أصبح مطلب الرقابة الدولية حاضرا قبيل كل انتخابات عربية, حيث تتسابق كثير من القوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني في الدعوة إلي جلب عدد كبير من المراقبين. إما لضمان نزاهة العملية الانتخابية أو لعدم الثقة في إجراءات الحكومات المحلية. وفي الحالتين يرتفع صوت المعارضة, مغلفا بقائمة من الأسباب تبدو منطقية. والجديد في مصر, أن هناك أصواتا خافتة داخل الحزب الوطني بدأت تميل إلي تأييد هذا الاتجاه. علي اعتبار أن الرقابة' موضة وهوجة' عالمية. ولم تعد كما يتخيل البعض ذريعة للمساس بالسيادة الوطنية. وهي أيضا دليل علي الشفافية ومتانة القواعد السياسية. كما أن مصر الرسمية والشعبية كان لها دور رقابي في عدد من الانتخابات التي شهدتها دول مجاورة في الآونة الأخيرة. وعلي أساس المعاملة بالمثل من الواجب أن توافق حكومتنا علي استقبال عدد مناسب من المراقبين في انتخابات كل من مجلس الشعب ورئاسة الجمهورية. حتي الآن, يتم طرح المسألة علي نطاق محدود, لكن مع اقتراب الانتخابات التشريعية في سبتمبر المقبل, من المرجح أن يتزايد السباق في هذا الطريق, كمدخل للضغط علي الحكومة المصرية وكوسيلة للتغطية علي العجز عن المنافسة السياسية, علي طريقة رمي الكرة في ملعب الخصم وجذب الانتباه بعيدا عن الأمراض الرئيسية. والمشكلة أن فريق المؤيدين للرقابة الدولية يتعمد تضخيم دور هذه الأداة ويتعامل معها علي أنها الضامن الوحيد لتأكيد الثقة في الانتخابات, وبدونها تموت الثقة ويتم نعي النزاهة, مع أننا نملك أعرق تجربة برلمانية في المنطقة, قبل اكتشاف جهاز الرقابة الدولية. ويتجاهل أنصار هذا الفريق الرقابة المحلية وما قامت به من أدوار مشرفة. وقد نجحت تقاريرها في كشف حالات تزوير في انتخابات مجلس الشعب عام2005, والتي تعززت بشهادات حية من قبل مواطنين, استخدموا وسائل التكنولوجيا الحديثة للتدليل علي صدق المعلومات التي جري تقديمها. وساهمت أحكام القضاء المصري بدور مهم في كشف الأخطاء وفضح التجاوزات وأبطلت( قضائيا) عضوية بعض النواب. في المقابل وفر الرافضون للرقابة بلا مناقشة, مبررات جاهزة للتشكيك في أي عملية انتخابية, في حين أن أكبر وأصغر الدول تتعامل معها علي أنها جزء من الديكور الديمقراطي الذي يعطي الانتخابات ختم البراءة دون عناء وعنوان النزاهة بلا عطاء. ومهما كان حجم ونوع المراقبين من الصعوبة أن يرصدوا التجاوزات, وهناك وسائل كثيرة وملتوية للتزوير, ولا يمكن للمراقبين أن ينتشروا في كل أنحاء الدولة وستظل أعدادهم رمزية, بشكل لا يتناسب مع عدد الدوائر الانتخابية. أما النقطة الأهم, فهي تتعلق بتزايد البعد السياسي الذي تلعبه جهات رقابية دولية. وأصبحت دعوتها كأنها حق يراد به باطل. ولنا في جارتنا السودان عبرة, فقد أثبتت الانتخابات التي جرت الشهر الماضي أن الرقابة الدولية منزوعة الدسم وفاقدة للرشادة المهنية. قصة السودان ببساطة, أنه استقبل حوالي840 مراقبا دوليا, فضلا عن الآلاف من المراقبين المحليين. وبرغم كثافة التجاوزات التي رصدتها قوي المعارضة ونشطاء المجتمع المدني هناك, إلا أن غالبية المراقبين الذين جاءوا من أوروبا وأمريكا وافريقيا.. أشادوا بعراقة التجربة وناشدوا المجتمع