقالات فاروق شوشة