الدولي الاعتراف بها. وعلي خجل أقروا بأنها' لا ترقي للمعايير الدولية'. وهنا تطفو علي السطح القيمة السياسية للرقابة, فالذي يتكفل بالحكم, ايجابا أو سلبا, هو طبيعة الموقف السياسي من هذا النظام أو ذاك. وفي حالة السودان الذي يعاني مشكلات كثيرة مع جهات دولية نافذة, تكاتفت مجموعة من الأسباب والمصالح الغربية لتجعل من الانتخابات أهمية كبيرة, بصرف النظر عن درجة النزاهة, لأنها خطوة علي طريق استكمال اتفاق نيفاشا, الذي قضي بإجراء استفتاء علي تقرير مصير جنوب السودان, حظي بدعم جهات غربية متعددة, تريد تمريره في هدوء وسلام, بعيدا عن كيل اتهامات ورفع شعارات يمكن أن تضر بمستقبل الاستفتاء. علي حد قول بعض السودانيين خذلنا المراقبون وأعطوا شرعية غالية الثمن للانتخابات الأخيرة. وأثرت شهاداتهم الإيجابية علي ما جمعته بعض الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني من أدلة وبراهين تثبت شيوع التزوير, بدءا من إجراءات التسجيل وحتي إتمام العملية الانتخابية, و فقدت الرقابة الدولية بريقها المعروف, ليس فقط لأنها قدمت صك البراءة والنزاهة للحكومة السودانية, لكن لأن هذا الموقف ستكون له تبعات قاتمة علي دورها المهني, الذي خضع أكثر مما يجب للحسابات السياسية. فالرئيس الأمريكي الأسبق كارتر ومركزه ومراقبوه قدموا عبر تقاريرهم وشهاداتهم خدمات جليلة لحزب المؤتمر الوطني الحاكم. وحتي عندما حاولت بعض المنظمات الدولية تعديل موقفها, بالإشارة علي استحياء إلي بعض الأخطاء, لم يلتفت كثيرون إلي الاتهامات. الأمر الذي سيفقد هذه الأداة الرقابية جزءا من صورتها المعنوية التي بنتها من خلال نشاطها ودورها في انتخابات أجريت في بلدان مختلفة. كما أن تجربتي السودان والعراق أكدتا أن الرقابة الدولية لن تمنع حدوث تجاوزات انتخابية. لا يعني هذا الكلام عدم الثقة في جميع المراقبين الدوليين. فهناك نماذج شريفة تغلب الجانب المهني علي البعد السياسي وتؤدي دورها بنزاهة واتقان. لكن في تقديري أن هؤلاء قليلون. كما أن عددا كبيرا من العاملين في حقل الرقابة يتلقون ببراءة منحا ومساعدات من دول غربية, لديها أجندات متباينة, معلنة وخفية, بما فيها تشجيع الاصلاحات السياسية وإجراء انتخابات نزيهة وشفافة تفرز قيادات لها جذور حقيقية في الشارع, أو حتي غض الطرف عن التجاوزات من أجل إنجاح رموز وإسقاط أخري. أي أن النزاهة والتزوير وجهان لعملة واحدة في أحيان كثيرة, طالما أن النتيجة ستكون في مربع الأهداف التي تسعي إليها الدول الداعمة للمراقبين. إذا كانت الحكومة المصرية علاقتها أكثر متانة من نظيرتها السودانية, فإن الجهات الغربية المسئولة عن جانب معتبر من الرقابة الدولية, سوف تكون أشد رحمة بنا مما أظهرته من ليونة مع السودان. بالتالي بدلا من الانهماك في التلويح بهذه الورقة, علي قوي المعارضة المؤيدة لهذا الاتجاه ترتيب أوضاعها الداخلية والتركيز علي مزيد من الحريات السياسية ودعم الرقابة المحلية, حتي تكون لديها فرصة للمنافسة الحقيقية في الانتخابات التشريعية والرئاسية. وأختم بالنكتة التي شاعت في السودان عقب الانتخابات. سئل الرئيس عمر البشير عن كفارة التزوير, فقال اطعام ستين مراقبا دوليا شهرين متتابعين.